القضايا الوطنية الكبرى، وعلى رأسها قضايا العمل، بحاجة لحلول إبداعية وتكاتف عدد من الجهات لإيجاد حلول مثلى لها، وإقامة أيام مهن بشكل سنوي وتشجيع الجهات الحكومية والخاصة للمشاركة فيها بشكل فعّال
كلما جاء الحديث عن أسباب البطالة بين الخريجين الجامعيين خصوصاً يتم الحديث عن الأسباب المكررة إياها: عدم مناسبة التخصصات لسوق العمل، أو ضعف التأهيل، أو عدم إجادة اللغة الإنجليزية، أو سوء المناهج الدراسية.. وكلها أسباب باتت حجة لكل من يريد أن يبرر لنفسه عدم توظيف السعوديين، إلا أن الواقع يفند هذه الاتهامات إلى حد كبير، فهذا الشباب السعودي خريج جامعاتنا الوطنية، الذي تم وسمه بكل نقيصة، هو نفسه الذي قبلته وقبلت شهادته المحلية كبرى جامعات العالم، وسمحت له بأن يواصل دراساته العليا فيها ويحقق النجاحات بكل اقتدار. وبعض هؤلاء الشباب نجح أيضاً في الحصول على وظائف جيدة خارج الحدود سواء في العالم الغربي، أو حتى في دول الخليج، فأعتقد أنه آن الأوان لنتحدث عن أسباب أخرى لبطالة الجامعيين، ونبحث لها عن حلول.
في معرض يوم المهنة السعودي المتميز في واشنطن، والذي أقيم مصاحباً لحفل تخريج الدفعة الخامسة من برنامج الملك عبدالله للابتعاث الخارجي في أميركا والذي أقيم قبل أيام، كانت هناك جامعات سعودية حكومية وأهلية وعدد من وزارات الدولة كالداخلية والخارجية والصحة، بالإضافة إلى الشركات السعودية كأرامكو وسابك والخطوط السعودية، والشركات الأجنبية مثل BAE و سيمنز وشيفرون. وكان هناك ممثلون أيضاً من المشروعات السعودية العملاقة مثل مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، وإدارة المدن الصناعية، ومركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية. وتم الإعلان عن توفر حوالي خمسة آلاف وظيفة، في حين بلغ عدد الخريجين لهذه الدفعة ستة آلاف طالب، بعضهم مبتعث بالأصل من جهة عمله.
كان من الواضح أن هذه الجهات لديها بالفعل رغبة في التوظيف. وكانت المقابلات الشخصية تتم بسرعة وسلاسة، إذ يقوم الطالب أو الخريج بالحديث مع المندوب الذي يقدم له تعريفاً عن الوظائف المتاحة ثم يعطيه استمارة ليملأها، وبعدها ستتم مناداته لمقابلة شخصية مبدئية. وأستطيع القول إنني شاهدت عدداً من الوجوه المبتسمة بعد انتهاء هذه المقابلات. والسؤال الذي دار في ذهني وقتها: هل تقام مثل هذه المناسبة وبهذا المستوى في كافة عواصم المناطق الإدارية كل عام داخل السعودية؟ وهل يمكن أن تتكاتف جهود وزارة التعليم العالي ووزارة العمل مع القطاع الخاص لتنظيم محفل كهذا لتوظيف شباب وبنات الوطن من خريجي الداخل والخارج؟ ولو حصل ذلك، فهل يمكن أن يقلل بشكل ملحوظ من نسب البطالة السنوية؟
أحد أسباب البطالة هو عدم معرفة الخريج بالكثير من الفرص المتاحة، وعدم وجود طريقة فعالة لأرباب العمل في التواصل مع هذا الخريج، وبالتالي يبدو من الأسهل أحياناً استقدام أشخاص من الخارج لأداء مهمة في الوطن، وهو ما سيعزز الكراهية والتعصب لكل ما هو أجنبي. فقد تحدثت في يوم المهنة مع خريج ابتسم بسخرية وهو يعلق على كون ممثلي مشروع وطني كبير في الحدث من جنسية عربية بعينها قائلاً: "يا دكتورة.. هؤلاء لهم الأولوية قبلنا طبعاً..الله يهديكِ هذا واسطته أقوى من أي سعودي!". أما شابة سعودية عملت في هذا المشروع في جدة لمدة عام قبل أن تبتعث لأميركا فقالت: "غادرت وظيفتي وفي داخلي كره لكل أجنبي.. كانوا يؤدون نفس وظيفتنا بالضبط وكانوا في سننا وبلا خبرة مثلنا ولا فرق بيننا وبينهم إطلاقاً، ومع ذلك كانوا يأخذون رواتبهم باليورو والدولار ونستلم نحن راتبنا الضئيل بالريال.. كانوا يدفعون لهم حتى فواتير هواتفهم فلا يكادون يصرفون شيئاً في حين بدلاتنا محدودة.. كم كنا نحن السعوديين والسعوديات نشعر بالغبن واستقال كثير منا بعد عام".
وسألت شقيقي الذي تخرج قبل بضعة أشهر من جامعة الملك عبدالعزيز عن اليوم المهني في جامعته فسمعت منه ما لا يسر، حيث قال إن معظم الشركات لم تحضر، ومن حضروا كانوا هناك لرفع العتب، ولم يشعر أنهم جادون في توظيف الخريجين، بل متململون وبالكاد يجيبون على أي سؤال. في حين أنه في شمال المدينة أقيم يوم مهنة آخر في كلية إدارة الأعمال وكان الوضع مختلفاً تماماً، وكأن أرباب الوظائف يبحثون عن توظيف أبناء الذوات وليس عن عموم الشعب، أو يعلنون عدم رضاهم عن مخرجات التعليم الحكومي، مع العلم أن هناك نسبة لا بأس بها ممن يتوجهون للكليات الأهلية هم ممن لم تقبلهم الجامعات الحكومية بالأساس.
في بريطانيا، كانت هناك عدة مجلدات ضخمة عالية الجودة في الطباعة، تصدر سنوياً وتوزع مجاناً للطلبة في الجامعات، تحوي وصفاً دقيقاً لجل الوظائف المتاحة للشباب، سواء في قطاع الحكومة أو في القطاع الخاص. كما تقوم مراكز التوظيف في الجامعات بمساعدة الطالب أو الخريج في الحصول على وظيفة مؤقتة أو صيفية أثناء دراسته، وبالتالي بناء الخبرات في السيرة الذاتية، أو وظيفة دائمة بعد التخرج. إذ تقدم المشورة في كيفية كتابة السيرة الذاتية، وتعبئة استمارات التوظيف، واجتياز المقابلات الشخصية. وفي هذه المراكز أيضاً توضع إعلانات عن مختلف الوظائف، وكان ذلك سبباً كافياً ليزورها الطلبة باستمرار. هذا بالإضافة إلى تنظيم عدد من أيام المهن المتميزة خلال العام الواحد في كل جامعة بريطانية. وهناك أيضاً مراكز توظيف حكومية (Job Centres) في قلب كل مدينة تؤدي مهام مشابهة لكل باحث عن عمل سواء كان جامعيا أو أميا.
القضايا الوطنية الكبرى، وعلى رأسها قضية بطالة الشباب، بحاجة لحلول إبداعية وتكاتف عدد من الجهات لإيجاد حلول مثلى لها، وإقامة أيام مهن بشكل سنوي وتشجيع الجهات الحكومية والخاصة للمشاركة فيها بشكل فعّال، وإيجاد مراكز للمساعدة على التوظيف في كل جامعة ومدينة هي أمثلة على هذه الحلول، وأن يتم ذلك بالتوازي مع خطط إصلاح التعليم العام وتطوير التعليم الجامعي. فالإنسان هو من يبني الوطن ويصنع الحضارة، أما الثروات الطبيعية فهي الأدوات التي يستخدمها والعوامل المساعدة له في مشروعه لإعمار هذه الأرض.