د. محمد رياض حمزة:--

كان من بين أكثر تبعات الأزمة المالية الاقتصادية العالمية على الدول الصناعية المتقدمة أن تسببت في الاستغناء عن الملايين من القوى العاملة وتحولوا إلى باحثين عن عمل، ولعل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان وحتى في العملاقين الآسيويين الصين والهند تئن اليوم من نسب باحثين عن عمل عالية بالمقارنة مع الزمن الذي سبق تفجر الأزمة، ولعل نسب الباحثين عن عمل في الدول النامية أعلى بكثير من الدول المتقدمة، ويقدر مجموع عدد الباحثين عن عمل حول العالم بأكثر من 200 مليون عامل في سن العمل.

غير ان معظم الذين تم الاستغناء عنهم بسبب الأزمة من المهن والوظائف الوسيطة وما دون، أما الوظائف والمهن المصنفة حسب الخبرة والتخصص بـ(المهن والوظائف العليا) الاستشارية والبحثية، فإن الطلب عليها،كان ولا يزال وسيبقى، قويا وفعّالا. وهنا يأتي الحديث عن التأهيل والتخصص والإجادة في التحصيل الدراسي (الأكاديمي)، فخريجو الجامعات الرصينة ذات الرقي العلمي والمعرفي الأشمل لا يجدون صعوبة في الحصول على فرصة عمل، فهم بالإضافة إلى التخصص العلمي مهيأون لإنتاجية أعلى في أدائهم، وأنهم مصدر للقيمة المضافة وهم من يضاعف الربح في العمل الذي يؤدونه. في أحدث تصنيف لـ400 جامعة ومؤسسة أكاديمية في العالم أخرجته شركة (ثومسون رويترز) في إطار تقاريرها السنوية عن مؤسسات التعليم العالي لم تنل أي جامعة أومؤسسة تعليم عالي عربية أي موقع بين جامعات العالم المصنفة، رغم أن دراستها الاستقصائية شملت دول إفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكتين الشمالية الجنوبية وكل من استراليا ونيوزيلندا. ولم يأت ذكر الدول العربية في أي من التخصصات التي شملت الفنون والعلوم الإنسانية والتخصصات الطبية والهندسة والتكنولوجيا وعلوم الحياة (البايولجي) والعلوم الصرف (فيزياء وكيمياء ورياضيات). وتكرر أن تكون للجامعات والكليات والمعاهد الأمريكية النسبة الأكبر في الرقي والرصانة العلمية بين جامعات العالم، فمن بين 400 جامعة أخذت الجامعات الأمريكية نسبة 37% منها، جاء من بين أعلى 10 جامعات تنازليا كل من: معهد كالفورنيا للتكنولوجيا بالمركز الأول (أمريكا)، وكل من جامعة ستانفورد (أمريكا) وجامعة أوكسفورد (بريطانيا) بالمركز الثاني، وحجب المركز الثالث ولم تصنف عليه أي جامعة، أما المركز الرابع فأخذته جامعة هارفارد (أمريكا)، ثم معهد مساشوستس للتكنولوجيا (أمريكا) بالمركز الخامس وجامعة برنستون (أمريكا) بالمركز السادس، وجامعة كيمبرج (بريطانيا) بالمركز السابع، وإمبريال كالج (بريطانيا) بالمركز الثامن، وجامعة كالفورنيا (أمريكا) بالمركز التاسع وجامعة شيكاغو (أمريكا ) بالمركز العاشر. ولعل معرفة تصنيف الجامعات في العالم رصانة وعلمية ورقيا أمر مهم، إذ يشكك عدد غير قليل من الأكاديميين بصدق وعلمية التصانيف، إلاّ أن معرفة معايير التصنيف وتقييم الجامعات هي الأهم لتكون دليلا للجامعات العربية. والتي أهمها كما يلي. ــ هيئة التدريس وأساليب التدريس: ذلك على اعتبار أن أعضاء هيئة التدريس هم المعنيون في كل ما سيأتي من المحاور الاعتبارية في التقييم، فعضو هيئة التدريس هو الأكاديمي والمستشار الرئيسي، وهو الباحث وهو الواضع للمناهج وطرق التدريس ومطورها، وقبل ذلك وبعده هو المدرس الذي يوجد التفوق والرقي في التعليم وينقل معارفه وخبراته العلمية والسلوكية للطلبة، فرقي الجامعة والكلية والمعهد بكادرها البشري (بأعضاء هيئة التدريس). ويكفي أن نعرف أن هناك في الجامعات الراقية علماء لا نعرفهم ولا نسمع عنهم وهم يفنون أعمارهم في بحوث نواتجها خدمة البشرية. ــ البحث العلمي: قد لا يعرف الكثير أن تلك الجامعات الأعلى تصنيفا لا تعتمد على تمويلها ومن ثم إنفاقها على الأجور الدراسية التي يدفعها الطلبة، وإن كانت تعتبر مصدرا ماليا مهما، إلا أن معظم ماليتها مصدرها البحث العلمي، إذ تمول تلك الجامعات بسخاء من الحكومات والشركات والمؤسسات والمثرين من الأفراد، والبحث العلمي يتواصل فيها في تنافس محموم لخدمة الإنسانية والأسواق. مثال: في بحث مشترك بين "جامعة هارفارد" و"معهد مساشوستس للتكنولوجيا" الأمريكيتين يعمل فيه فريق من عشرات العلماء على تطوير أجهزة إلكترونية دقيقة تعمل على تحجيم أو قتل الخلية السرطانية (في إطار تكنولوجيا النانو) بعد أن فشلت الجراحة والعلاجات بالمواد الكيميائية بنسبة كبيرة في القضاء على الأمراض السرطانية. كذلك فإن من بين معايير التقييم معرفة كم كان حجم الفائدة من البحوث وتحويلها إلى واقع مادي. أو كم كان عدد الأفراد والمؤسسات والشركات التي استفادت من البحوث. فالبحث العلمي يتواصل في هذه الجامعات وإنها تستحق المكانة والسمعة التي تصنف عليها. ــ نقل وتبادل المعرفة عالميا: لم يكن هذا المعيار من بين معايير تقييم أو تصنيف الجامعات في السابق، ووجد أن الجامعات التي تشارك العالم بعلومها وإنجازاتها البحثية وأساليب التدريس المحدثة، وتتبادل الخبرات على مستوى العالم أجدر بها أن تأخذ تصنيفا أعلى: مثال.. وضع "معهد مساشوستس للتكنولوجيا"(أمريكا) مكتبته على شبكة الإنترنت مجانا للعالم كله كما فعلت العشرات من المكتبات في الجامعات الأعلى تصنيفا. ــ منجزات الطلبة: لابد أن نعرف أن ليس من السهولة قبول أي طالب في تلك الجامعات إلاّ إذا كان مؤهلا وجادا في التحصيل، كما أن القبول لا يضمن استمرار الطالب حتى تخرجه، فمن لا يتابع التفوق والإجادة لا يسمح له بمواصلة الدراسة فيها. كما أن من بين أهم أحدث أساليب التدريس هي إلقاء العبء الأكبر في التطور المعرفي على الطالب نفسه في البحث والفهم وليس الحفظ، لكون منجزات الطلبة في البحوث من بين معايير تقييم الجامعات بإجادة طلبتها في البحوث والدراسات خلال مراحل الدراسة الجامعية الأولى والعليا. ــ المناهج وطرق التدريس: يتعين تحديث المناهج ومواكبتها تطور العلوم والتكنولوجيا والمعرفة الموسوعية ككل في هذه الجامعات. كما أن أساليب التدريس تطورت بما تجعل الطلبة أكثر إنجازا واستيعابا وفهما للمواد المقررات الدراسية بأساليب المتابعة الذاتية للطالب بالاستعانة بما ينشر وما يتوفر في المكتبات وشبكة الإنترنت والمصادر الميدانية وغيرها. ولم تعد المحاضرة والتلقين والحفظ عن ظهر قلب وحدها كافية لتطوير أساليب التفكير المنهجي عند الطلبة. ــ وهناك أيضا معايير أخرى مثل نسبة عدد الطلبة إلى عدد أعضاء هيئة التدريس، والمكتبة الجامعية وسعتها، وعدد المراكز البحثية وغيرها. ــ وشارك في تقييم ما تقدم من المعايير كل من الطلبة وأعضاء هيئات التدريس، ومستشارو الجامعات ورؤساؤها، ورجال الأعمال والمؤسسات الحكومية المشرفة على التعليم. جدير بالذكر أن معظم الجامعات التي نالت تصنيفا متقدما هي جامعات أوكليات أو معاهد خاصة، وقد تكون للحكومات إسهاما في الدعم المالي، كما أن تلك الجامعات تتمتع باستقلالية عالية. عمان: السبت ٦ / ١٠ / ٢٠١٢م