من على ارتفاع شاهق يبدو كل الناس مثل بعض..
يبدون كالنمل.. سحنتهم واحدة.. وهيكلهم واحد.. مجرّد نقط تندفع في اتجاهات متعددة.

وإذا صعدت إلى أعلى برج في القاهرة ثم نظرت إلى الناس تحت فإنك سوف تراهم مجرد نقط.. مجرد كرات تتدحرج على أديم الأرض ككرات البلياردو.. وستبدو عربات المرسيدس الفارهة كطوابير من الصرارصير اللامعة..

إن الأمور تختلف كثيراً حينما ننظر إليها من بعيد.. إنها تتضاءل وتتشابه وتصبح ذات سحنة واحدة.. وتصبح تافهة مثيرة للدهشة والتساؤل..

إنك تتعجب وأنت فوق في علوّك الشاهق تنظر إلى الصرصار الصغير المرسيدس.. وتسأل نفسك.. أهذا هو الشيء الذي كنت طول عمرك تحلم بأن تقتنيه؟!

من أجل هذا الصرصار يحدث أحياناً أن يرتكب رجل عاقل جريمة، فيسرق ويقتل ليجمع بضع جنيهات يشتري بها هذا الصرصار؟! من أجل أن يكون وجيهاً أنيقاً؟..

ولكن لا يبدو أن هناك فارقاً بين الأناقة والبهدلة من هذا الارتفاع الشاهق.. إن كل الثياب تبدو واحدة من فوق..

أجمل النساء تبدو كأقبح النساء.. الوجوه الفاتنة والقبيحة تبدو من فوق كوجوه الدجاج.. لا فرق بين ملامح دجاجة وملامح دجاجة أخرى.. لا تبدو غمزة العين ولا هزة الحاجب ولا بسمة الشفتين.. وكل ما يبدو هما ثقبان مكان العينين وثقب مكان الفم.. ولا شيء غير هذا..

كل مخلوق من هذه المخلوقات التي تهرول تحت.. له ثلاثة ثقوب في وجهه ومنقار صغير هو أنفه.. وكل واحد يجري ويدفع الآخر أمامه.. ويدفعه آخر من خلفه.. وأنت تتساءل.. على إيه.. على إيه.. بيجري ليه الراجل ده.. مستعجل ليه.. عاوز إيه؟

والحكاية كلها تبدو لك من فوق حكاية مضحكة غير مفهومة.. وقد تنسى بعض الوقت أنك كنت منذ لحظة تهرول في الشارع مثل هؤلاء الناس وتجري وتدفع الناس أمامك وتصرخ في سائق التاكسي أن يسرع بك..

هذا الحماس الذي كان يبدو لك وأنت تحت في الشارع تعيش في وهمك.. هذا الحماس الذي كان يبدو لك حينذاك معقولا.. يبدو لك الآن من بعيد مضحكاً مثيراً للدهشة..

وعلى إيه.. على إيه كل الجري ده.. عشان واحد يسبق التاني.. يسبقه يروح فين.. حا يأخذ إيه بعد جريه، ولا حاجة.. كله محصّل بعضه..

وقد تدبّ خناقة بين اثنين تحت ويتجمّع الناس كما يتجمّع النمل حول ذرة تراب غريبة.. وتنظر أنت من فوق فتبدو لك الخناقة منظراً غريباً، ويبدو لك الموقف مشحوناً بحماس غير مفهوم.. بحماس طائش أبله ليست له دوافع طبيعية..

لماذا يقتل رجل رجلا آخر ويزاحمه في شبر صغير من الأرض يقف فيه مع أن الدنيا أمامه واسعة..

والدنيا تبدو لك من فوق واسعة.. واسعة جداً.. تبدو لك أوسع من أن يتقاتل اثنان على شبر صغير فيها..

إنك تكتشف سخافة الشبر.. وسخافة الناس.. وسخافة السرعة.. وسخافة الآلة..

إن هذا الشبر موضع التنافس والتقاتل يبدو لك تافهاً لا قيمة له..

إنك تسأل نفسك لأول مرة.. لماذا كل هذا الجري؟!

وتتفتح حواسك على آفاق رحبة تخرجك من سجن أنانيتك وصغار حياتك فتبدو لك اهتماماتك الصغيرة هيافة لا تستحق العناء..

وهناك لحظات تستطيع أن تتحقق فيها من هذه الهيافة بدون أن تصعد على برج القاهرة وتنظر إلى الناس تحت..

هناك لحظات نادرة تستطيع أن تخلع فيها نفسك من مشكلاتك التي تضيق عليك الخناق وتحصرك في رقعة ضيقة هي مصلحتك.. وتنظر إلى روحك كأنك تنظر إليها من فوق دون أن تصعد إلى فوق فعلا.. وتنظر متأملا متعجباً.. وتتساءل مندهشاً..

ولماذا كان كل هذا الاندفاع.. لماذا كان هذا الحماس والتهوّر على لا شيء..

وليه عملت كده.. كنت محموق على إيه.. إيه اللي خلاني أعمل كل اللي عملته.. إيه اللي خلاني أتخانق وأفقد صوابي..

وفي هذه اللحظات الخاطفة تفيق إلى نفسك.. وتتجلى عليك رؤية واسعة لحياتك وتتسع أمامك شاشة واقعك فتصبح شاشة بانورامية.. سينما سكوب.. وتسترد قدرتك على الحكم الدقيق العاقل.. تسترد قدرتك على الإمساك بفراملك والسيطرة على حياتك لأنك ترى ظروفك كلها دفعة واحدة وترى معها ظروف غيرك وظروف الدنيا فتتضائل مشكلتك وتصبح تافهة..

وأنا عيبي.. وربما ميزتي.. لست أدري بالضبط.. أني اكتشفت هذه الحكاية من زمان وجربتها وتلذذت بها فقررت أن أقضي أغلب حياتي فوق.. في هذا البرج الذي طار من عقلي.. أتأمل نفسي وأنا ألعب تحت الأرض.. وأفهم نفسي أكثر.. وأتعقل حياتي أكثر..

وكانت النتيجة أني نسيت اللعب.. وتحولت إلى متفرج مزمن.. جالس طول الوقت فوق.. في منصة الحكم.. ونسيت أن الصعود إلى برج المراقبة هذا لا يكون إلا لحظات خاطفة.. نصلح فيها هندامنا.. ونصلح نفوسنا.. ثم ننزل بعدها لنستأنف اللعب..

وأدمنت على الجلوس فوق.. والنظر من فوق حيث يبدو كل شيء صغيراً..

وجاء العيد..

وسمعت صوت البمب تحت نافذتي.. وشعرت أن كل واحد يلعب ويجري ويكركر بالضحك إلا أنا.. جالس وحدي كالغراب في برج عقلي الذي طار..

وشعرت بالثورة على هذه الوظيفة اللعينة التي اخترتها..
هذه الوظيفة التي تحرمني من اللعب وتحرمني من بهجة الحماقة ولذة التهوّر..

وقررت أن أتهور وألعب وأجري.. وأستمتع بالعيد مثل العيال..

وملأت جيبي بالبمب.. وسرت أطرقعه باليمين وبالشمال..

ثم ذهبت إلى روف جاردن لأشرب كوباً من البيرة، مثل أي شاب أحمق..

وكان الروف جاردن في الدور السادس عشر من عمارة عالية.. كناطحة سحاب..

ولذ لي أن أنظر من فوق.. إلى الدنيا تحت.. فماذا كانت النتيجة..

كانت النتيجة أني رأيت الناس تحت يبدون كالنمل.. سحنتهم واحدة.. وهياكلهم واحدة.. مجرد نقط تتدافع في اتجاهات متعدة..

ونسيت كوب البيرة ونسيت اللذة الحمقاء التي جئت من أجلها.. ونسيت العيد.. ونسيت اللعب..

وبدت لي كل هذه الأشياء صغيرة تافهة..

واقرءوا معي المقال من الأول..

( بتصرف )

المصدر: كتاب (( الأحلام ))
للدكتور مصطفى محمود