هل تجرؤ أن ترى نفسك على حقيقتها دون مساحيق تجميل ؟ ..يقولون أن عقلك الباطن هو أسوأ ما في الكون .. مخاوفك منذ أن كنت رضيعا ..حينما استيقظت فلم تجد أمك جانبك وشعرت أنها تخلت عنك وتركتك لمصيرك ..رعبك حينما أغلقوا عليك بوابة المدرسة الغليظة في أول يوم من الدراسة وسط بكاء الأطفال المذعورين ..اكتشافك أنك نسيت كراسة الواجب والمعلم يتفقد الكراريس بعصا غليظة ..مشاعر الكراهية التي شعرت بها صوب أقرب الناس إليك وكان يجب ألا تشعر بها ..الألم ، الرغبة المحرمة ، الحسد ..دبيب الغرائز الغامضة ..كل هذه الأشياء الكريهة التي هربت من قلبك وتسربت في دمك إلى تلك الحجرة المخيفة .
قدس أقداسك هو عقلك الباطن.. الحجرة الموصدة بأقفال محكمة ومزاليج مختومة ..نظرة واحدة على مكوناتها تكفي لأصابتك بالجنون إلى الأبد ..والحل الوحيد لتحتفظ بسلامك النفسي أن تتجاهل وجودها تماما وتعتبرها غير موجودة .
وهناك غرفة أخرى في دهاليز روحك .. مشرعة الأبواب لأنه ليس هناك فيها ما تخفيه عن نفسك .. مفتوحة الشبابيك تدخلها الشمس من الاتجاهات الأربعة ..إنها المثل الأعلى أو ما تصبو أن تكونه ..فيها أشياؤك الجميلة المكدسة ..ألعاب الطفولة ، خاتم خطوبتك ، كراسة أشعارك ، مصحف صغير منحته لك أمك ، قنينة عطر أهدتك حبيبتك ، قرش أعطيته فقيرا دون أن يراك أحد ، أفراحك ، أحلام يقظتك أن تساهم في جعل العالم أنظف على قدر طاقتك .
..............
تصرفاتنا صراع بين أبشع غرائزنا وما نحب أن نكونه .. مزيج الخير والشر ، والأبيض والأسود .. حتى أصحاب النفوس المظلمة يحاولون أثبات شيء لنفوسهم قبل أن يفكروا في إثباته للآخرين ..يندر أن تصادف - في حياتك العادية - خيرا مطلقا أو شرا مطلق : ملائكة أو شياطين ..البشر العاديون واقفون بين الغرفتين ، المظلمة والمشمسة على مسافات متفاوتة.
كثيرا ما تحيرنا تصرفات الناس وتحيرنا أكثر تصرفاتنا ..التدين المخلوط بالجنس ..مسارعة الراقصات لأعمال الخير..وهذه الأساليب الدفاعية التي نقوم بها لنحتفظ بسلامنا النفسي ..لا يستطيع المرء مهما كان وغدا أن يبدو في نظر نفسه منحطا ..لذلك يمسك بالسبحة ويتمتم بالدعاء ويلهج بالفضيلة وهو لص وغد منحط .ليس نفاقا للآخرين بقدر ما هو نفاق لنفسه .
يندر أن تصادف إنسانا صادقا مع نفسه أيا كان نصيبه من الخير والشر ، لذلك أقسم الله تعالى بالنفس اللوامة ..النفس التي تعترف بأخطائها ولا تقول كما يقول الآخرون : عيبي أنني أطيب / أكرم / أفضل من اللازم ..
صعب أن تجد هذا الرجل الذي يقول لنفسه : بصفتي وغدا فعلت كذا وكذا .. ولأنني بخيل لم أشتر كذا ..هربت من المواجهة لأنني ضعيف وجبان ..سيصف البخل بالحكمة ، والجبن بالتعقل والضعف بسعة الأفق.
.............
من أعمق الشخصيات الروائية التي تناولت هذا الجانب النفسي الشائك شخصية محجوب عبد الدائم التي رسمها نجيب محفوظ في روايته المشهورة " القاهرة الجديدة " أو " القاهرة 30 " ..حقق فيها المعادلة المستحيلة : وغد يعلم أنه وغد / يفخر أنه وغد ، ويصنع من سفالته فلسفة كاملة .
طويل القامة ، مفلفل الشعر ، جاحظ العينين ، شعاره الدائم طظ : طظ للمبادئ ، للدين ، للعلم ..للأخلاق ..بالنسبة له طظ ليست مجرد شعار بل هي مثل أعلى .
التحرر الكامل من التراث الاجتماعي ..من صلته البيولوجية بأبويه المعدمين في القناطر الخيرية ..من الحمق أن يقف أي مبدأ حجر عثرة ..غايته في دنياه : اللذة والقوة ، بأيسر السبل والوسائل ، دون مراعاة لدين أو فضيلة. هو مدين لنشأته للشارع والفطرة مع اقرأنه من صبية ينطلقون بلا وازع فسب وقذف واعتدى واعتدي عليه وتردى إلى الهاوية ، فلما أتنقل إلى المدرسة أخذ يدرك أنه كان يحيا حياة قذرة ورأي حوله شبانا مهذبين يطمحون إلى المثل العليا لكنه عثر على موضة الإلحاد والتفسيرات التي يبشر بها علماء النفس والاجتماع فسر بها سرورا شيطانيا .. كان ساقطا فصار فيلسوفا ..
ومنذ اللحظة الأولى أدرك أن مبادئه سريه لا يجوز الإعلان عنها – لا احتراما للرأي العام فإن من مبادئه احتقار كل شيء – ولكن لأنها لا تؤتي أكلها إلا إذا كفر الناس بها وآمن بها وحده . وإلا فكيف يتميز بينهم ؟
" شاب في الرابعة والعشرين ، جامعي ، طوع أمر كل رذيلة ، عن طيب خاطر يبذل كرامته وعفته وضميره نظير إشباع طموحه " ، هذا هو الإعلان العجيب الذي ود لو أمتلك شجاعة نشره في الصحف ..
....................
هذه الفلسفة العجيبة تعرضت لكثير من المحن والاختبارات ولكنه استمات في الثبات عليها كما يفعل أصحاب الرسالات الحقيقية !! ..عندما سقط والده مشلولا ولم يعد قادرا على معاونته ماليا في دراسته الجامعية ..طحنه الجوع طحنا ، وأشتد هزاله وشحب وجهه حتى خاف على نفسه من الهلاك ، وبرغم ذلك لم يستطع أن يسأل أصدقاؤه أن يطعموه ، ولو سألهم ما ترددوا ، فماذا كان يمنعه ؟ ، الكرامة ؟ الكبرياء ؟ ، هكذا كان يسأل نفسه في حنق ، تبا له ، ألم يكفر بكل القيم ؟ ، فما باله يأبه بالكرامة والكبرياء ؟ لا تزال فلسفته كلاما وهراء !! متى يصير رجلا حقا ويفرط في كرامته وعرضه كأنه ينفض ترابا عن حذائه !!.
الرد لم يتأخر طويلا ( وكلنا نعلم أحداث الراوية وشاهدنا الفيلم ) .كان ثمن الوظيفة أن يتزوج عشيقة البك الكبير متغاضيا عن زيارته الأسبوعية لها ..كان ثمنا فادحا ولكنه لم يتردد ..عفة ؟ كرامة ؟ زواج ؟ أيشعر بالإهانة ؟ ، إن الحياة تنبري لامتحان فلسفته لتثبت إن كانت سفسطة وجدلا أم عقيدة وعملا ؟ .. فيا أيها الاضطراب زل ، ويا أيها الغضب اسكت ، وليتحدث عن الزوجة الساقطة كما لو كان يتحدث عن درجة حرارة الجو في البرازيل .
أيشعر بما يدعونه غيرة على العرض ؟ ، حاشاه ، أيصدق فيما يسمونه الشرف ؟ تبا له ..لقد كلمته الأخيرة في كل هذه الأشياء فينبغي أن يختار دون تردد ..التردد معناه أنه لا يزال غير أهل لفلسفته الجسور !! .
......................
لكن الأمر لم يسر على هذا الأساس النظري ..فالعقل لا ينفرد بتوجيه شعورنا ..فثمة الشعور ، وهناك الغيرة الطبيعية التي يستشعرها حتى ذكور الحيوانات صوب إناثهم ..حينما أزف موعد البك الكبير وغادر البيت في عجلة ليتيح له خلوة آمنة حاول أن يقول طظ من قلبه لكنه لم يستطع ..نفثت الغيرة سمها القتال ، وراح يدور في الشوارع على غير هدى ويتساءل : أمسرورة هي بهذا اللقاء ؟ ..شرب بشراهة لا عهد له بها ..وراح يسأل نفسه وقد كبر عليه أن يأسى على معنى تافه ( !!) من المعاني التي ثار عليها وكفر بها ..أغضب حقا لعرضه ؟ وما عرضه ؟ ألم يتحرر من هذه الأغلال جميعا ؟ ..وأدرك على الفور أن فلسفته والخمر من جوهر واحد .
لقد قبل الزواج بادئ الأمر على أنه مساومة نفعية فلماذا لا يقاتل هذه العواطف حتى يقتلها ؟ أيستسلم لما يستسلم له الحمقى من بني آدم ؟ ففيم التخبط والحيرة ؟ ومتى يبلغ بحياته أقصى الكمال ؟.
امتحان آخر تعرضت له فلسفته العجيبة ..والداه المعدمان اللذان ينتظران نصيبيهما من راتبه بفارغ الصبر بعد أن صارا بلا مأوى ولا طعام.. وتولاه الغضب من نفسه حينما لم يفلح في طرد صورتهما عن مخيلته فلم يفلح ..لم يكن حبهما هو دافعه ولكن شعوره بالتبعية والانتماء ..وضاعف ذلك من غضبه على نفسه ..ما البنوة ؟ أليست عادة سخيفة لاحقة بظاهرة الأسرة يكفر بها كما كفر بأخوات لها من قبل ؟ ..وتساءل : لماذا يعيشان وما فائدتهما في الحياة ؟ ولماذا لا يموتان فيستريحان ويريحان ؟ ..البر بالوالدين شر إذا عاق سعادة الابن . ولكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا يشعر بكل هذا القلق والتمزق ؟ كيف يطرد سحائب الوحشة من صدره ؟ ..لقد ظفر بالكثير بفضل حرية عقله وقوة إرادته وتلك الحكمة الغالية " طظ " فلا يجوز أن يفرط في كنز من كنوزه الغالية .
....................
لا يعنينا في هذا المقام استقصاء أحداث الرواية ، ولا كيف انقلبت الأمور رأسا على عقب بعد ذلك بوشاية من منافس له في العقيدة النفعية (ولكل داء آفة له من جنسه )..المهم أنه في أحلك الظروف - بعد فضيحته وعزله ونقله - لم يتنازل عن فلسفته أو يشعر بما يسمونه ندما أو ضميرا ، كل ما في الأمر حظ غير موات ..ألا تكتظ الدنيا بأمثاله من المغامرين الذين تترفق بهم حتى النهاية ؟ ..أحيانا تصاب الحظوظ كالأعمار بالسكتة القلبية ، فهل يمكن أن تصمد طظ لهذا الشلال من الحظ العاثر ؟
سؤال سوف نترك إجابته لصاحب هذه الفلسفة العجيبة الشيطانية ..لكني أسجل له – برغم كل شيء - أنه كان أكثر صدقا مع نفسه من معظم الناس ، ومن ضمنهم أنا وأنت .