يحلو دائما للمفكر المادي أن يقول أن الإنسان خلق مصادفة.. من أخلاط المواد المتخمرة في طين المستنقعات منذ خمسة آلاف مليون سنة حدث بالمصادفة تفاعل أدى إلى نشأة الخلية.. و هو لا يقول لنا كيف حدث هذا التفاعل، و لا كيف حولت المصادفة الطين إلى خلية حية.. و إنما هو يقول إن هذا الأمر لابد قد حدث، و إننا لا يجب أن ندهش، فالخمسة آلاف مليون سنة زمن طويل جدا.. و لو أن قردا جلس يدق على آلة كاتبة و يلهو بأصابعه مدى خمسة آلاف مليون سنة من الزمان فإنه لابد سيحدث بالمصادفة أن يكتب بيتا لشكسبير.

حسنا.. صدقنا و آمنا أنه بمصادفة فردية لا إحكام فيها و لا تدبير تحول الطين إلى خلية حية.. و ماذا بعد؟..

إن المفكر المادي يعود فيهرش مخه ليقول إنه بمصادفة أخرى تطور الكائن الوحيد الخلية إلى كائن متعدد الخلايا.

ثم يعود فيهرش رأسه ليقول إنه بخبطة عشوائية ثالثة تفرع طريق الحياة إلى سكتين.. سكة الحياة النباتية التي اختارت النمو الثابت في الأرض.. و سكة الحياة الحيوانية التي اختارت الحركة و راحت تقتحم البر و البحر و الجو بنسلها المغامر الطموح.

ثم يعود فيهرش قفاه و يخرج بمجموعة مصادفات أخرى ليحول بها الكلاب إلى حمير، إلى خيول، إلى زراف إلى نسانيس، إلى قرود.

و هي مصادفات يخجل مؤلف سينمائي درجة ثالثة يكتب و هو مخمور فيلما لبنانيا ساقطا – أن يكتبها في روايته.

و لكن المفكر المادي الذي لا يؤمن بالخجل، و الذي يعتقد أنه حفيد بالمصادفة لجد حمار يعود فيخلق سيلا من المصادفات يحول بها الشمبانزي إلى غوريلا، و الغوريلا إلى إنسان.. ثم يفرك يديه و يتنفس الصعداء فقد انتهى من المشكلة و أثبت أن الإنسان خلق بالمصادفة و يموت بالمصادفة.

و لا أفهم لماذا لا يتركنا المفكرون الماديون نعيش اعتباطا و على مزاجنا مادمنا قد جئنا بالمصادفة و نموت بالمصادفة و مادامت الحياة من بدئها إلى نهايتها خبط عشواء في خبط عشواء.. و ليس بعدها إلا التراب.

لماذ يثيرون هذه الحروب الدموية و يضربون الناس بعضهم ببعض في معركة مذاهب لا نهاية لها؟

لماذا هذا العنف و القهر و الجبر و السحق؟

و من أجل ماذا و لا حق هناك.. إنما هي مهزلة من المصادفات جاءت بنا إلى الدنيا بدون حكمة ثم هي تقضي علينا بدون معنى.. ثم يكون الصمت و التراب و العدم بلا بعث و بلا حساب.. هكذا يقولون.. و هكذا يعتقدون.. فلماذا هذا الجنون و لماذا قتل الناس و ذبح الناس.. إذا كانت هكذا عقيدتهم؟

و لن أناقش حكاية المصادفات الساذجة، فهي لا تحتاج إلى مناقشة.

و يكفي أن ننظر إلى جناح فراش بنسجه و ألوانه و نقوشه لنعرف أننا أمام فنان مبدع و ريشة ملهمة لم تترك بقعة واحدة و لا خطا واحد للمصادفة.. و إنما هي سيمفونية رائعة من الخطوط و الألوان.

بعوضة تافهة تضع بيضها على الماء فنكتشف حينما ننظر أن كل بيضة لها كيسان للطفو..
من علم البعوضة قوانين أرشميدس لتصنع هذه الأكياس الهوائية لتعويم بيضها على الماء؟

أشجار الصحارى و هي تنثر بذورها.. فإذا لكل بذرة أجنحة..
من علم الأشجار قوانين الحمل الهوائي؟
و كيف أدركت تلك الأشجار التي بلا عقل أن على بذورها أن تقطع مئات و آلاف الأميال في الصحارى بحثا عن ماء فزودتها بهذه الأجنحة؟

من علم الكتكوت أن يدق بمنقاره على أضعف مكان في البيضة ليخرج؟

من علم الحشرات فنون التنكر فراحت تتلون بألوان بيئاتها لتختفي عن الأنظار؟

من علم النحل قوانين العمارة لتبني هذه البيوت السداسية الدقيقة الجميلة من الشمع بدون آلات حاسبة و بدون مسطرة؟

من يهدي الطيور في رحلة الهجرة السنوية من نصف الكرة الأرضية إلى نصفها الآخر بدون بوصلة و بدون رادار.. عائدة إلى أوكارها؟

و مثلها الأسماك التي تهاجر عبر المحيطات و البحار لتضع بيضها.

لماذا لا نعترف ببساطة و بدون مكابرة أن هناك خالقا. و أنه هو الذي هدى رحلة التطور من الخلية إلى الإنسان. و أنه خلق كل شيء لحكمة و خلق الإنسان لهدف!

لماذا لا نعود إلى البداهة و الفطرة السوية السليمة التي ترى الإبداع في كل شيء من الذرة إلى ورق الشجر إلى جناح الفراش، إلى الشموس و المجرات في السماء.. فنصل إلى النتيجة البسيطة.. إن مثل هذا الإبداع و مثل هذا الخلق لا يمكن أن يكون سدى.. و الإنسان لا يمكن أن يخلق عبثا ليموت عبثا.. و إنما للقصة بقية.. و للموت ما بعده..

أم أن الجد الحمار قد خلف آثاره التي لا علاج لها في أحفاده المفكرين الماديين الذين يقتتلون على الهباء و يدورون في الخواء.

المصدر : كتاب (( الشيطان يحكم ))
للدكتور مصطفى محمود