السلوكيات الاقتصادية لرسول الله r
(الشخصية والأسرية)
اعداد:دكتور حسين شحاته
الأستاذ / بجامعة الأزهر

± تمهيد:
كانت حياة رسول الله r الشخصية والأسرية مليئة بالعبر والدروس في كل نواحي الحياة ومنها الاقتصادية، ولقد تضمنت العديد من المواقف والوصايا والنصائح والنماذج الاقتصادية العملية التي تؤكد تأكيداً جازماً بأن الإسلام منهج شامل لكل نواحي الحياة، ويتضمن برنامجاً اقتصادياً قادراً على معالجة مشاكلنا المعاصرة.

وسوف نتناول في هذه الدراسةالسلوكيات الاقتصاديةلحياة الرسول r في اوقات الكسادوالرخاء، وفي اليسر والعسر، وفي المكره والمنشط لنأخذ منها العبر والدروس.

? سلوكيات الرسول r في طعامه وشرابه:

كان الرسول r مقتصدا في طعامه وشرابه وملبسه... فقد قال r: "الاقتصاد نصف المعيشة" (ابن السني وأبو داود)، وقال r"ما عال مناقتصد" (رواه أحمد). ومن آداب رسول الله r في الطعام الاقتصاد، وعدم الشره، ولم يكن أكولاً أو مسرفاً كما هو الحال في معظم رؤساء وحكام العرب المسلمين اليوم، وكان يقلل من الأكل حتى يقوى على عبادة الله، فقد قال r: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، حسب ابن أدم لقيمات يقمن صلبه، فإن لم يفعل، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" (رواه الترمذي وقال حديث حسن)، وقوله e: "من فقه الرجل قصده في معيشته" (رواه أحمد).

? كان الرسول r يجلس وينام على الحصير:
يقول عمر بن الخطاب : دخلت على رسول الله r وهو على حصير قال عمر: فجلست، فإذا عليه إزار وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه، وإذا بقبضة من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية من الغرفة، وإذا إهاب معلق، فابتدرت عيناي بالدموع، فقال رسول الله r: "ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟" فقال عمر: يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزائنك. فقال رسول الله r: "يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لناالآخرة ولهم الدنيا ؟" قلت بلى. (رواه النسائي).

لقد أمر الرسول r بالبعد عن حياة البذخ والترف وهي من أسس الاقتصاد وموجبات استقرار الحياة الرغدة.

فشتان الفارق بين حياة رسول الله r وحياة حكام المسلمين اليوم، هم في القصور والسيارات والحرير والذهب والمكيفات.... ألم يعتبروا من حياة الرسول r.

? موقف الرسول r من الإسراف والتنعم:
لقد نهى رسول الله r عن الإسراف بصفة عامة في المأكل والمشرب والملبس وفي كافة نواحي الحياة، ويقصد به تجاوز الحد، حيث يعتبر من السلبيات الاقتصادية.

ومن مواقفه r في هذا المقام ما يلي:

² عن عائشة رضي الله عنها قالت: "والله ما شبع رسول الله r منخبز ولا لحم مرتين في يوم واحد" (رواه الترمذي وقال حسن صحيح).
² ولقـد مر النبي r على سعـد بن أبـي وقاص وهـو يتوضأ فقال له: "لاتسرف"، فقال سعد: أَوَ في الماء سرف يا رسول الله؛ قال r: "نعم، وانكنت على نهر جار" (رواه ابن ماجة).
² وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده y، قال: قال رسول الله e: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة" (رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم).
² وعن عبد الله بن سرجس، قال رسول الله e"السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد، جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة" (رواه الترمذي).
²وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "لم يأكل النبي r على خوان (مائدة) حتى مات، وما أكل خبزا مرققا حتى مات" (رواه البخاري).
² كما نهى رسول الله e عن التنعم وحياة البذخ والترف فقال: "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون بالكلام" (رواه الطبراني).

? موقف الرسول r من تخزين الطعام:
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي r على بلال رضي الله عنه وعنده صرة من تمر، فقال: "ما هذه يا بلال ؟" قال: أعد ذلك لأضيفك، قال رسول الله r: "أما تخشى أن تكون لك دخان في نارجهنم، انفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا"(رواه الطبراني).

عن أنس بن مالك y قال: أهديت للنبي r ثلاثة أطيار فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتيته بهما، فقال رسول اللهr "ألم أنهك أن ترفع شيئا لغد فإن الله تبارك وتعالى يأتي برزق غد" (رواه البيهقي).

هذه نماذج عملية تحث الناس على عدم تخزين الطعام بدون ضرورة حتى لا يحدث غلاء في الأسعار مثل ما يحدث في مثل هذه الأيام، فعندما يشعر الناس أن شيئا ما سوف يرتفع سعره فيهرعون لشرائه وتخزينه فيزداد سعره ارتفاعا كبيرا، والضحية هو الفقير المسكين الذي ليس معه مال حتى يشتري الضروريات اللازمة.

أما ما يدخره الناس في بعض المواسم لبعض السلع فهو جائز.. حيث ثبت أن رسول الله rكانيعطي كل واحدة من زوجاته مائة وسوق من خيبر.. وكانrيدخر لأهله قوت سنتهم من تمر وغيره.. ومعيار ذلك أنه إذا كان شراء الناس لا يؤدي إلى ارتفاع الأسعار فإن الفقهاء قد أجازوا ذلك.




? موقف الرسول r من مظاهرة نسائه من أجل التوسعة في النفقة:
تروي كتب السيرة أن نساء النبي r تظاهرن من أجل التوسعة في النفقات، ولا سيما بعد الحصول على الغنائم، فنزل فيهم قول الله عز وجل: )يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما ( (سورة الأحزاب: 28-29)، ولقد عرض رسول الله r هذه الآية على زوجاته واحدة تلو الواحدة فقالت عائشة: "بل أختار الله ورسوله".

هل تستطيع النساء المسلمات أن لا يسببن مضايقات لأزواجهن ولا سيما في وقت الأزمات؟ وهل يستطعن أن يصبرن ويتحملن مصاعب الحياة خاصة في هذه الأوقات ويقتدين بنساء النبي r ويخترن الله ورسوله والدار الآخرة ؟.

? سلوك الرسول r وقت الأزمات الاقتصادية:
كان رسول الله r نموذجاً للخشونة والصبر ومقتصداً في طعامه وشرابه، ومن مناقبهr: أنه كان يوصي صحابته ويقول لهم: "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم".وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: "لقد رأيت نبيكم رسول الله r: وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه" (رواه مسلم). وأوصى بأن ندخر لنوائب الدهر، فقال r"رحم الله امرأ اكتسب طيباً، وأنفق قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وحاجته" ( أورده الهندي في كنز العمال ج4/6 ).

² وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما شبع آل محمد r من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض" (رواه البخاري ومسلم).

² وعن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "والله يا ابن أختي إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله r نار، وكنا نعيش على الأسودين (التمر والماء)" (رواه مسلم).

² وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله r يبيت الليالـي المتتابعـة خاوياً هـو وأهلـه لا يجدون عشاءاً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ).

² تروي السيدة عائشة رضي الله عنها "أنهe كان ربما يأتي إليهاضحوة (الضحى) فيسألها: هل عندك من طعام ؟ فإن قالت له: لا، قال: إذن نصوم".

² وكان الرسول e وقت الأزمات وغيرها يطلب من صحابته وأهل بيته بالدعاء بالشبع، فقد روى البيهقي عن عمران بن حصين قال: "كنت مع رسول الله e، إذ أقبلت فاطمة رضي الله عنها فوقفت بين يديه فنظر إليها، وقد ذهب الدم من وجهها، وغلبت الصفرة على وجهها من شدة الجوع، فنظر إليها رسول الله e فقال: أدني يا فاطمة، ثم أدني يا فاطمة، فدنت حتى قامت بين يديه، فرفع يديه فوضعها على صدرها في موضع القلادة وفرج بين أصابعه ثم قال: اللهم مشبع الجاعة ورافع الوضيعة أرفع فاطمة بنت محمد، قال عمران: فنظرت إليها وقد ذهبت الصفرة من وجهها، وغلب الدم، قال عمران: فلقيتها بعد فسألتها، فقالت: ما جعت بعد ذلك يا عمران" (رواه البيهقي).

²ولقد ورد عنه e أنه قال: "المؤمنيأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" (رواه مسلم).

²وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله e: طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة" (رواه البخاري ومسلم).








? تركة رسول الله r بعد وفاته:
قالت عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله r توفي وما في بيتي من شئ يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي" (رواه البخاري)، كما روي عن عمر بن الحارث أنه قال: ما ترك رسول الله r عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا موقوفة لابن السبيل والصدقة، كما ورد فـي روايـة أخـرى أنـه مـات ودرعـه مرهونا عند يهودي (رواه البخاري).

? دروس وعبر من سلوكيات الرسول e الاقتصادية:
من السلوكيات الاقتصادية لرسول الله e السابقة يتبين بدون ريبة أو شك أنه قدوة حسنة.

ومن أبرز تلك السلوكيات ما يلي:
· كان مقتصداً في معيشته؛ في طعامه، وشرابه، وملبسه، وفي سائر حياته.
· كان متقشفاً وقت الأزمات الاقتصادية؛ وكان ينوي الصيام إذا لم يجد طعاماً.
· كان متواضعاً ينام على الحصير مع أنه رئيس دولة ورمز أمة.
· لقد نهى عن تخزين الطعام بدون ضرورة وعدم الشراء فوق الحاجة حتى لا يحدث انخفاض في عرض السلع الضرورية، وحتى لا ترتفع الأسعار.
· كما نهى عن الإسراف في كل شيء حتى في الماء، ونجد في هذه الأيام الدعوة إلى أهمية ترشيد استهلاك المياه، حيث أن الكثير من الناس يسيئون استعمالها في غير ضرورة.
· كان نزيهاً عن ما في بيت مال المسلمين من غنائم بالرغم من مظاهرة نسائه له e.
· كان لا يأخذ من مال الزكاة تعففاً وتنزهاً وقدوة.
· كان يتعاون مع أهله في شئون البيت.
· كان يعامل غلامه معاملة طيبة حسنة وكأنه أخوه في الله.
· عاش فقيراً ومات فقيراً فلم يترك قناطير من الذهب أو الفضة أو الاستثمارات أو الأموال المودعة لدى الحسابات السرية في البنوك.





الخلاصة
مما سبق كانت نماذج اقتصادية من حياة الرسول r في بيته وهناك العديد من النماذج الأخرى يضيق المقام عن سردها فأين نحن الآن من حياة الرسول الاقتصادية في بيته... ونحن ندَّعي أن الرسول زعيمنا والرسول قدوتنا والرسول معلمنا والرسول حبيبنا... ألم نستحي من رسول الله r ونلتزم بمنهجه في جميع نواحي الحياة ومنها النواحي الاقتصادية حتى نحيا حياة طيبة في الدنيا ونفوز برضاء الله في الآخرة؟

إن الأمة التي تعمل بهذه التوجيهات العظيمة وتقتضي برسول الله r هي أمة تبتغي الهدى في محله، فهل تكون لنا الآخرة وتكون للفاسقين المرتشين المحتكرين الظالمين الطغاة المترفين هذه الحياة الدنيا الزائلة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟.