الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام خير القادة وسيد الناس أجمعين محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين .
غزوة الخندق ( الأحزاب ) من أعظم الغزوات في التاريخ الإسلامي ، وكانت إيذانا لنهاية أسلوب الدفاع والانتقال إلى أسلوب الهجوم ، وكانت بحق غزوة الأزمات والمحن والخوف والابتلاء والزلزلة والصبر والجهاد والتوكل والاحتساب والإيثار والشجاعة ، وصدق الله العظيم الذي يصف حال المسلمين حينذاك بقوله تعالى : (إذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا)، وكانت غزوة الخندق في شوال (5) من الهجرة وعدد قوات المسلمين (3000) رجل والأحزاب يربو عددهم على (10000) مقاتل من قبائل شتى .
وجدير بي تقديم مفهوم الأزمة للقارئ الكريم ، فالأزمة هي لحظة حادة مفزعة شديدة الألم محيرة في ظل دائرة من عدم التأكد ونقص في المعلومات وقصور في المعرفة .


* ـ أما إدارة الأزمة فهي :
* ـ عملية إدارية تهتم بالتنبؤ بالأزمات المحتملة عن طريق الاستشعار ورصد المتغيرات البيئية الداخلية والخارجية المولدة للأزمات ، وتعبئة الموارد والإمكانات المتاحة للتعامل مع الأزمات بأكبر قدر ممكن من الكفاءة والفاعلية بما يحقق أقل قدر ممكن من الأضرار للمنظمة وللبيئة ، والعاملين ، مع ضمان العودة للأوضاع الطبيعية في أسرع وقت وبأقل تكلفة .
وسيكون منهجي في المقال كالتالي : اختيار عنوان للموقف ، ومن ثم عرض الموقف باختصار ، ويلي ذلك استنباط الكيفية التي أدار بها الرسول صلى الله عليه وسلم الأزمة .


* ـ الأخوة قراء مدونة الموارد البشرية:
* ـ لقد حاولت جهدي الاختصار كي لا أطيل عليكم في مقالي هذا ، ولكني توقفت قليلاً متأملاً فوجدتني انهل من معين رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهجه ، فعزمت بعد التوكل على الله أن أبعث المقال كاملاً ، فإخوة الإسلام لن يملوا ولن يلحظوا إطنابا وهم يعيشون سيرته وذكر شمائله .


(1) الموقف الأول : [ الأحزاب وكثرة عددهم ] .
* ـ سمع النبي صلى الله عليه وسلم بمسير الأحزاب في شوال من السنة الخامسة للهجرة ؛ حث عزمت قريش ومن معها من كنانة وتهامة والأحباش وغطفان وأشجع وسليم وبني مرة … ، وكان عدد القوم يصل إلى عشرة آلاف ؛ وعناج الأمر إلى أبي سفيان ، وكان هدف الأحزاب القضاء على الإسلام ، ونهب أموال المسلمين وذرا ريهم .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) توافر المعلومات من أهم أدوات القائد التي يجب أن يتسلح بها ، ويضعها في الحسبان دائما وأبدا ، وكان القائد العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم عظم جيش الأحزاب عدة وعددا مقارنة بالمسلمين حيث قامت خزاعة ـ حلفاء المسلمين ـ بإبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر ، مما جعله صلى الله عليه وسلم يتخذ قرارا سريعا وحاسما بحفر الخندق قبل وصول الأحزاب المدينة .
(ب) حفر الخندق وعنصر المباغتة والمفاجأة ، أحدث صدمة قوية وصفعة موجعة للأحزاب ، فلقد كان عدد المشركين وجموعهم أكثر من أن يخرج إليهم المسلمون، ولا يصلح أن يتركوهم يدخلوا المدينة ، ولاسيما أن بني قريظة على مقربة من حدود المدينة ، فلا مناص من عمل يكون فيه الوقاية حتى يجئ نصر الله تعالى ، فاستشار الرسول القائد أصحابه ولم يجعل القرار فرديا ، فكان الرأي ما أشار به سلمان رضي الله عنه بحفر الخندق ، وكانت حيلة لا يعرفها العرب ، فباغتهم بها وفزعوا من أمرها .


(2) الموقف الثاني : [ فكرة الخندق ومواجهة جيش جرار يفوق عدد المسلمين ] .
* ـ لقد كان حضور سلمان الفارسي رضي الله عنه غزوة الخندق أول حضور عسكري له مع النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث كان قبل ذلك مولى لرجل يهودي ، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها ، فلم يكن سلمان رضي الله عنه من كبار قادة المسلمين حينئذ ، وعندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن رأيه هو الرأي عمل به ونفذه ، بعد أن أخذ عاملي الزمان والمكان في الحسبان عند حفر الخندق .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) القائد العظيم يأخذ بمبدأ الشورى قولا وعملا ، ويسعى إلى الصواب دون النظر إلى قائله وإن لم يكن من كبار القوم .
(ب) المبادأة والابتكار ومباغتة العدو بأمر لم يألفوه ، فيحتاروا فيه ، حيث أن فكرة الخندق للأغراض الدفاعية لم تكن معروفة عند العرب من قبل .
(ج) تطوير الأفكار والوصول بها إلى أعلى مستويات النضج وعدم الاستسلام للأفكار الأولى التي عادة ما تكون أقل فاعلية وكفاءة ، فالقائد الناجح يترك العنان لإطلاق الأفكار دونما مصادرة ، والإبداعات بلا مكابرة ، والحصول على أكبر قدر منها ، مدعاة للتوصل إلى فكرة أصيلة فيها جدة ، وهذا لن يكون ولن يتم عند رؤساء لا يؤمنون بأفكار الآخرين وينظرون لأنفسهم أنهم الأصلح لكل زمان ومكان وأن رأيهم السديد أبدا .
(د) القائد العظيم يشكر العاملين معه ويعطي كل ذي حق حقه وزيادة ، فسيد العظماء رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعم على سلمان الفارسي رضي الله عنه بمقولة يفخر بها الدهر كله ، بأن قال : [ سلمان منا أهل البيت ] تشجيعا له وحفاظا على ولائه ، وقاطعا لدابر العصبيات وتحفيزا للآخرين أن يعملوا ؛ ولي همسة في آذان القادة والمديرين : كم من مبدع أو صاحب رأي كافأتموه وحفظتم حقه ، وفي أقل الأحوال لم تجعلوه في غيابة الجب … ؟!!


(3) الموقف الثالث : [ أبعاد الخندق ومقاساته لمنع عبور الأحزاب إلى المدينة ] .
* ـ كان حفر الخندق شمال المدينة المنورة ، طوله 5544م ، ومتوسط عرضه 4.62 م ، ومتوسط عمقه 3.234 م ، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم ( سلع ) خلف ظهره وخندق من ( المزاد ) إلى ( ذباب ) إلى ( رتاج ) ، فجعل الخندق من طرف الحرة الشرقية إلى طرف الحرة الغربية من جهة الشمال .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) حفر الخندق ووضع الأبعاد والمقاسات الدقيقة التي تمنع اجتياز الخيل الأصيلة ، ذو دلالة بالغة على أهمية التخطيط السليم مصداقا للقول : قس مرتين لتقطع من مرة واحدة ، فهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع مجالا للتخبط أو الزلل أو سوء التقدير أن يقضي على أمة ، فلولا إحكام القياس لاجتاز الخندق الأحزاب ، ولكن لم ينالوا ما أرادوا سوى عدد منهم وذاقوا وبال أمرهم خسرانا وهلاكا .
(ب) لم يكن اختيار الموقع وقياساته إلا بعد دراسة وافية ودقيقة وسريعة للمكان ومدى قدرة المسلمين على إنجاز المهمة قبل وصول الأحزاب إلى المدينة .


(4) الموقف الرابع : [ تقسيم العمل في حفر الخندق ] .
* ـ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقسيم العمل بين المسلمين وتوزيع المهمات على المهاجرين والأنصار ، وتحديد الجزئيات والكليات ، حتى في عمق الحفر ومسافته ، فكان لكل عشرة من المسلمين مسافة معلومة ينجزونها تحت إمرة قائد يشرف عليهم ، ومن انتهى من أداء مهمته يعين إخوانه في الفرق الأخرى .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) التخطيط والتنظيم وظيفتان أساسيتان من وظائف الإدارة ؛ تجلت في هذا الموقف العظيم ، فظهر استشراف المستقبل والواقعية في تحديد الأهداف والقدرة على قياسها ، ومن ثم التنظيم الذي أساسه تقسيم العمل والتنسيق بين الأعمال المختلفة في الحفر .
(ب) اختيار فرق العمل المتجانسة كان له أثر بالغ في سرعة الإنجاز وبكفاءة وفاعلية ، وعاملا من عوامل منع الصراع الناتج عن فقدان التجانس ، فرسولنا عليه الصلاة والسلام حدد إجراءات العمل ونطاق الإشراف لكل قائد فريق .
(ج) التوجيه والرقابة وظيفتان لا تنفكان عن التخطيط والتنظيم ، لكي تكتمل حلقة وظائف الإدارة ، ولقد كان الرسول القائد صلى الله عليه وسلم يوجه ويتابع ويعزز الإيجابيات ويعالج الخلل في العمل أولا بأول .
(د) من مبادئ التنظيم ( المركزية ) وهو مبدأ طبقه الرسول القائد صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة منعا للعشوائية والتخبط ، فالوضع غير قابل لزلل أو خطأ ، فكان عليه الصلاة والسلام يسيطر على الموقف بصورة تامة ، فحتى الاستئذان من العمل أو الخلود للراحة يتوجب موافقة شخصية من الرسول صلى الله عليه وسلم .
(هـ) أي منظمة أو منشأة متى وضعت ( العدل ) جانبا ، ستتبوأ مكانا حفيا بين الخاسرين ، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا في شأنه كله أن العدل أساس الحكم والرخاء وبوابة حصينة من زعزعة الاستقرار والأمان في السلم ؛ فما خطبك بأيام الأزمات ، فهذا حبيبك يقسم الأعمال في هذه الغزوة بين المسلمين بالتساوي مع مراعاة الفروق الفردية لكل فرد .


(5) الموقف الخامس : [ مشاركة القائد العاملين ] .
* ـ كان الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب ، أثناء حفر الخندق ؛ ينقل التراب حتى يواري الغبار جسده الشريف ، وإنه كان يضرب مرة بالمعول ومرة يغرف بالمسحاة التراب ، ومرة يحمل التراب في المكتل ، وكان أصحابه يرتجزون : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) مشاركة القائد العظيم التابعين في العمل والمتابعة الميدانية للأداء .
(ب) مشاركة القائد في الأداء فيه تحفيز التابعين بمختلف مستوياتهم وشرائحهـم .
(ج) تحمل المسؤولية والالتزام الكامل أمام التابعين ، وأنه معهم ظاهرا وباطنا .
(د) توثيق عرى التلاحم بين القائد والتابعين بتطبيق ما يعرف بـ ( القيادة بالمشاركة ) والعمل كفريق واحد .


(6) الموقف الخامس : [ أزمة الإحباط والخوف والمعنويات المنخفضة ] .
* ـ حفر الرسول صلى الله عليه وسلم الخندق وأصحابه ، وقد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع ، وإذ بصخرة اعترضت الحفر وشقت عليهم ، فأبلغوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزل إليهم ـ بأبي وأمي ـ صلى الله عليه وسلم وبطنه معصوب بحجر فقد لبث ثلاثة أيام لا يذوق طعاما ، فأخذ المعول من سلمان ، وقال : بسم الله ، فكسرت ثلثها ، فكبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، قائلا : الله أكبر ، قصور الروم ورب الكعبة ، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة ، فقال : الله أكبر ، قصور فارس ورب الكعبة .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) القائد القدوة العظيم هو الذي يلجأ إليه التابعون كلما حزبهم أمر جلل ، وهو الذي لا يخذل من لجأ إليه ويكون قدر المسؤولية ولا يترك الرعية ينظرون إليه بأنه ليس جديرا بأن يتولى أمرهم .
(ب) في أوج المحنة وقمة الخوف ، قال تعالى : { إذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴿10﴾ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴿11﴾ الأحزاب } يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم في ثبات عجيب مبشرا بالنصر والظفر ليس في هذا الموقف بل تعداه إلى ملك كسرى وقيصر ، زارعا الثقة في المسلمين ، مشجعا إياهم أن النصر حليفهم بإذن الله ، فلا تجعلوا الإحباط يتملك قلبوكم ، فأما المسلمون حقا فكبروا معه وتبنوا الأمر وظلوا على العهد ، وأما المنافقون قالوا : نحن بخندق وهو يعدنا قصور فارس والروم !


(7) الموقف السابع : [ أزمة الغرور ] .
* ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ*) القائد المسلم يجب أن يكل أمره كله لله ، ويعلم أن نصره وفوزه بتوفيق الله
وهذا قائدنا وقدوتنا عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك وينقله سلف الأمة إلينا ، فيتجلى الخضوع لله وإرجاع الأمر إليه من قبل ومن بعد ، في تربية جهادية عظيمة ينهل المسلمون من معين خلقه وأدبه في الجهاد وغيره .


(8) الموقف الثامن : [ الاستخلاف والإنابة ] .
* ـ عندما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الأحزاب ، ندب الناس وأخبرهم خبر عددهم ، وشاورهم في الأمر ، وعسكر بهم عند حدود المدينة ، والمسلمون يومئذ ثلاثة آلاف ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ*) يعلمنا الرسول القائد صلى الله عليه وسلم أمرا مهما وهو الاستخلاف ، والإنابة ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعسكر في موقع غير بعيد عن المدينة ، ولانشغاله كلف الصحابي الجليل ابن أم مكتوم بإدارة شؤون البلاد حتى يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم ، منعا لازدواج المهمات وكي لا تشغله أمور ثانوية عن أوليات وأساسيات ، وهنا إشارة للقادة والمديرين بأن يستخلفوا من يرونه أهلا من التابعين أثناء غيابهم أو لظروف ما ، فتتحقق مصالح عدة من أهمها تفرغ القائد للأهم ، وتربية التابعين على القيادة والإدارة ، ومن ثم تكوين جيل من القيادة الواعدة المؤهلة الجديرة … فالقائد ليس مخلد !!


(9) الموقف التاسع : [ أزمة تفتيت الجيش ] .
* ـ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قائد غطفان ، وعرض عليه ثلث ثمار المدينة ، واستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة قبل أن يتخذ القرار النهائي ، فقالا له : يا رسول الله أأمر تحبه فنصنعه ؟ أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به ؟ أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال : بل شيء أصنعه لكم ، فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله مالنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : فأنت وذاك .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ*) المفاوضات التي تبنى على معلومات أساس وركيزة ينطلق منها القائد العظيم فالرسول صلى الله عليه وسلم علم الحلقة الأضعف في الجيش المعادي من حيث الهدف العام ، فقرر الدخول من هذا الباب واستثمار الفرصة ، فبنو غطفان هدفهم الرئيس نيل حصة من ثمار خيبر نظير مشاركتهم ( مرتزقة ) ، وكسرا لشوكة الأحزاب فاوضهم الرسول عليه الصلاة والسلام على ثلث ثمار المدينة نظير انسحابهم ، فيتفكك جيش العدو .
(ب) القائد الناجح هو الذي يشرك التابعين وأصحاب الرأي في صنع القرارات ومن ثم يتخذ البديل الأنسب والأمثل ، فها هو صلى الله عليه وسلم يشعر الصحابيين سعد بن معاذ وسعد بن عباده – فهما المعنيان بثمار المدينة نيابة عن قومهما – بالأمر ويشرح لهم كافة الجوانب التي جعلته يقدم على هذه الخطوة ، ليسمع منهما .
(ج) الحوار الهادئ الرصين دون تعنت أو صخب هو نهج القائد العظيم والتابعين الأكفاء ، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يحاور السعدين في الأمر ويناقشهما ويرسل المعلومات ويستقبل أخرى في اتصال بديع دونما تشويش أو تأثير خارجي يؤثر على فهم الرسالة ومن ثم اتخاذ قرار خاطئ ، وهذا الاتصال الراقي ظهر جليا في أدب السعدين مع قائدهما وتغليب القائد رأي السعدين على رأيه .. فتأمل – رعاك الله – كمال شخصيته صلى الله عليه وسلم !!
(د) القائد الناجح هو الذي يختار البديل الأفضل حتى وإن لم يكن صاحب الرأي ، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة ـ والمواقف كثيرة ـ بأن اعتمد توصية السعدين ، واتخذ قرارا بعدم منح غطفان أي حصة من الثمار وليس لهم إلا السيف .


(10) الموقف العاشر : [ الحراسة وحفظ حدود المدينة ] .
* ـ تضحيات يقدمها المسلمون في حراستهم للخندق ، فسعد بن أبي وقاص يحرس ثلمة ، وعباد بن بشر مع نفر من الصحابة يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسيد بن الحضير يحرس جهة أخرى ، وأمّن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حرسا للذراري الذين تركهم في المدينة ، فلم يغفل أحد عن الخندق ليلا أو نهارا .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) القائد العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع مجالا للمشركين في أن يستثمروا أنصاف الفرص أو أرباعها أو أدنى من العشر ، فرغم دقة التخطيط و التنظيم في حفر الخندق ، ألا أنه كان يعمل صلى الله عليه وسلم بمبدأ تأمين كافة السبل لإنجاح الخطة الدفاعية منعا لتسلل الكفار ، وقد حدث ذلك من بعض فرسانهم كعمرو بن ود وغيره ، ووجدوا صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالمرصاد ، وكل ذلك ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يوجه ويشرف ويتابع ويحفز ، وصحابته أيديهم في يده قولهم وفعلهم : سمعا وطاعة ..
(ب) القائد العظيم هو الذي يأخذ حذره ولا يجعل الأحداث تقع عليه كالصدمة تنهيه قبل أن يفيق منها ، فهذا العظيم خير خلق الله يجعل قوة حراسة تحرس الذراري والنساء وبيوت المدينة ، رغم معاهدة حفظ الجوار المبرمة مع بني قريظة ، فحدث ما لم يكن في حسبان الكثير ولم تغب عن رسولنا صلى الله عليه وسلم حينما نكث بنو قريظة العهد .


(11) الموقف الحادي عشر : [ القدوة والأسوة الحسنة ] .
* ـ كان لجابر بن عبد الله رضي الله عنه شاة صغيرة ، ورأى ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الجوع ، فطلب من زوجته أن تعد طعاما ، فطحنت شيئا من شعير ، وذبحت تلك الشاة ، ثم ذهب للرسول صلى الله عليه وسلم يدعوه وأحد الصحابة أو اثنين معه ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته : يا أهل الخندق إنّ جابر قد صنع لكم سورا فحي هلا بكم ، وطلب الرسول الكريم من جابر أن لا ينزل برمته ولا يخبز عجينه حتى يأتيهم ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصق في الطعام وباركه ، وأمر الصحابة أن يدخلوا عشرة عشرة ، وبعد أن انتهى القوم نظر جابر إلى الطعام فوجده لم ينقص شيئا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) إحساس القائد العظيم بالتابعين وحالتهم النفسية ، وأنهم جميعا في خندق واحد ، جعل الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم يدعو الجميع وهو يعلم أن الطعام قليل وأنه لو ذهب لوحده فلن يلومه أحد أو يعتب عليه ، ولكنها بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا منهج قلما يدركه القادة والرؤساء وصدى الرحمة بتابعيهم … فتذكر !
(ب) وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله بأسلوب واضح وبسيط بأن لا ينزل البرمة … حتى يأتي ، فالقائد العظيم يجب أن تكون أوامره واضحة للمرؤوسين كي يعرف ماذا يعمل ، ومن ثم اختصار الوقت في الأداء .


(12) الموقف الثاني عشر : [ نكث بني قريظة للعهد ] .
* ـ في أوج المحنة وغزوة الخندق لا تزال تطحن رحاها ، قام اليهودي حيي بن أخطب بلعب دوره الخبيث واقنع بني قريظة على نكث العهد مع المسلمين ، فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمرهم ، فأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة للتأكد من الأمر ، وأوصاهما أن يلحنوا له لنا عند صدق الخبر ، وإن كان القوم على العهد ، أوصاهم أن يجهروا به بين الناس ، فذهب الصحابيان إلى بني قريظة ووجدا الغدر ونكث العهد ، ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا : يا رسول الله ( عضل والقارة ) ـ أي كغدر عضل والقارة ـ عندئذ كبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : أبشروا يا معشر المسلمين .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) مع وجود معاهدة بين المسلمين وبني قريظة ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل الدوريات والحراسات للاطمئنان على حدود المدينة الجنوبية ، احتسابا لهذا الموقف .
(ب) المعلومات ركن مهم من أركان القيادة التي يجب أن يستندوا إليها ، فهي مدخلات للوظيفة المحورية في الإدارة وهي (القرارات ) ، فهذا الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يتسلح بالمعلومة المؤكدة يبعث صحابيين كريمين ليتأكدا من الخبر ، وأوصاهما كتمان الأمر عندما يكون سلبيا ونشره في حالة إيجابية الخبر .
(ج) القائد المحنك يستقطب القوي الأمين ليحقق أهدافه ، فكان السعدان رضي الله عنهما من حلفاء بني قريظة السابقين وكلاهما سيد قومه ، فكان بعثهما معا ضمانا لوحدة الرأي وعدم الفرقة والاختلاف بين الحيين الكبيرين من الأنصار ، وكان الجليلان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة عند حسن ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما ، فقاما بتأكيد الخبر ونفذا الأمر وكتماه وبذكاء بالغ وفطنة لحنوا له لحنا يعرفه كناية عن الغدر .
(د) القائد الناجح هو الذي يضع البدائل المحتملة قبل وقوعها ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي السعدين بأن يلحنوا له لحنا يعرفه ، عند تأكد خبر الخيانة ، منعا لإشاعة الفوضى والإحباط في نفوس الناس عند نشر الخبر ، فاخمد فتنة قبل أن تقع .
(هـ) القائد العظيم هو الذي يحقق الأهداف من أعشار الفرص ، وهو الذي يحول الأزمة إلى فرصة وغنيمة ، فعندما بلغ الرسول صلى الله وعليه وسلم أمر بني قريظة من الصحابيين الجليلين ، فكبر ـ وبشّر المسلمين ، ضمانا وتأكيدا لعلو الهمة وروح معنوية عالية لا يمكن زعزعتها ، ولو كان الخطب جللا .
(و) القائد العظيم لا يفتح جبهات عديدة في آن واحد ، بل يصفي خصومه واحدا تلو الآخر ، فحنكة الرسول صلى الله عليه وسلم جعلته يهوّن من جريمة بني قريظة واكتفي بالتكبير وزف البشرى ، وابتعد عن التهديد والوعيد .. فأرجأهم إلى حين ومن ثم ينزل فيهم حكم الله … وكان له ما أراد .


(13) الموقف الثالث عشر : [ طول فترة الحصار وإسلام نعيم بن مسعود ] .
* ـ عندما أسلم نعيم بن مسعود من بني غطفان ، جاء للرسول صلى الله عليه وسلم أثناء غزوة الأحزاب ، وأخبره بإسلامه ، فقال له صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت ، فسعى في إيقاع الفرقة بين الأحزاب .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) القائد الناجح في أوج الأزمة يتخذ القرارات الصعبة ، فهذا رجل من جيش العدو ويأتي معلنا إسلامه وهو فرد واحد ، فيأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يكون سلاحا فكريا موجها للعدو ، وأن يسعى لتفريق كلمتهم وتشتيت أمرهم بالوقيعة بينهم .
(ب) خلخلة العدو بصديق الأمس من الأسلحة التي يلجا إليها القادة ، فهذا الصديق لا يخالجهم شك في ولائه ، فيصدقون قوله ولا يتهمونه ، فكان نعيم بن مسعود وهو رجل واحد فرصة اغتنمها الرسول صلى الله وعليه وسلم وحقق بها أهم أهدافه وهو تشتيت الأحزاب وتفريق كلمتهم وفك الحصار .
(ج) طول فترة الحصار وشدة البرد فتت في عضد المشركين ، و العرب لا يطيقون الصبر طويلا على الحصار والقتال لفترة طويلة ، لذا شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذمر الكفار بلغ السطح لعدم تحقيقهم مطلبهم ، فقضى عليهم بنعيم بن مسعود وفكره ، ولو كان هذا الأمر أول أيام الحصار ، نتوقع أن يواجه نعيم بن مسعود صعوبة في تحقيق ذات النتائج التي توصل إليها آخر أيام الحصار .


(14) الموقف الرابع عشر : [ أزمة المعلومات وتكليف حذيفة بن اليمان ] .
* ـ علم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الأحزاب واختلاف أمرهم ، فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ، ثم يرجع ، اسأل الله أن يكون رفيقي بالجنة ، كررها عدة مرات ، ومن ثم بعث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ليأتيه بخبر القوم ، وأن لا يحدث أمرا حتى يرجع ، ورأى حذيفة أبا سفيان يصلي ظهره وكاد أن يرميه بسهم ولو رماه لأصابه ، ولكنه تذكر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذعن للأمر ولم يخالفه ، وعند عودته كان يرتعش من شدة البرد فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم فضل عباءته ، وأوقظه بعد أن غط في النوم ، قائلا : قم يا نومان .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) نقص المعلومات من أهم المعضلات التي تواجه القادة ، لذا عليهم اختيار الكفء الأمين الملتزم لتنفيذ المهمات الصعبة ، فكان اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان وكان رضي الله عنه خليقا بهذا الاصطفاء .
(ب) عنصر الأمان من أهم العناصر التي يحتاج إليها المرء ، حتى وإن كان الحدث في غمرة الحروب وعند الملمات ، وهنا تظهر حكمة القائد وعظمته صلى الله عليه وسلم بان اختار حذيفة بن اليمان وطمأنه بان قال : ( ويرجع ) فضمن له العودة بعد إنجاز المهمة ، وبعد ذلك يأتي للحاجة العظيمة : بان قال : ويكون رفيقي بالجنة ، فحقق حاجة الأمن وانتقل إلى الحاجة الكبرى : مرافقته في الجنة .
(ج) القائد العظيم يحسن اختيار من ينفذ أمره ولا يخالفه لاسيما عند الحدث الجلل ، والأمر يجب أن يكون واضحا جليا لمتلقي الأمر حتى لا يعصيه قاصدا أو بلا قصد ، فقال : ( لا تحدث أمرا … ) فجعلت حذيفة يضع نصب عينه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عند تمكنه من زعيم الأحزاب ، فحنكة القائد العظيم باختيار الفرد المناسب جعلت هذا الفرد لا يعكر صفو قائده بتصرف غير سليم تكون عواقبه وخيمة ، ونختصر إدارة هذه الأزمة في التالي اختيار وقرار وحزم وضمان ووعد وطاعة ، أدت إلى تحقيق هدف بكفاءة وفاعلية ) .
(د) المحافظة على المخلصين ومكافأتهم والثناء عليهم من أبجديات القائد الناجح التي يجب ان يعيها ويجعلها نصب عينيه ، فالحفاظ على تابع ناجح والصبر عليه خير ألف مرة من استقطاب تابع جديد ، وهنا حبيبنا صلى الله عليه وسلم يكافئ حذيفة عند عودته برحمة ورأفة ظاهرة بان ألبسه فضل عباءته ويمازحه وهو يوقظه : قم يا نومان ، … فليت القادة يرحمون !!


(15) الموقف الخامس عشر : [ اتخاذ شعار ] .
* ـ قال ابن هشام : كان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ويوم بني قريظة : حم لا ينصرون .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) القائد الناجح هو الذي يلتفت إلى كل ما من شأنه بث الحماس والهمة في أتباعه ، وجعلِ شيء مشترك يتفق عليه الجميع ويتعارفون به أمر محمود ، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن جعل شعارا للحرب ( حم لا ينصرون ) وغزوة أخرى ( أمت .. أمت ) ، وهذه الأمور يجب أن يأتسي بها القادة بجعل شعار وقيم مشتركة في العمل المؤسسي يتبناها الجميع من أدنى الهرم إلى أعلاه .


(16) الموقف السادس عشر : [ الهجوم خير وسيلة للدفاع ] .
* ـ بعد انتهاء غزوة الأحزاب ، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا ) .


* ـ إدارة الأزمة :
(أ) القائد العظيم هو الذي يستشرف المستقبل ويأخذ بزمام المبادرة ، ويجعل الهجوم خير وسائله ، ولا يأتي ذلك سوى بتكامل جميع المقومات وتطويرها باستمرار لتكون خير معين لهذا الأسلوب ، ولا يمكن الأخذ بزمام المبادرة بدون توافر إمكانات ، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فلم تغزى المدينة بعدئذ ، قال تعالى : ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) .





————————————————-


د. منيف المطرفي


دكتوراة في إدارة الموارد البشرية