[RTL][/RTL]المبحث السادس: الإدارة الدولية في ثلاثة نسق فرعية
[INTERNATIONAL MANAGEMENT IN THREE SUB-SYSTEMS]

تمهيد:
من أجل فهم طبيعة الخلاف والتعاون الاقتصادي الدولي وإدارتهما بشكل أفضل،هذا المبحث سيناقش الإدارة الدولية في ثلاثة نسق فرعية[IN THREE SUBSYSTEMS]للنسق الاقتصادي الأوسع والأشمل:
النسق الغربي للاعتماد المتبادل[INTERDEPENDENCE]،النسق جنوب شمال للتبعية[DEPENDENCE]،والنسق شرق-غرب للاستقلال(قبل انهيار وتفكك الكتلة الشرقية).
هذا التصميم لصورة الاقتصاد الدولي، علي هذا النحو ، هو عبارة عن تخطيط ورسم اصطناعي تحكمي،لأن التفاعل والمشاكل تتخطي وتتداخل وتتشابك[OVERLAP] من والي كل النسق الفرعية في العالم الواقعي.وعلي الرغم من، أن الإنبثاقات والمشاكل السياسية ،تختلف من حيث طبيعتها في أي من هذه النسق الثلاث،إلا أن مناقشة كل منها علي حدة تمكننا وتسمح لنا بالتركيز علي تلك الانبثاقات والمشاكل المختلفة..ولكي نفهم العلاقات الدولية الحالية،يتعين علينا أن نقتفي أثر مواقف المجموعات الدولية الثلاث،التي شكلت أضلاع مثلث النسق الدولي أثناء فترة الحرب الباردة،وهي: مجموعة الدول الغربية ،و مجموعة الدول الشرقية، ومجموعة الدول المستقلة حديثا-الجنوب حاليا. ونأمل من هذه المناقشات أن تقوي وتدعم و تعزز[ENHANCE] قدرتنا علي فهم طبيعة وعمل هذه النسق.

المطلب الأول :النسق الفرعي الأول : النسق الغربي للاعتماد المتبادل[INTERDEPENDENCE]

الولايات المتحدة،هي الدولة القوية التي قادت هذا النسق،ولعبت دورا كبيرا في توجيه السياسة الدولية إلى الوجهة التي تراها، وكان لها ما أرادت.لأنها كانت تتمتع بالمال والنفوذ،وتساهم بنسبة40% من ميزانية الأمم المتحدة،المنظمة التي لها حق التدخل في شؤون الدول الأخري،مما جعل الولايات المتحدة تنفذ سياستها المنحازة في كثير من الأحيان تحت غطاء المنظمة الدولية.هذا ولأن الغرب في مجموعه كان يساهم بنسبة 75%من ميزانية المنظمة،فان ذلك جعل الولايات المتحدة تتمتع بغطاء شرعي لاعلان وتنفيذ سياساتها لأنها تمول المنظمة الدولية الشرعية لحفظ السلام بثلاثة أرباع ميزانيتها.
وكيفما كان ذلك،فان النسق الغربي هو الذي يتضمن أو يشمل اقتصادات السوق المتطور لأمريكا الشمالية ، وأوربا الغربية ،واليابان . هذه الدول ثرية ،متطورة جدا ،ورأسمالية ،مؤيدة للرأسمالية [CAPITALISTIC] لها تفاعلها الاقتصادي الدولي الأعظم مع بعضها البعض ، ومتورطة مع بعضها البعض في نسق كثيف للتفاعل الاقتصادي المتبادل.
هذا النسق للتفاعل المتبادل هو مشكل الإدارة الرئيسي للنسق الغربي، منذ الحرب العالمية الثانية برز هناك تزايد كبير في تفاعل المجال المالي والنقدي الذي سببه الاستعمال العالمي المشترك للدولار الأمريكي ،والنتائج النقدية للشركات المتعددة الجنسيات ، وتدويل المؤسسات المالية ، وإنشاء أسواق العملة الأوربية والميثاق الأوربي [EUROBOND] (التعهد أو الالتزام) .وكان هناك توسع في التجارة الدولية يرجع إلي النمو الاقتصادي ولبرلة (ليبرالية) التجارة وتراجع تكاليف النقل والمواصلات ، واتساع أفق (رجال) الأعمال .أما التوسع الرئيسي في تجارة العالم ، في فترة ما بعد الحرب فكان سببه هو اقتصادات السوق المتطورة من جهة . ومن جهة أخري ،زاد تكثيف وتوسيع التفاعل بواسطة تدويل الإنتاج ،والتسويق علي نطاق دولي.
هذه الأشكال وأشكال أخري لتوسيع التفاعل أفضت إلي درجة هامة من الاعتماد المتبادل الذي يعني أن الفاعلين الدوليين أو الإجراءات في جزء من النسق كان لها القدرة علي التأثير في فاعلين أو أحداث في جزء آخر منه.لذلك ،فإن السياسة الاقتصادية في بلد معين أو أحداث معينة ، تصبح حساسة باستمرار للسياسات الاقتصادية و الأحداث أو التطورات لأعضاء آخرين من النسق السياسة النقدية والتجارية . وسياسة الاستثمار في بلد ما في النسق الغربي الآن ،لها تأثير علي السياسات النقدية والتجارية ، والاستثمارية في بلدان أخري في النسق .لذلك ففي أي وقت عندما تبحث الحكومات وتسعي لرقابة أكثر علي اقتصادياتها الوطنية تكتشف هذه الحكومات أن اقتصادياتها مفتوحة أكثر فأكثر وعرضة للتأثير الخارجي . ويلاحظ هنا أن بعض البلدان الغربية تكون حساسة أكثر فأكثر للتأثير من غيرها من البلدان الأخرى.
الولايات المتحدة خاصة استطاعت أن تراقب تأثير الاعتماد المتبادل ، أفضل من بعض الأمم الأخرى التي حاولت جاهدة القيام بذلك ولم تفلح ،فيما فلحت فيه الولايات المتحدة جزئيا بسبب المظهر الدولي للاقتصاد الأمريكي ، وجزئيا بسبب القوة الاقتصادية الأمريكية.
علي الرغم من، المشاركة في الازدهار الاقتصادي ،فإن الاعتماد المتبادل خلق مشاكل سياسية وجعلها تطفو علي السطح .ببساطة ، نجد أن الاعتماد المتبادل قد نمي بسرعة أكبر من وسائل إدارته وتنظيمه ،فظهر ذلك علي أنه مشكل حقيقي ، علي اثر أو في أعقاب تطبيق وتنفيذ سياسة الاعتماد المتبادل مثل هل توجد هناك وسائل فعالة لتسيير العلاقات الاقتصادية الدولية،من منظور الدولة الواحدة؟هل الاعتماد المتبادل يتسبب في التدخل في شؤون السياسة الداخلية ؟وهل في استطاعة الأمة مراقبة اقتصادها؟ .حقا هذا التفاعل الأكبر ،كان يزيد من قلق العضو في هذه العلاقات الإعتمادية المتبادلة حيث يتعين علي متخذي القرارات الوطنية التغلب عليه ،لأن الأشياء المقلقة تنبع ليس فقط من داخل الاقتصاد، لكن أيضا من خارجه .الاعتماد المتبادل أيضا ،كان يخلق قوى تتدخل في الإجراءات التقليدية للسياسة الاقتصادية الوطنية .هذا الإضعاف للإجراءات السياسية ، يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في فترة دولة الرفاهية عندما تكون الحكومات الوطنية أكثر رغبة في وتواقة إلي مراقبة اقتصاداتها الوطنية .لذلك فإن الاعتماد المتبادل يضعف الإدارة الوطنية .
وهناك تعقيدات أخري التي تكثف أو تعمق الورطة التي يضع الاعتماد المتبادل الدول المتطورة فيها ،لأن اقتصاديات الأمم الغربية لا تجري بطريقة مرنة .التضخيم ،ونمو اقتصادي بطئ ونظر [ SLUGGISH] وفي أوقات متكررة راكد، ومعدلات بطالة عالية ،كما تلعن بعض الدول الرأسمالية المتقدمة .
وعندما نستعين بآراء الاقتصاديين وصانعي السياسة، فيما يتعلق بكيف يجيبون بطرق أفضل، علي حل هذه المشاكل،فإننا نجد أن الإجماع علي السياسات الاقتصادية الكينزية التي قادت (أو وجهت) التوسع الغربي الكبير، بعد الحرب العالمية الثانية، يتحتت [ERODING] .وبالتالي فان نفعية أو منفعة الحكومات التدخلية، تتطلب سياسات إدارية تناقش هذه الأمور باستمرار، بجانب الحقائق النقدية الممكنة ،وما يطلق عليه [ الاقتصاد ذو جانب-العرض ،بالإنجليزية: -SIDE ECONOMICSTHE SO C ALLED SUPPLY] ...
باختصار، يجب علي القادة الغربيين مواجهة المشاكل التي يخلقها الاعتماد المتبادل لاقتصادياتهم ، عندما يظهر أن مستقبل هذه الاقتصاديات غير مؤكد .تحت هذه الشروط (الظروف) يمكن أن يجد القادة صعوبة في الإجابة بقوة وفاعلية، لتحدي النتائج السلبية للاعتماد المتبادل .
يمكن للسياسيات أن تسهل الأمور ،عند ما تبحث الحكومات عن إجابات لحل هذه ،لأن تعقد المسائل أو القضايا الاقتصادية الداخلية، إلي جانب المشاكل التي يضعها الاعتماد المتبادل قد تؤدي إلى زيادة وتعميق الشرخ الاقتصادي الدولي.
ومهما يكن فان ،القادة الباحثين عن دواء شاف للأزمات الداخلية في بلدانهم ، يمكنهم أن يديروا دفة القوة في اتجاه نحو الحلول الوطنية.إلى جانب التقليل من الاتصالات الاقتصادية الدولية التي تصعب من مهامهم وواجباتهم .في نفس الوقت ،نجد أن ، الإدارة الدولية إدارة غير مؤهلة [INADEQUATE]. والهياكل الحالية والقادة الحاليين غير كفؤيين ،لكي تحصل منهم استجابة إلي/ أو رد فعل علي التوعك والانزعاج ،الذي أصبحت تعاني منه الرأسمالية المتقدمة، أو مراقبة الاعتماد المتبادل .لذلك كان النسق الاقتصادي الدولي الغربي يبدو وكأنه أصبح عند مفترق طرق ،كما يؤكد ذلك أحد المحللين :
’’البلدان المتقدمة ذات اقتصاد السوق،تصل الآن إلي نقطة أين يواجد اختيار أساسي أو قاعدي :إما التحرك إلي الأمام، إلي أشكال جديدة للإدارة الجماعية للمشاكل التي لا يستطيعون حلها علي انفراد، أو الضغط علي فرامل نمو الاعتماد المتبادل، وبواسطة اجراءات تحكمية أكثر أو أقل لوضع المشاكل مرة أخري في نطاق مجال المراقبة الوطنية‘‘.


المطلب الثاني :النسق الفرعي الثاني: النسق جنوب شمال للتبعية[DEPENDENCE


لم يؤد الاستقطاب الدولي ،بعد الحرب العالمية الثانية،إلى نشوب الحرب الباردة بين الغرب والشرق،فحسب بل أدي أيضا،إلى خلق تجمع دولي ثالث،هذا التجمع لم يجد أية مصلحة في أن يكون طرفا في أي من التجمعين اللذين سبقاه في الظهور .ومما لاشك فيه ،كانت المنظمة الدولية هي المنبر الرئيسي لبروز تكتل الدول المستقلة حديثا ،لعرض وطرح مشاكلها أمام العالم كله.
لذلك، فالنسق الفرعي الثاني للتفاعل الاقتصادي الدولي، هو النسق جنوب شمال للعلاقات بين اقتصاديات السوق المتطورة واقتصادات دول العالم الثالث الأقل تطورا من الناحية الاقتصادية كإفريقيا، وأسيا وأمريكا اللاتينية.ليس مثل النسق الغربي ،الذي كان يتكون تقريبا من فعاليين دوليين متشابهين ومتساويين نسبيا .نسق العلاقات جنوب-شمال يعتبر نسقا للتنوع واللاتساوى ،بين بلدان الشمال و بلدان الجنوب، خاصة فيما يتعلق بمعيار الدخل الوطني الإجمالي لكل فرد . ففي سنة 1981 نجد أن ،اقتصادات دول السوق المتطورة، كان لها حوالي 8,855$ لكل فرد من الناتج الوطني الإجمالي ، فأن البلدان الغير متطورة كان لها حوالي772$ لكل فرد من الناتج الوطني الجمالي.
هناك أيضا عدم تساوي في النمو السنوي لنصيب كل فرد أو شخص ،بين الشمال والجنوب، وفيما بين بلدان الجنوب نفسها. نجد أن نصيب الفرد من الدخل الوطني من الناتج العالمي الاجمالي أثناء العقود الزمنية بين 1960و1970و1970و1980 لا فقرPOOREST44 أمة قد [نما بمعدل سنوي مقداره 6.1 % فقط و 2.4% بالتتالي . وخلال نفس هذه الفترات نجد أن نصيب الفرد من الناتج الإجمالي للدول الصناعية قد نما بمعدل 3,6% و2,4% .أما في باقي الدول النامية التي صنفها البنك الدولي بأنها بلدان ذات دخل متوسط [MIDDLE INCOME]، في الواقع ،فان نصيب الفرد فيها من الناتج الوطني الإجمالي،قد نما بسرعة أكبر من معدل الشمال بنسبة سنوية قدرت ب 3,5% و3,1% أثناء ال1970 وبدايات 1990 بالتتالي. مع ملاحظة أن بعض أمم العالم الثالث، كان يشار إليها أحيانا بأنها [بلدان صناعية جديدةlatest industrialized countries ] لأنها كانت تتمتع بمعدل نمو مرتفع و استثنائي.ولأن نصيب الفرد فيها من الناتج الإجمالي ، قد نما بمعدل معتبر بنسبة6,0% من 1960إلي 1982 .وكيفما كان ذلك النمو ، فان كثيرا من البلدان النامية كانت تبدوا وكأن وضعياتها صارت تتحسن في الدخل. لكن وفي حالات عديدة ،بقيت الهوة تتسع بين دول الشمال و بلدان الجنوب.
بلا مواربة أو أدني شك ،فان المشكل الرئيسي لهذا النسق هو ظاهرة التبعية. في حين نجد أن، حالةالاعتماد المتبادل تكون الحساسية فيها متبادلة بين الدول ،أما في حالة التبعية فانها تعني تفاعل اقتصادي متبادل غير متساو بصورة مرتفعة ،كذلك نجد أن الحساسية هي الأخري تكون غير متساوية بشكل مذهل .تطهر التبعية عندما يكون لبلد جنوبي مستوي رفيع من التفاعل الاقتصادي مع دولة شمالية، وعندما يكون ذلك التفاعل له أهمية كبري بالنسبة للاقتصاد الوطني، وبالتالي فان البلد الجنوبي سيتأثر بفاعلين [ACTORS] أو أحداث في دولة شمالية . البلد الشمالي ،من جهة أخري ،ليس له مستوى عال أو تفاعل اقتصادي ذو أهمية نوعية مع الدولة الجنوبية ،وهو (أي البلد الشمالي) لا يتأثر بفاعلين أو أحداث في البلد الجنوبي.
وكيفما كان ذلك، فان الاعتماد المتبادل هو علاقة متماثلة متناسقة نسبيا[SYMMETRICAL] ،والتبعية هي علاقة غير متماثلة وغير متناسقة .التبعية دائما، تأخذ اما شكلا واحد أو تأخذ عدة أشكال .يمكن أن تكون تبعية تجارية[TRADE DEPENDENCY] لأن معظم البلدان الجنوبية يحصلون علي نسبة كبيرة من عائدات انتاجاتهم الوطنية الإجمالية من التجارة مع البلدان الشمالية. ولأن معظم بلدان العالم الثالث لها سوق داخلية صغيرة، فهي تعتمد علي الأسواق الشمالية من أجل تصريف (أو بيع) منتجاتها . لذلك فهي حساسة لطلب الشمال وهذا ما يؤثر بشكل محسوس في مبادلاتهم التجارية الدولية.
أبعد من ذلك،فان نسبة كبيرة من صادرات الدول الجنوبية تتركز أحيانا في منتج أول واحد أو عدد قليل منه الشئ الذي يقوي الحساسية للطلب الأجنبي، عن طريق جعل البلد في غير مأمن من التذبذبات في طلب المنتج الرئيسي . أيضا ،هناك نسبة عريضة من تجارة البلدان الجنوبية توجه أحيانا إلي سوق شمالي خاص (بعينه) .الذي مرة أخري ، يؤكد و يبرز حساسية البائعين وعدم مأمنهم من شروط الطلب أو ظروفه لتلك السوق الفريدة من نوعها .وبالرغم من محيط التبعية التي تعيش فيه البلدان الجنوبية الا أنه قد تتواجد بها بعض، قطاعات التصدير القوية، التي تتمثل في بعض المنتجات مثل الصلب، والقماش التي تفت عضد المجهودات التي تتوخي بعض التقدم المتعثر . لأن الصناعات القوية أساسا توجد في الشمال. التبعية التجارية ،إذن ، تتميز بتبعية الاقتصاد الجنوبي واعتماده علي التجارة مع الشمال، وبالمستويات المرتفعة للحساسية للعوامل التي تؤثر علي التجارة بين الشمال والجنوب .
والشكل الثاني للتبعية هو في مجال الاستثمار .لأن نسبة كبيرة من الاحتياطي المحلي للاستثمار في بلدان العالم الثالث مملوك أحيانا من قبل المستثمرين الشماليين. ويرغب المستثمرون الخارجيون دائما في السيطرة علي القطاعات الرئيسية للإنتاج ومراقبتها، خاصة قطاع إنتاج المواد الخام[RAW MATERIAL PRODUCTION]،صناعة التصدير ،القطاعات الاقتصادية الفعالة،الاستثمار الجديد.
شكل ثالث للتبعية هو التبعية المالية.في بعض الحالات كان المثال الصارخ هو منطقة الفرنك الفرنسي[THE FRANC ZONE]-عملة البلد الجنوبي التابع مرتبطة مباشرة بعملة البلد الشمالي المهيمن،وعن طريق هذه الوسيلة تستطيع أن تدير أو تؤثر تأثيرا بالغا في السياسة النقدية الداخلية والخارجية الخاصة بالبلد الجنوبي.
وتظهر التبعية المالية عندما يكون ذلك البلد المتخلف يعاني من وجود صعوبات في ميزان مدفوعاته مما يظطره للجوء الي الاعتماد علي المساعدات الخارجية بغية تصحيح موازين مدفوعته عن طريق صندوق النقد الدولي.الجهاز الذي يصبح بعد ذلك هو الجهة التي تحتفظ بحق مساعدة البلد المعني في تحديد سياسته الاقتصادية الداخلية والخارجية.
عدد معتبر من البلدان المتخلفة ،في سبعينات القرن الماضي واجهت فواتير بترولية كبيرة جدا، مما قادها الي محاولة تحاشي القيود الموضوعة من طرف صندوق النقد الدولي، وذلك بالتوجه بطلباتها مباشرة الي البنوك التجارية الخاصة لتمويل موازين مدفوعاتها .لكن هذا التصرف ازدادت معه حدة مديونية[INDEBTEDNESS] العالم الثالث أو مدينيته لهذه للبنوك التجارية الخاصة ،التي وصلت دائنيتها لبعض الدول في عام 1982 الي ما ينيف عن[$ 346Billion] بليون دولار. وهي مؤشر آخر لتبعية الجنوب المالية للشمال.
المساعدة أيضا تخلق التبعية؛لأن المساعدة الاقتصادية الخارجية لبلدان الجنوب تتركز في غالب الأحيان علي مصدر شمالي واحد .وهذه الصفة تسمح بالتلاعب لأن هذا التصرف قد يأخذ مجراه(مع وجود المضاربة والتصرف المناور وبخاصة بأساليب وطرق غير قويمة و غير شريفة).أما الادارة وصنع واتخاذ القرار فيصبح أمرهما خارج متناول يدالبلد الذي يتلقي المساعدات ان كانت مشروطة .أبعد من ذلك،يمكن للمساعدة أن تعزز هيمنة تجارة واستثمار البلدان الشمالية.
هذه التبعيات -التجارية والاستثمارية والنقدية ’’والمساعداتية‘‘ عادة ما تعزز بأصناف أخري من العلاقات كالروابط الثقافية ،والمعاهدات والأحلاف ،وغيرها من الروابط السياسية الغير رسمة .ويمكن أيضا أن تعزز بوروابط عسكرية تتراوح من المساعدة العسكرية إلي التدخل العسكري. بمعان سياسية ،نجد أن البلد الجنوبي التابع ، معرض في الصميم لادارة شؤونه من قبل الدول الشمالية المهيمنة .المثال الأكثر وضوحا هو أن ادارة الدول المتأخرة (الأقل نموا) كانت تستوطن في المؤسسات الاقتصادية العظمي للشمال مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للانشاء والتعمير، والاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة، والمؤسسات التي أنشأتها الدول الصناعية المتقدمة ،التي تعكس تأثيرات قوتها المهيمنة .
بالمعني الواسع ،نجد أن القرارات الاقتصادية للدول الشمالية المتقدمة، كانت تؤثر علي أنماط وعمليات التنمية الاقتصادية للبلدان الجنوبية التابعة لكيلا ينفرط عقد التبعية للشمال،وبهذا الصدد فان السياسات الزراعية ،والتجارية، والنقديةللبلدان الشمالية تؤثر بطريق مباشر علي مثيلاتها من سياسات الدول الجنوبية . لذلك نجد أن البلدان الأقل تطورا [THE LESS DEVELOPED COUNTRIES] تشعر بالغبن بأن النسق الدولي غيرشرعي [ ILLEGITIMATE] ،لأنهم ليس لهم فيه مداخل لصنع واتخاذ القرار، ولأنهم أقصوا من تسيير شؤونه.
هذا البناء السياسي للنسق الدولي ،يعني أيضا أن القرارات التسييرية التي تصنع وتتخذ بواسطة البلدان الشمالية تعكس فقط مصالح ،ورغبات، وأهداف الشمال،ولا تعكس مصالح ،ورغبات، وأهداف البلدان الجنوبية. وهذا يضيف بعدا آخر لتبعية الشعور الذي يتحسسه قادة وشعوب البلدان النامية .وأنها وصلت الي حلبة التعاون والصراع متأخرة ،وهي الآن لا تشارك في الإدارة فقط ،بل ولا تشترك أيضا في موارد وفوائد النسق الدولي الذي ظهر الي الوجود في غيابها .، وبالتالي وجود هذا النسق يسرق منها الكثير، ويخلد حالة التبعية كامر واقع.أي أن تأثير التبعية يظهر كتخليد للتبعية والتخلف. لذلك ، فإن من مصلحة البلدان المتخلفة :الاشتراك في إدارة النسق. ومن ثم يصبح هو الوسيلةالتي تستفيد منها إلي حد ما .لأن هدفها الرئيسي هو تغيير نسق التبعية .
وعندما حلت بداية 1974 ،ومصادفة مع شروع نسق بريتون وودز في التحلل ، واكتشاف بعض بلدان الجنوب لفعالية سلاح النفط، بدات الدول المتخلفة تركز وتولي العناية بمجهود التفاوض ،من أجل انشاء نظام دولي جديد يكون أكثر عدلا وانصافا . بالنتيجة ، تقدم الجنوب باقتراحات شاملة [comprehensive] للقواعد التي تحكم العلاقات الاقتصادية الدولية.
كانت، هذه التغيرات المأمولة تشتمل علي اقتراح اصلاحات تجارية ونقدية ،وزيادة مقادير المساعدة، ومراقبة الشركات المتعددة الجنسيات، إلي جانب بعض الترقيات الأخري، التي كانت تهدف في الأساس ،الي تصحيح وضع اللاتماثل واللاتناسق[THE ASYMPTRIES] في النسق الاقتصادي الدولي.
ومنذ الدورة السادسة، الخاصة بالجمعية العامة للأمم المتحدة، في ربيع 1974 ، نجد أن كل المنظمات الدولية الكبري، استهلكت وقتا كبيرا ،خصص لمناقشة بعض المسائل والأقتراحات لتعديل طبيعة وهيكلة النسق الاقتصادي الدولي ليصبح أكثر مساواة وعدلا . لكن ،هذه المماطلات، ثبت أنها كانت تبطن هدفا مراوغا ومتحيزا ،علي الرغم من بعض الاستجابات المحتشمة لجزء من مطالب دول الجنوب.وتم ذلك في صورة بعض التعديلات ،غير أنه لم يحدث أي تحرك تجاه إعادة بناء هيكل الاقتصادي العالمي .ونجد أن، ما كان يطلق عليه حوار شمال- جنوب (أو العكس) استمر (لبعض الوقت)ثم فقد الرغبة في مواصلته. واستمرت الجمعية العامة للأمم المتحدة تداول كذلك (لبعض الوقت) دون أية نتيجة تدكر لها أو عليها ..هذا ما نستخلصه من محاولة تتبعنا لحالات واشكليات التبعية. وسعي بلدان العالم الثالث ومحاولاتها لإدارة هذه المعضلة من جهة،ومن جهة اخري مواصلة المفاوضات المتلكئة الخاصة بإنشاء نظام اقتصادي دولي جديد[ A NEW INTERNATIONAL ECONOMIC ORDER] .
المطلب الثالث :النسق الفرعي الثالث:
[ THE EAST-WEST SYSTEM OF MANAGEMENT]
أو النسق الشرقي-غربي للاستقلال ، قبل انهيار وتفكك الكتلة الشرقية.
النسق الفرعي الاقتصادي الدولي الأخير ، هو ذلك النسق الذي كان يوجد بين الشرق والغرب، الذي ميز علاقات الشرق غرب التي كانت تتصف بأنها علاقات استقلال [IS ONE OF INDEPENDENCE]، لأن المشاركين في هذه العلاقات كان لهم تفاعل وتبادل وتأثير قليلين جدا، علي بعضهما البعض .مثلما كان الحال، بين اقتصادات السوق المتطورة للغرب، والاقتصادات المخططة للدول الاشتراكية ، لأوربا الشرقية والأتحاد السوفيتي .التي كان قادتها ينظرون الي الامم المتحدة،علي أنها معقل للغرب ،وأن قائدته الولايات المتحدة تستخدمها لصالحها ولصالح تنفيذ سياستها ضد الاتحاد السوفيتي ومن يدور في فلكه،عن طريق عزله دوليا واحكام سياسة الاحتواء ،التي كانت الولايات المتحدة قد بدأت تنتهجها لمواجهته،خاصة بعد الاعلان عن مشروع مارشال،ثم تأسيس الحلف الاطلسي،التصرفات أكدت نواياها العدائية ضده.
أدت الحرب الباردة بعد ذلك، إلي عزل كل نسق عن الآخر .ووجهت الولايات المتحدة الغرب ،لخلق مجموعة متنوعة، من الحواجز الجمركية القانونية والادارية، أمام الأتجار مع الشرق .في حين أن الشرق اتبع سياسة اقتصادية ،وعزلة سياسية في نطاق كمنويلث اشتراكي .إعادة تعزيز الاستقلال السياسي، كانت هي التوجه لإعطاء صفات متباينة لبنيات غير متماثلة.ومن ثم، فان تأكيد حالة هذا الاختلاف بين النسقين الاقتصاديين ،أدت إلي الاستقلال الاقتصادي للشرق عن الغرب .مما تطلب انشاء مؤسساتها الاقتصادية المنفصلة الخاصة بها. علي سبيل المثال: فان الدول الاشتراكية لم تشارك في صندوق النقد الدولي للإنشاء والتعمير . تجارة شرق-غرب كانت صغيرة الحجم ،ولم يحدث أن كانت هناك تدفقات للرأسمال أو الاستثمار .إذا بقي النسق مستقلا. ولما زال هذا النسق من الوجود ، فإن الرغبة في مناقشة نسق الإدارة الشرقي-الغربي ستتلاشي.
لكن في السنوات الحديثة ،نجد أن الأسس(أو القواعد) السياسية والاقتصادية للاستقلال والعزلة، قد تحولت وتبدلت وتغيرت،ابتداء من ظهور سياسة الوفاق 1970 ،والقضايا (والاشكاليات) الاقتصادية الجديدة في الشرق، أدت إلي بروز بعض المجهودات لزيادة التفاعل الاقتصادي، بين الشرق والغرب. وعلي الرغم من، هبوب الرياح الساخنة التي هبت علي العلاقات بين الشرق والغرب، بعد الاجتياح السوفيتي لأفغانستان في سنة 1979، والازمة البولونية سنة1981 ،فان القوانين استمرت في التغير، والسياسات استمرت هي الأخرى تعدل، والتفاعل الاقتصادي التجاري أصبح يأخذ مكانه في العلاقات الاقتصاديةبين المعسكرين ،هذا الي جانب بعض، المغامرات المشتركة. وبقاء استمرار عضوية بلدان شرقية في مؤسسات غربية. ان المسألة،في حقيقة الأمر هي :كيف كانت محاولة الطرفين للاقتراب من بعضهما البعض، والابتعاد عن الاستقلال ،الذي ميز العلاقات بين النسقين،والتحويل بخطي سريعة تجاه الاعتماد الاقتصادي الدولي، الذي كانت خاتمته، إنهيار وتلاش النسق الشرقي وذوبانه في النسق الدولي العام .
المبحث السابع:
إدارة وتنظيم العلاقات الاقتصادية الدولية
منذ الحرب العالمية الثانية

THE MANAGEMENT OF INTERNATIONAL
ECONOMIC RELATIONS
SINCE WORLD WAR II
أُثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، طورت الدول المنتصرة، وفرضت شبكة من المؤسسات والقواعد و والإجراءات لتنظيم مظاهر وأوجه العلاقات الاقتصادية الدوليةوالمالية،لحوالي عقدين من الزمن. وعرف هذا النظام بنظام بريتون وودز
[BRETTON WOODS SYSTEM] .وعندما نتتبع مجريات الأحداث،يمكننا القول أنه كان نظاما فعالا، خاصة فيما يتعلق بمراقبة الخلافات والوصول بها الي تحقيق أهداف مشتركة للدول التي ساهمت في تأسيسه.
ويمكننا إيجاد الأسس السياسية لهذا النسق في تصادف وتطابق ثلاثة ظروف أوشروط: الأول :هو تركز القوة في حوزة عدد قليل من الدول الأعضاء . والثاني :هو وجود تعنقد[A CLUSTER OF] أو تجمع للمصالح الهامة التي تشترك فيها هذه الدول . والثالث:هو حضور قوة مهيمنة ،ترغب في تبوء مكان الصدارة ،وفي استطاعتها احتلال دور قيادي، وكان لها ما أرادت.
نسق بريتون وودز [BRETTON WOODS] تمت الهيمنة عليه من طرف الدول المتقدمة لأمريكا الشمالية ،وأوروبا الغربية.وذلك لتركز كل من القوة السياسية ولاقتصادية في حوزة هذه الدول،مما ساعدها بل وخولها للاضطلاع بعملية صنع واتخاذ قرارات للنسق بأسره [FOR THE ENTIRE SYSTEM]. وكيفما وقع ذلك،فإن هذه المجموعة من الدول، لم تلاق أي تحد من قبل الدول الشيوعية لشرق أوروبا،وآسيا،بما في ذلك الاتحاد السوفيتي.لأن هذه الدول عزلت عن باقي الاقتصاد الدولي بفعل طبيعة مركزية اقتصادياتها المخططة، وسياساتها التي تعمدت اتباع سياسات العزلة . وبذلك تفاعلت هذه المجموعة مع بعضها البعض، في نسق اقتصادي دولي منعزل و مغلق .
بالإضافة الي ذلك ،نجد أن الدول الأقل نموا [المتخلفة] هي الأخري لم تتحدي الدول الأعضاء في نسق بريتون وودز [BRETTON WOODS]. بالرغم من أنه ، خلاف الدول الشيوعية ،فإنها كانت مندمجة كلية في نسق الاقتصاد الدولي . وكانت في معظمها تتاجر مع الدول المتطورة. مع العلم ان أغلب صناعاتها المتقدمة، وفي حالات عديدة كانت تمتلكها شركات أوروبية وأمريكية. واشتركت أو ساهمت في نفس النسق النقدي الدولي.و لكن ،بسبب ضعفها السياسي والاقتصادي ، فإن الدول المتخلفة لم يكن لها، أي اختيار في تنظيم وتسييرالنسق الدولي.
أخيرا ،فإن الدول المتقدمة لم تواجه-كذلك- أي تحد من قبل اليابان؛الذي أضعفته الحرب العالمية الثانية،وكان هو الآخر لايملك مستوي التطور والقوة السياسية التي تضاهي ما لأمريكا الشمالية وأوروبا مجتمعة،ومن ثم تركت اليابان ترزح تحت نير الهيمنة الأمريكية، وخارج إدارة فترة نظام بريتون وودز [BRETTON WOODS SYSTEM] لوقت الطويل .
من الملاحظ ، ان تركز القوة في نطاق دائرة ضيقة من الأعضاء ،سهل عملية الإدارة الاقتصادية للنسق قيد الإنشاء لاقتصاره علي عدد محدود من الأعضاء الفاعلين الدوليين،واقتناعهم بضرورة اتفاقهم علي إنشاء مؤسسات ،و قواعد ،وإجراءات ،ومهام الاضطلاع بالتنظيم والتسيير ضمن فضاء النسق المتفق عليه[WITHIN THE AGREED – UPON SYSTEM] . ومما سهل من عملية الإدارة هو مستوي الاتفاق العالي فيما بين البلدان الأقوى، حول أهداف ووسائل النسق الاقتصادي الدولي.
علي أية حال،فإن أسس هذاالاتفاق ،كانت معتقدا مشتركا في الرأسمالية والليبيرالية؛ بالرغم من اختلاف البلدان الرأسمالية المتطورةالي حد ما-فيما يتعلق بنوع الرأسمالية التي يفضلها كل بلد لاقتصاده الوطني . فرنسا مثلا فضلت الأخذ بالتخطيط وتدخل أكبر للدولة في الاقتصاد . في حين كانت الولايات المتحدة تفضل التدخل المحدود نسبيا للدولة في الشؤون الاقتصادية. ومع ذلك،نجد أن الكل بمفهومية النسق ،اعتمد واستند ،بصورة أساسية،علي ميكانيزمات أو آليات اقتصاد السوق والملكية الخاصة . أما فيما يتعلق بالاقتصاد الدولي،فانهم كلهم أجمعون قد فضلوا النسق الليبيرالي ؛الذي يستند أساسا علي السوق الحرة، في تعايش مع أدني الحواجز أمام حرية تدفق التجارة، ورؤوس الأموال. لأن تجربة سنوات الثلاثينات،الفترة التي تمخضت عن توالد وتكاثر الرقابات علي التبادل،ووضع الحواجز التجارية ، قد أدت الي وقوع الكارثة الاقتصادية العظمي. هذه الصورة كانت حية ومحفورة في أذهان وذاكرات القادة السياسيين والموجهين الرسميين[PUBLIC OFFICIALS] .وعلي الرغم من أنهم لم يتفقوا ، بل واختلفوا ،حول كيفيةإنجاز وتنفيذ[IMPLEMENTATION] النسق الليبيرالي،نجد أنهم كلهم اتفقوا علي أن النسق الاقتصادي المفتوح هو الذي سيحقق في نظرهم الحد الأقصى للرفاهية المنشودة من قبل الجميع .
وشعر البعض أيضا،أن النسق الاقتصادي الليبيرالي الدولي هو الذي سيعزز إمكانات أو احتمالات استتباب الأمن والسلام.
لأن الاعتقاد في اتباع السياسة الليبيرالية، كان له بعد أمني[SECURITY]،لآعتقاد الساسة الغربيين آنذاك ،أن النسق الاقتصادي الليبيرالي الدولي، سيؤدي ليس فقط ،إلي الازدهار الاقتصادي ،والتآلف والتوافق الاقتصادي[ITS HARMONY]،بل يؤدي أيضا، إلي تحقيق السلام المنشود. واحد من أولئك الذين رأوا الارتباط الأمني بالمسألة كان [CORDELL HULL]؛كاتب الدولة الأمريكي من سنة 1933ألي سنة 1944،ففي نظره أن ’’التجارة غير المعوقة تعاشقت مع ، أي ارتبطت بالسلام؛ في حين أن التعريفات الجمركية المرتفعة،والحواجز الجمركية والمنافسة الاقتصادية الحادة هي التي تدنو من الحرب إذا استطعنا أن نحصل علي تدفق أكثر حرية للتجارة-أكثر حرية في معني قليل من التمييز والعوائق إذن، كل بلد لا يكون حريصا وغيورا من الآخر . و سترتفع مستويات معيشة كل البلدان .وبذلك سيتم القضاء علي شعور عدم الرضا الاقتصادي ،الذي يجلب الحرب،يمكن اذن ،أن يكون لنا حظ في سلام دائم".
اتفقت البلدان المتطورة كذلك ،علي أن النسق الاقتصادي الدولي الليبيرالي، كان يتطلب التدخل الحكومي ،في فترة ما بعد الحرب. لذلك، فإن الإدارة العامة للاقتصاد أصبحت هي النشاط الأول للحكومة في الدول المتطورة. ومن ثم فان عمليات التوظيف، والاستقرار ، والنمو الاقتصادي أصبحت هي المواضيع الهامة في السياسة العامة. وارتبط دور الدولة في الاقتصاد الوطني بافتراض- مسؤولية الحكومة لتأمين الخير والرفاهية الاقتصادية لمواطنيها. وخرجت بذلك فكرة دولة الرفاهية من رحم الكساد العظيم ،لأنه هو الذي خلق طلبا شعبيا للتدخل الحكومي في الاقتصاد ،هذا من جهة ،ومن جهة أخري من المشاركات والمساهمات النظربة للمدرسة الاقتصادية الكينزية، التي أظهرت الحاجة الي التدخل الحكومي للحفاظ علي مستويات ملائمة ووافية بالمراد للتوظيف(التشغيل) . ونجد أنه في العديد من الدول المتطورة،مثل بريطانيا ،ذهبت فكرة دولة الرفاهية الي ابعد من التدخل علي المستوي الكلي،بل تدخلت وتحملت المسؤولية في حتي المستويات القطاعية،والجزئية.لذلك كله ،نجد أن الحكومات أيضا،أصبحت حارسة للقطاعات الداخلية الرئيسية أو الأساسية.
أما ،علي المستوي الدولي،فاننا نجد أن التدخل الحكومي كان يتطور أيضا ،ويستفيد من دروس تجربة سنوات الثلاثينات للقرن العشرين؛ االمتمثلة في أولوية الأهداف الوطنية، العمل الوطني المستقل في فترة ما بين الحربين.ونجد كذلك أن الفشل في تصور أن هذه الأهداف الوطنية، لا يمكن إدراكها بدون بعض أشكال التعاون الدولي. ان غياب التعاون وفقدان الثقة نتجت عنه كارثة سياسية واقتصادية.كالفشل في مراقبة تنفيذ سياسات [جار فقير معدم] بسبب فرض التعريفات الجمركية المرتفعة ،والتنافس علي تخفيض العملة.كل ذلك شارك وتسبب في حدوث الانهيار الاقتصادي، وعدم الاستقرار السياسي الداخلي،واندلاع الحرب العالميةالثانية.لذلك، فإن تلقين الدرس كان كما وضعه [HARRY D.WHITE] مهندس من المهندسين الكبار الذين شيدوا صرح نسق بريتون وودز[BRETTON WOODS SYSTEM] : ’’إن غياب التعاون الاقتصادي بدرجات عالية بين ارادات الأمم القائدة حتما نتج في حرب اقتصادية ،التي ستضع مقدمة التحريض والإثارة للحرب العسكرية ... علي نطاق واسع‘‘ . ولضمان الاستقرار الاقتصادي والسلام السياسي ،اتفقت الدول أن تتعاون لتنظيم وادارة النسق الاقتصادي الدولي.
وتعززت تبعد ذلك المصلحة العامة في التعاون الاقتصادي ،بواسطة اندلاع أو نشوب الحرب الباردة في نهاية الأربعينات s 1940.منذ ذلك الوقت، أصبح التعاون ضروري لمواجهة العدو المشترك المتمثل في المد الشيوعي . لأن الضعف الاقتصادي للغرب جعله يشعر ويتصور ،أنه كان ‘‘عرضة لهجوم الأعداء والسقوط تحت نير سيطرتهم، خاصة تهديدات الأحزاب الشيوعية من الداخل، وتعرضه لضغوطات الاتحاد السوفيتي ،الذي كانت تؤهله ظروفه للتوسع غربا .لهذا كله أصبح التعاون الاقتصادي، ليس ضروريا فقط لإعادة بناء الاقتصاديات الغربية التي دمرتها الحرب وضمان استمرار حيويتها، لكن أيضا من أجل دعم الأمن السياسي والعسكري. وهذا يعني تصور مستقبلي حقيقي للتهديد العسكري الشيوعي ، والصالح العام في الدفاع عن الغرب، لكي لايقع فريسة له .هذا التصور دفع البلدان المتطورة إلي التنازل عن مصاحها الفردية واخضاع منافساتها و صراعاتها الاقتصادية إلي المصالح الأمنية المشتركة.كانت إرادة مشتركة منهم لحل وسط [COMPROMISE] فيما بينهم و الاشتراك في تحمل أعباء الصعوبات الاقتصادية، بسبب المشكل الأمني العام.
واتفقت دول اقتصاديات السوق المتطورة أيضا علي طبيعة التسيير الاقتصادي الدولي، وتصميمه لخلق نسق ليبيرالى والمحافظة عليه،و تأسيس نسق نقدي دولي فعال ، والتقليل من الحواجز الجمركية أمام التبادلات التجارية ، وتدفقات رؤوس الأموال .وكان الهدف من إزاحة هذه الحواجز، وتأسيس نسق نقدي مستقر ، هو توفير بيئة محببة للدول تحيط بها، لضمان الاستقرار السياسي الوطني والنمو والازدهارالاقتصادي . وفي نهاية الأمر ،نجد أن أعضاء هذا النسق، لم يساهموا بقسط وافر في فهم وادراك، الادارة الاقتصادية الدولية، وترتيب وتنظيم النسق اليبيرالي عن طريق إبعاد الحواجز في وجه التدفقات التجارية والرأسمالية ، وخلق نسق نقدي شبه مستقر.
أخيرا،نجد أن الإدارة الدولية ، عولت أو اعتمدت علي القوة المهيمنة لتقود النسق . ذلك القائد كان بالطبع هو الولايات المتحدة الأمريكية .كأقوي قوةسياسية و إقتصادية عالمية علي الإطلاق . ومن الواضح أن الولايات المتحدة كانت في وضع يسمح لها بتحمل مسؤولية وأعباء تلك القيادة. نظرا لأن الاقتصاد الأمريكي، لم يتأثر بالحرب كغيره من الاقتصادات الغربية ،ونطرا لسوقه الواسعة ، وقوة انتاجيته الكبيرة ،والتسهيلات المالية المتوفرة،أضف الي ذلك قوة أمن الولايات المتحدة. هذه السمات المميزة جعلت منها الدولة المسيطرة عالميا من الناحية الاقتصادية، لأن قوتها الاقتصادية توازنت مع قوتها العسكرية . ولأن القدرة علي تحمل أعباء قوة عسكرية كبيرة العدد و امتلاك الأسلحة النووية جعل من الولايات المتحدة هي القوة العسكرية الأقوي عالميا. مما أهلها أن تكون قائدا للحلف، بل الأحلاف الغربية كلها .أما فيما يتعلق بالدول الأوربية ،فان اقتصادياتها كانت منهارة بسبب الحرب، وانتاجهاضعيفا ، وأسواقها مقسمة بالحدود الوطنية، وجيوشها ضعيفة أنهكتها وفككتها الحرب . لهذا كله كانت الدول الأوروبية مجتمعة ، في وضعية لا تسمح لها بتحمل دور المسؤولية .
وتجدر الاشارة هنا ،أن الولايات المتحدة كدولة عظمي، كانت تستطيع وترغب في تحمل دور القيادة. لأن صناع السياسة الأمريكيين ، تعلموا درسا مهما من أحداث فترة ما بين الحربين [THE INTERWAR PERIOD] . بسبب فشل القيادة الأمريكية وانسحابها إلي اتباع سياسة العزلة بعد الحرب العالمية الأولي.هذا الي جانب أشياء أخري، شكلت العوامل الكبري التي أدت الي انهيار النسق الاقتصادي ، والسلام الدوليين . لذلك آمن صناع السياسة الأمركيين، أنه بعد الحرب العالمية الثانية يتعين علي الولايات المتحدة، منذ ذلك الحين فصاعدا ألا تعزل نفسها كقوة عظمي ،لأنها ستتحمل مسؤولية أساسية ،من أجل تأسيس نظام سياسي واقتصادي عالمي. وعندما نشبت الحرب الباردة ، أضيف بعد آخرعزز الحاجة الي القيادة الأمريكية . ونتيجة لهذا التصور العام ، فبدون القيادة الأمريكية ، فان الضعف الاقتصادي في أوربا واليابان سيؤدي إلي انتصارات سياسية شيوعية. لذلك فان قوة الاقتصاد الأمريكي، ودروس فترة ما بين الحربيين، وبواعث وحوافز أمن الحرب الباردة ،جعلت من القيادة الأمريكية أمرا ضروريا ، ومستساغا[PALATABLE] اقتصاديا،وسياسيا بالنسبة لكل دولة.
زيادة علي ذلك، فإن الأوربيين واليابانيين ، المنهكين اقتصاديا بالحرب-وافقوا علي هذه القيادة . لأنهم كانوا في حاجة إلي المساعدة الأمريكية، من أجل إعادة بناء وتشغيل انتاجاتهم الوطنية،وتمويل تجارتهم الدولية .وفي الوقع ،فانهم كانوا في حاجة ماسة إلي ذلك من أجل البقاء . ومن ثم، فان المتضمنات السياسية، وتورطات القيادة الأمريكية ، كان ينظر إليها من جانب الحلفاء ،علي أنها أشياء إيجابية وحقيقية وواقعية [POSITIVE] . وكما أحس وتوقعها الأوربيون واليابانيون فان المساعدة الأمريكية ستخفف، وستسكن، وستلطف [ALLEVIATE] المشاكل السياسية والاقتصادية الداخلية، وستشجع علي تدعيم الاستقرار وحفظ السلام الدوليين . غير أن، ما خاف منه الأوربيون ،هو ليس الهيمنة الأمريكية، بل العزلة الأمريكية. لأن تاريخ دخول أمريكا المتأخر إلي الحربين العالميتين ما زال ماثلا في ذاكرتهم . لذلك، نظروا بجدية إلي قبول القيادة الأمريكية.
قدرة و رغبة الولايات المتحدة،في القيادة من خلال نشاطها الجدي والفعال أثناء فترة بريتون وودز،استطاعت أن تعبئ البلدان المتقدمة الأخرى ،عن طريق ادارة وتنظيم النسق وفي بعض الحالات أدارته بمفردها . وتصرفت الولايات المتحدة كبنكية مركزية للعالم، تزود النسق بمعظم المبادرات الخاصة بالمفاوضات التجارية الدولية، وعن طريق ذلك سيطرت علي الإنتاج العلمي، وبسطت هيمنتها علي النسق الدولي.
هذا التقابل والتوافق ،لثلاثة شروط سياسية مفضلة المتمثلة في تركز القوة، وتجمع المصالح المشتركة، وقيادة الولايات المتحدة- زودت القدرة السياسية لتعادل مهام وواجبات إدارة الاقتصاد الدولي . وساعدة الأوربيين واليابانيين للنهوض من أنقاض الحرب العالمية، وتشييد نسق نقدي مستقر، ونسق تجاري و مالي مفتوح، أكثر مما قاد إلي فترة نمو اقتصادي لا نظير له [UNPARALLELED] .
علي أية حال، عندما أتت فترةالسبعينات s1970، نجد أن نسق بريتون وودز كان قد تخرب أو أصبح شئا متثاقلا.وكانت إدارة الاقتصاد الدولي آنذاك أصبحت مهددة في الصميم . وذلك لحدوث تحولات وتغيرات ، في كل واحدة ،من الأسس السياسية الثلاثة لنسق بريتون وودز .هذه التحولات أدت الي تقويض أركان إدارته السياسية . وقوته أمام التحدي. لأن قيادته أصبحت ضعيفة، و تفرق وتشتت موقف الأجماع الخاص بالنسق ليبيرالي.
علي الرغم من ،أن البلدان المتطورة استمرت ، هي القوى الاقتصادية والسياسية المهيمنة، الا أن الدول خارج المجموعة استطاغت أن تتحدي حقها في إدارة النسق الدولي .والتحدي الكبير هذه المرة، جاء من جهة البلدان الأقل تطورا
[THE LESS-DEVELOPPED-COUNTRIES] ،لأنه خلال فترة بريتون وودز، أصبحت دول الجنوب غير مقتنعة بجدوي بالنسق، الذي أثر علي اقتصادياتها، في الوقت الذي كانت مبعدة من إدارته وتسييره .هذا الموقف كان مصحوبا بشعور عدم الاقتناع باسلوب المشاركة الظاهرية غير العادلة والمنصفة في ادارة موارد وثروة وفوائد السيستيم . عدم الاقتناع هذا كان مدعما بالاستقلال السياسي، غير أنه قاد في نهاية الحقبةالي الإذعان الإرادي . ورأت بعد ذلك الدول الأقل نموا وتطورا، توسيع هامش حرية الوصول، إلي الإدارة والاقتراب منها واستعمالها، وبالتالي الاستفادة من عائدات النسق الاقتصادي الدولي. في حين نجد أن الدول المتطورة في أغلبها ،حاولت تجاهل أهداف و مطالب الدول النامية، ورغبتها في الوصول إلي إدارة النسق. [THEY HAVE TRIED TO DENY THEM THAT ACCESS].
أما التحدي الآخر، لقوة الدول المتطورة المهيمنة علي النسق، الذي يمكن أن نصفه بأنه كان أقل أهمية، ومختلف في طبيعتة، فهو تحدي الدول الشيوعية . أثناء فترة بريتون وودز كانت هذه الدول معزولة عن معظم التفاعل الاقتصادي الدولي وإدارته، ولكن مع بداية s1960 رأى الاتحاد السوفيتي، وبعض البلدان من أوربا الشرقية أنه من فائدتها المشاركة في ادارة الاقتصاد الدولي والانتفاع بميزاته .غير أن، الغرب تملكه تصور أن تلك المشاركة ستكون ممزقة للإقتصاد الدولي، بسبب الطبيعة المختلفة لاقتصاديات الدول الاشتراكية ، ومشاركتها في النسق تتطلبت هي الأخري احداث قواعد ،وهياكل ،واجراءات جديدة.
بالإضافة إلي التحديات الخارجية لقوة وسلطة البلدان المتطورة، نجد أن، القوة قد تغيرت داخليا . في الستينات s1960 مرت أوربا بفترة تجربة لنمو اقتصادي كبير وبدينامكية في التجارة الدولية . ستة بلدان أوربية ثم أصبحت عشرة فيما بعد، اتحدت لتكون المجموعة الاقتصادية الأوربية ،ككتلة اقتصادية منافسة للاقتصاد الأمريكي، وقوة سياسية محتملة وممكنة،في صورة ولايات متحدة أوروبية .وتزامنا مع هذا،فان مجهودات اسلوب التنمية والتطوير الاقتصادي لليابان ،كان شيئا مذهلا، ومثيرا للاعجاب من قبل معظم بلدان الجنوب، ومثيرا للحساسية بالنسبة لأمريكا وأوروبا. في s 1960أصبح اليابان قوة اقتصادية عظمي، والتحق بمنصة السيادة المشتركة للبلدان المتطورة في الوقت نفسه، ما زالت الولايات المتحدة هي القوة الاقتصادية العالمية المهيمنة . غير أنها ،واجهت العديد من المشاكل التي أصبحت تعاني منها لما سيأتي من لاحقات الأيام .من الجهة الدولية،عانت من ضعف الدولار وتراجع ميزان مدفوعياتها التجارية، مما تسبب في تقويض قوتها الاقتصادية الدولية.
تماثل هذا التغير في القوة، تجاه تعددية أكثر ،بالمواقف فيما يتعلق بالقيادة الأمريكية للنسق الدولي . الحليفين أوربا واليابان أصبحا غير مقتنعين مع مرور الوقت بالامتيازات التي حصلت عليها قيادة الولايات المتحدة والطريق الذي سلكته في تنفيذ هذه الامتيازات . والمثال الأوضح لعدم الاقتناع المتنامي هو كثرة الانتقادات الأوربية واليابانية للسياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة نيابة عنهم .ولنسق الدولار، ولعجز (أولعجوزات) ميزان المدفوعات الأمريكي . أما الولايات المتحدة من جهتا ،فانها كانت غير مقتنعة بأعباء و تكاليف قيادتها للنسق الغربي للاعتماد المتبادل . مما يلاحظ أنه في حين نجد أن الأوربيين واليابانيين كانوا ينتقدون العجوزات الأمريكية ، فان الولايات المتحدة بدورها انتقدت رفضهم لتخفيض قيمة الدولار .وعندما طرأت وتفاقمت المشاكل الاقتصادية الداخلية ،في أواخر s1960، بدأ القادة الأمركيين يحسبون حساب تكاليف القيادة التي كانت أكثر من فوائدها.
وعندما خفت وارتخت التوترات الأمنية،زاد ذلك من قوة تحول المواقف تجاه القيادة الأمريكية. لأنه أثناء فترة بريتون وودز ، نجد أن التهديدات السوفيتية هي العوامل التي وحدت الغرب وراء القيادة الأمريكية،وأعطت دفعا لتشجيع التعاون الاقتصادي بينها وبين بقية الدول الغربية .وكيفما كان ذلك في الواقع،فان الوفاق [DETENTE]، وارتخاء تصور تهديد الأمن الجماعي، أضعفا حجة الأمن والتعاون الاقتصادي والقيادة الأمريكية . كانت أوربا واليابان لا تقبلان الهيمنة الأمريكية، لأسباب أمنية، لمدة أطول مما دامت ، والولايات المتحدة بدورها كانت لاترغب في استمرار تحمل الأعباء والنفقات الاقتصاديةمن أجل القيادة ،لأسباب أمنية بكميات ومقادير أكبر من ذلك.
ضعف القيادة الأمريكية المستمر، حتّ النسق الذي تأسست عليه ومن أجله تلك القيادة . وبالرغم من أن طريقة هيمنة الولايات المتحدة، كانت غير مقنعة لأوروبا واليابان، ولأمريكا نفسها . فإن ذلك لم يشع علي ظهور أو بروز أي بلد في إمكاناته تأدية دور القيادة . أوروبا علي الرغم من أنها اتحدت اقتصاديا في اطار السوق الأوروبية المشتركة، الا أنها كانت في حاجة ماسة وضرورية، الي وحدة سياسية، لتمكنها من قيادة النسق . أما ألمانيا واليابان أعظم قوتين اقتصاديتين بعد الولايات المتحدة ؛فانهما كانتا لاتستطيع أي منهما إدارة النسق بمفردها .وعلي أية حال،فانهما أبقيتا بعيدا(أبعدا)عن مهمة القيادة، ربما بسبب ذكريات التجارب المؤلمة للحرب العالمية الثانية. ومهما كان ذلك التصور صحيحا أم لا،فإن الظاهر أنه ما لم يوجد شكل من أشكال القيادة الجماعية أو المتعددة الأطراف فيما بعد ،أو تأسيس أي نسق جديد للقيادة . فإن مستقبل الإدارة الاقتصادية الدولية آنذاك ،كان يلفه و يشوبه الشك والريبة الي أن انهارت الكتلة الشرقية دون سابق إنذار،وأصبحت الكتلة الغربية ثلاثة كتل (أمريكا ،أوروبا واليابان) وتفرق أعضاء النسق شذر مذر.
أخيرا،بقدوم سنوات السبعينات من القرن الماضي،نجد أن اتفاق الدول الغربية وتفاهمهم فيما يتعلق بالنسق الليبيرالي ’’المحدود‘‘،الذي كان يشكل أساسات بريتون وودز انهارتماما [IT HAD COLLAPSED]،لأن الدول الأعضاء،لم يستمر اتفاقهم، علي أهداف ووسائل التنظيم والإدارة.
أما أعضاء المجتمع الدولي الخارجين والمنشقين والصاخطين علي الرؤية الليبيرالية لتنظيم وادارة الشؤون الدولية-فانهم كانوا يتشكلون في معظمهم من البلدان الأقل تطورا، بمسماها الفعلي الدول المتخلفة أو المتأخرة،التي كانت تري ،أن النسق النقدي ،والتجاري،والمالي المفتوح هو الذي صنع و خلّد تخلف بلدانهم، وتبعيتها للبلدان المتقدمة. واستنادا الي هذا التصور رأت البلدان الأقل تطورا أنه يتعين علي المجموعة الدولية مراجعة مؤسسات و قوانين ،وإجراءات النسق الدولي، لكي يكون في مقدورهذه الدول بعث مشاريعها التنموية وتثبيت دعائم استقلالها السياسي. أكثر من ذلك،فقد راوا أن التنمية هدف ومسؤولية النسق الرئيسية لذلك ، أيضا،لم توافق هذه البلدان بالإجماع علي فكرة إدارة اقتصادية محدودة. لأن الإدارة الدولية ،في نظر هؤلاء يتعين أن تتصف بصفات الموضوعية،والواقعية ،وأن تكون إدارة نشطة وفعالة ،وأكثر تدخلية مما جرت عليه العادة.
نجد أيضا أن عددا كبيرا من الدول المتقدمة ،ومنذ ذلك الحين فصاعدا ،حكموا علي ان اليبيرالية، كانت بمثابة هدف واف بالمراد للإدارة والتنظيم الوطنيين والدوليين . وصاحب ذلك نمو شعور رفع تحدي اليبيرالية في الدول المتقدمة ، بفعل نجاحاتها الباهر في تخفيض الحواجز أمام التجارة ورؤوس الأموال ،التي ساعدت علي توسيع نطاق التفاعل الاقتصادي الدولي ،عبر اقتصادات السوق المتطورة ،المتسمة بتدفقات كبيرة لرؤوس الأموال ،ونمو التجارة الدولية، وتطوير نسق الانتاج الدولي . كنتيجة لذلك، نجد أن الاقتصادات الوطنية أصبحت تعتمد علي بعضها البعض بصورة أفضل [MORE INTERDEPENDENT] وصارت أكثر حساسية للسياسة الاقتصادية، والأحداث التي تقع خارج الاقتصاد الوطني. غير أن المشاكل الناتجة عن الأحداث الخارجية ، قد تعمقت وأصبحت أكثر حدة،بسبب هذه الحساسية،التي نمت في وقت عندما كانت الدول تتوقع أكثر من قبل ،ضمان نجاعة ورقي اقتصاداتها الداخلية . أحيانا صارت هذه الدول أكثر تدخلية في شؤون إدارة اقتصاداتها الوطنية. وبسبب تأثير الأحداث الخارجية وجدت الدول صعوبات متزايدة في تسيير اقتصاداتها الوطنية. وجدت الدول نفسها في صعوبة لإدارة اقتصاداتها الوطنية، التي أصبحت ترزح بصورة كبيرة تحت طائلة مشاكل مستجدة، خاصة عندما أصبحت الحكومات عاجزة، عن حل مشاكلها المتفاقمة، لأن فعالية سياستها هي الأخري، أصبحت تتناقص من حيث قيمتها، وتضعف من حيث سلطتها.
أدي الاعتماد المتبادل إلي رد فعلين وتحددين لليبيرالية. رد فعل كان إنشاء وتشييد [TO ERECT] حواجز جديدة تتحدي التفاعل الاقتصادي ،وبالنتيجة الاعتماد المتبادل .لأن النسق الدولي المفتوح ، في نظر العديد من القادة والمفكرين، لم يعد يحقق الحد الأقصى من الرفاهية الاقتصادية المنشودة. الا أنه بالتأكيد ،قد ساهم في تقويض السياسة والاستقلال الوطنيين.
رد فعل آخر،هو محاولةالذهاب أبعد من اللبيبرالية،وفكر الإدارة المحدود ،إلي أشكال جديدة للتعاون الاقتصادي الدولي الذي سيسير الإعتماد المتبادل . ان النسق المفتوح ،واستنادا إلي وجهة النطر هذه، لكي يحقق الحد الأقصى للرفاهية، كان يتطلب ،بدوره، أشكالا جديدة للإدارة الدولية ،التي ستتحمل المسؤولية و تباشر رسميا من قبل الدولة.
و التحدي الأخير ،لليبيرالية كان من قبل الدول الاشتراكية ، وتخطيطها المركزي ، ونسق دولتها التجارية ،كانت مناقضة ومضادة [ANTITHETICAL] للأسواق الحرة .وإذا كانت هذه الدول تريد الاندماج في الاقتصاد الدولي،فان ايجاد أشكال جديدة للإدارة والتنظيم ستكون ضرورية لتسيير التجارة شرق غرب، خاصة فيما يتعلق بالإستثمار ،والتدفقات الرأسمالية.
التحديات الخارجية لقوة الدول المتطورة،المتمثلة في الضعف الداخلي للقيادة، وإنهيار الإجماع الليبيرالي ،نجدها انها قد استطاعت أن تفت عضد الإرادة السياسية.هذا، وفي غياب نسق فعال للرقابة،فان الاقتصاد الدولي قد دخل بعد ذلك في مرحلة فوضي وأزمة:
النسق النقدي انهار ، الدول بدأت تضع الحواجز أمام التجارة، حفنة صغيرة من منتجي النفط استطاعت أن تؤثر بارادتها علي الدول المتطورة ،وتجعلها تستجيب لمطالبها. ومطالبة العالم الثالث بإقامة نظام اقتصادي دول جديد، وهدد في حالة عدم الامتثال لهذه المطالب...الخ . وفي غياب الإدارة ،ازدادت الخلافات والنزاعات الاقتصادية حتي وصلت إلي مستويات السياسة العليا، وأصبحت خصام القوي السياسية. لذلك كله، فان المشكل السياسي الأساسي الذي يواجه الاقتصاد الدولي، وهو خطير بالنسبة لكل العلاقات الاقتصادية الدولية.وهذا ما يجعلنا نتساءل في الأخير : هل في الإمكان ضمان أشكال جديدة للإدارة السياسية؟ وهل هذه الأشكال ستستطيع أن تحل المشاكل الثلاثة الرئيسية لوقتنا الحاضر:مراقبة الإعتماد المتبادل في وجه التوعك في نصف الكرة الشمالي ،وتحقيق المساواة وانهاء تبعية العالم الثالث في نصف الكرة الجنوبي ، وتحسين العلاقات الاقتصادية الشرق-غربية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والدول التي كانت تتشكل منها الكتلة الشرقية؟
خاتمة
يمكن أن نختم هذا الفصل (1)بامعان النظر في هذه الرؤية ، وهذه الأسئلة: كان النسق الاقتصادي الدولي الغربي يترائ علي أنه كان عند مفترق الطرق ، وكما يصوره أحد المحللين :
’’ان البلدان المتقدمة ذات اقتصاد السوق،تصل الآن إلي نقطة ،حيث يتواجد الاختيار الأساسي:إما التحرك إلي الأمام ، إلي الأخذ بأشكال جديدة لإدارة المشاكل بصفة جماعية ،التي لا تستطيع الدول حلها ،كل واحدة علي انفراد، أو الضغط علي فرامل قاطرة سياسة الاعتماد المتبادل وتنميتها ،وبواسطة اجراءات تحكمية أكثر أو أقل لوضع المشاكل مرة أخري في نطاق مجال المراقبة الوطنية.
ولكن ،هل يمكن ضمان أشكال جديدة للإدارة السياسية والاقتصادية للعالم؟ وهل تستطيع هذه الادارة حل المشاكل الآنية مثل مراقبة الإعتماد المتبادل في وجه التوعك في الشمال ؟ وتحقيق معدل تبادل مجزي ومنصف وانهاء حالة تبعية الجنوب ؟ وتحسين العلاقات الاقتصادية الشرق-غربية بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي و تفكك الدول التي كانت تتشكل منها الكتلة الشرقية، واستيعابها كلها ضمن النسق الدولي العام ؟
(2) كما رأينا أن النسق الدولي كان يتكون من نسق ثلاث هي: (*)النسق الغربي (*) النسق الجنوبي (*) النسق الشرقي .الأول،كانت نظرته ترمي الي تأسيس نظام واحد جديد علي أنقاض تفكك النسق الشرقي للاتحاد السوفيتي،وفشل العراق في حسابات مسعاه الذي جره للتدخل في الكويت وضمها اليه،ومحاولات الغرب وحلفائه إلجام وقمع الصحوة الإسلامية الحقيقية في بداية التسعينات والقضاء عليها أو علي الأقل تدجينها مع مطلع هذا القرن [ويبقي للموضوع مناقشة في مكان آخر غير هذا !]،النسق الثلاثة تصبح بعد ذلك، شمال وجنوب فقط ،دون سابق إنذار- لانتهاء هامش المناورة - بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك توابعه ،وتحولهم الي مجموعة من الدول المستقلة، وسعيهم الحثيث الآن للانخراط في النسق الأول؛ضمن ما يسمي ويروج له [العولمة ورديفها النظام الدولي الجديد ].
.................................................. .



المراجع الأساسية للفصل الخامس

مرتبة حسب أولوية وكثافة الاستعمال

وليس حسب الحروف الأبجدية

قائمة مراجع يجد فيها الطالب أيضا مواضيع في الأنظمة السياسية للإمبراطوريات الاستعمارية،وسياسات الاندماج السياسي والاقتصادي والاعتماد المتبادل ،والإمبريالية الاقتصادية ،والتبعية ،بالإضافة الي بعض التوقعات المستقبلية(في الماضي طبعا)حول مستقبل النظام الاقتصادي العالمي.المادة العلمبة للفصل الخامس في أغلبها مأخوذة عن المصادر التالية:-


q JOAN E. SPERO, THE POLITICS OF INTERNATIONAL ECONOMIC RELATIONS (1985) .هذا العمل يغطي الجوانب الاقتصادية من العلاقات الدولية



q Karl W. Deutsch, THE ANALYSIS OF INTERNATIONAL RELATIONS (NEW JERSEY: PRENTICE-HALL, 1978), Chapter 19.تحليل العلاقات الدولية هو الآخر يغطي الجوانب السياسية من العلاقات الدولية


q HAAS, E.G., THE WEB OF INTERDEPENDECE (NEW JERSY: PRENTICE, 1970).

q بول.أ. سامويلسون،ترجمة د.مصطفي موفق،علم الاقتصاد(6): العلاقات التجارية والمالية الدولية (الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية،1991).

q د.جورج قرم ، التبعية الاقتصادية :مأزق الاستدانة في العالم الثالث في المنظار التاريخي(بيروت:دار الطليعة،1986).

q ---------- ،العلاقات الاقتصادية والمالية العربية الأوروبية 1960-1987 حصيلة وآفاق(بيروت:مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق،1994).

q بول أ. باران وبول م .سويزي، رأس المال الاحتكاري:بحث في النظام الاقتصادي والاجتماعي الأمريكي،ترجمة :حسين فهمي مصطفي(الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر المطبعة الثقافية،1971)

q د.عبد الرحمن يسري أحمد،الاقتصاد الدولي(السكندرية:كلية التجارة دار الجامعات المصرية،عدة طبعات منذ 1973).

q د.سمير أمين/ ت.حسن قبيسي ،التراكم علي الصعيد العالمي: نقد نظرية التخلف(بيروت: دار ابن خلدون،ط2،1978).


q د. محمد زكي شافعي،مقدمة في العلاقات الاقتصادية الدولية(بيروت:دار النهضة العربية،1970).

q هاني-بيتر مارتين وهارولد شومان،صدر بالألمانيةفي1996 ،ترجمة عدنان عباس علي،تقديم ومراجعة د.رمزي زكي،فخ العولمة:الاعتداء علي الديمقراطية والرفاهية(الكويت:سلسلة عالم المعرفة،نشر في أكتوبر1998).


q د. محمد عبد العزيز عجمية، الاقتصاد الدولي(الإسكندرية:دار الجامعات المصرية،1977).

q د.محمد علي القوزي،العلاقات الدولية في التاريخ الحديث والمعاصر(بيروت:دار النهضة العربية،2002).
.........................
وقع بالمطبوعة بعض الأخطاء المطبعية التي تحتاج لمراجعة
.................................................. .......

وفي انتظار ردود فعل ايجابية سأتبعه الفصول المتبقية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.