في الزمن الرديء الذي نعيش فيه و الوطن العربي يعاني من التخلف و الدول العربية تبدو كجزر متباعدة كل واحدة تغرق في مشاكلها و الشباب غارق في الجدل حول النظريات و المذاهب و الفلسفات .. و جماعات هنا و جماعات هناك لا يربطها رابط .. و تيارات .. و تيارات مضادة .. و لا حركة .. و المحصلة صفر .. تلزم وقفة .. و تلزم صرخة تنبه الكل ..

إن السفينة تغرق .. و الوقت ليس وقت جدل .. و إنما وقت عمل .. وقت إنقاذ و إسعاف .

إنقاذ لبنان قبل أن يمزقها التقسيم إلى كانتونات و تفتتها الطائفية إلى هباء .
إنقاذ الأرض في فلسطين قبل أن تختلف الفرق و المنظمات في كيف و من يحكمها ؟!
إنقاذ الاقتصاد المدين الذي استنزفته القروض بالعمل و الإنتاج .
فلا حرية لبلد لا يملك رغيفه ، و لا استقلال له و هو عاجز عن إطعام نفسه و لا قوة يدعيها و سلاحه مستعار من عدوه .

و الفهم السقيم للدين على أنه خلافات و فتن و فرق و مذاهب يجب أن ينتهي .
الدين علم و عمل و مكارم أخلاق و قيم ، و هو بهذا المعنى يساهم في إنقاذ السفينة و يجمع همة أصحابها و لا يفرقهم .. و هذه هي روح الدين و رسالته و جوهره .. و الأديان بهذا المعنى كلها واحد .. كلها محبة و رحمة و أخوة و مودة و عمل صالح .. الإسلام يقول ادفع بالتي هي أحسن السيئة .. و المسيحية تقول أحبوا أعداءكم .. فلا يمكن أن يؤدي هذا الفهم إلى ما يجري في الساحة اللبنانية من قتال بين الإثنين .

و الدين لا يحض على خطف الرهائن و لا يفجر الطائرات و لا يسوق العربات الملغومة و لا يقتل الأبرياء .. و لا يفعل ذلك إلا القتلة الذين لا دين لهم .

إن الدين الذي يصدر إلى شبابنا من كافة جبهات التطرف ليس دينا و لكنه نوع من الدنيا .. إنه وسيلة البعض إلى الزعامة و السلطة .. إنه نسخ أخرى من الخومينية التي فشلت في بلادها .. و الهستيريا الجموعية التي تدخل في باب الأمراض العصبية .

و هو تجارة جديدة رابحة للتكسب و جلب الشهرة و الزعامة لأصحابها و الدمار و البوار لنا .. و هو يقدم لشبابنا ليفرقه لا ليجمعه .. و ليثير فيه الغل و الضغينة و ليس المودة و الرحمة .. و هو لا يمت إلى إسلامنا بصلة و إن استخدم رموزه و شعاراته .

إن الذي يغرق البلاد العربية في انقسامات الشيعة و السنة و الدروز و الكتائب و الموارنة و اليمين و اليسار و الرأسمالية و الشيوعية و الملكية و الجمهورية .. هو انحطاط عقلي و تخلف حضاري و نظم عميلة و فكر مراهق و زعامات أنانية .. آن الأوان للخلاص منها جميعا دفعة واحدة .. و ذلك بيقظة و انتفاضة وعي ..

مطلوب انتفاضة شباب في الوطن العربي كله .. انتفاضة عمل و ليس انتفاضة تقذف بالحجارة .
انتفاضة ترفض الخلافات و الانقسامات .. و ترفض العنف .. و ترفض التسلط .. و ترفض البدائية .. و ترفض الغوغائية .. و ترفض هذا التفتت إلى عشرات المذاهب و النحل .

مطلوب ضغط شعبي و رأي عام يعلن احتقاره لهذه الأشياء جميعها و يدمغها و يدمغ أصحابها بالعمالة و الخيانة .
فهذه الأشياء لا تختلف عن المخدرات في تدميرها للروح البناءة .
و يجب ألا تقل حربنا عليها عن حربنا على المخدرات في تدميرها للروح البناءة .

إن قدرنا كجيل أن نحارب كل هذا الكم من الحشرات و القوارض البشرية التي ستأكل أعصابنا و أرزاقنا و عقولنا و مستقبلنا باسم الاشتراكية أحيانا و باسم الدين أحيانا و باسم الوطنية أحيانا أخرى .

و لا بد من ظهور زعامات و قيادات شبابية جديدة في كل شارع و في كل حي و في كل مدرسة و في كل جامعة تحمل لواء هذه الانتفاضة الجديدة و تعمل على فضح و مقاومة و تسخيف الانقسامات و العصبيات .

السفينة تغرق .. و لا يوجد خلاف على ما يجب عمله .
على كل منا أن يشمر عن ساعديه و يعمل بكل همته .. الزارع في حقله ، و العامل في مصنعه ، و الطبيب في مستشفاه ، و الطالب في مدرسته ، و الأم في بيتها .

علينا أن ننتج شيئا .. و نصنع شيئا .. و نبتكر شيئا .. كما ابتكرت و صنعت و أنتجت أمم غيرنا أصغر منا .. مثل كوريا الجنوبية و تايوان و اليابان .. كلها بدأت من الصفر و بعضها من تحت الصفر و وصلت إلى القمة في أقل من أربعين سنة .. ثم زاحمت العملاق الأمريكي في بلاده .

إن الإنسان بيديه و عقله هو المعجزة .
انتهت خرافة المذاهب المضللة .
انتهت الماركسية و اللينينية و الستالينية و التيتوية و الناصرية إلى الفشل و الهزيمة في داخل بلادها .
تبخرت إلى لا شيء .

أثبت الإنسان العادي البسيط الذي يعمل بهمة و إخلاص و تفان في مصنعه في اليابان و في كوريا و تايوان و يكافح في أسوأ ظروف الاحتلال و نقص الموارد و نقص الخامات و تحكم السوق و ضعف الاقتصاد .. أثبت أنه يستطيع أن يصنع معجزة ..

يا شباب الوطن العرب .. انتفضوا ..
هبوا من رقاد المائة سنة .
انفضوا عنكم تراب المذاهب المضللة و الأفكار الفارغة .. و اخرجوا من كهوف التخلف .. اخلعوا ثياب الاتكالية و الاعتمادية .. انزعوا العدسات اللاصقة التي وضعها على عيونكم الغزو الفكري .. و ليسترد كل واحد منكم هويته و تاريخه و مكانته .

تعرفوا عل أنفسكم التي ضاعت في زحام الحوادث .. و ضجيج الإعلام الموجه .. و فاترينة البضائع الاستهلاكية .. و ضغط الرأي العام الفاسد ..

قوموا قيامة رجل واحد .
فالزمن يجري بكم إلى الهاوية .. و لن يعود .
و قطار الحضارة مندفع بأقصى سرعته .. و إذا لم تجدوا مكانا في المقدمة .. فلن تجدوا أمكنة إلا في عربة البضاعة أو عربة الحيوانات .

و التذكرة لهذا القطار هي العلم و العمل و الكد و الكدح و المثابرة .
و لا وصول إلى أي محطة في المستقبل بدونها ، و لن تغني عنها أي ثرثرة مذهبية أو نظريات فارغة .

المصدر : كتاب (( قراءة للمستقبل ))
للدكتور مصطفى محمود