بعد أن اجتاحت العالم موجة من الإرهاب، ومع وجود خلاياه النائمة التي تتحرر من سباتها أحيانا لتفاجئ العالم ببعض أنشطتها التخريبية هنا أو هناك، وفي ظل هذه الظروف.. أصبح العالم ملزما بالبحث عن مخرج من أجل القضاء على الإرهاب وتجفيف منابعه، واستئصال جذوره عن طريق توفير الأدوات التي تسهم في الحد من تفاقم هذه الظاهرة التي ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء في العالم، ومن هذه الأدوات توفير الأمن الفكري الذي يتيح الحوار مع تلك الفئات التي تتحرك تحت غطاء الإصلاح ولكن بلغة السلاح. وفي ظل الأمن الفكري يمكن تناول كل الطروحات في إطار من حرية التعبير وفق تقاليد تضمن احترام كل الآراء والأفكار دون حساسية أو تزمت، وبلغة عقلانية تستبعد العنف وتفترض حسن النية بين كل الأطراف وعلى نفس المستوى من المسئولية الوطنية.
ولكن كيف يتحقق الأمن الفكري؟إن ثمة سلوكيات لا بد من تأصيلها بين أفراد المجتمع تؤسس للتعود على حرية الحوار ، وقبول الرأي الآخر، والارتفاع بلغة الحوار إلى مستوى لا ينتابه التوتر ولا يربكه الانفعال، وفي هذا السبيل لا يكفي تلقين مبادئ تلك السلوكيات بل لابد من ممارستها ليقتدي بها الصغار من الكبار، والاقتداء وسيلة تربوية ناجحة، لإزالة القلق والتشوه النفسي وعدم الثقة بالنفس والآخر، وهي مظاهر تجتاح عقل الصغير عندما يلقن شيئا ويمارس أمامه شيء آخر من قبل أولئك الذين يلقنونه مبادئ ويتصرفون بما يناقضها، وعندما تصبح حرية الحوار تقليدا سائدا في المجتمع، لا يقع أفراده في معضلة الخوف والتردد وتجاوز الأخطاء أو التسليم بها بمنتهى السلبية، وبذلك تصبح النظرة الإيجابية تجاه تلك الأخطاء هي سيدة الموقف حين التعاطي مع تلك الأخطاء ومعالجتها بحكمة بعيدة عن الإقصاء والتعنت، فالتربية تشكل عاملا مهما في تحقيق الأمن الفكري وهي التربية القائمة على أسس سليمة لا تعرف القمع الأبوي، ولا التسلط الأسري، ولا معوقات النمو الطبعي للناشئين، في أجواء صحية من الحوار، والتفهم لاحتياجات هؤلاء الناشئين من الناحية النفسية والعقلية والجسدية، فهم عدة المستقبل التي لابد أن تتشكل على أسس سليمة، ليكون البناء صلبا وقابلا للتصدي للهزات الطارئة، والتحولات الحضارية التي يفرضها منطق العصر، والأوطان لا تبنى إلا بسواعد أبنائها، من الرجال الأكثر صلابة في مواجهة التحديات، وهؤلاء الناشئون هم رجال المستقبل الذين تقع عليهم الآمال وتتشكل على أيديهم الطموحات، وبقدر قوتهم تكون قوة الأوطان، التي لا تتحقق بالأماني والأحلام، ولكن بالتخطيط السليم، والتنفيذ المحكم الأمين، وهما عاملا حسم في كنس أسباب إعاقة الحراك التنموي عن متابعة مساره السليم.
تلعب مؤسسات المجتمع المدني دورا بارزا في تأصيل الأمن الفكري بين جميع فئات المجتمع، وهي عامل أساس في تفعيل الحراك التنموي وتأصيل ثقافة الحوار، والدفاع عن حقوق الفئات المسحوقة في المجتمع، وهذه المؤسسات هي التي تعطي مؤشرا دقيقا لما هي عليه أوضاع المجتمع، وتسعى لتصحيح مسار المعوج من هذه الأوضاع .ثمة أمر مهم هو التزام السلطة بعدم القمع أو مصادرة الرأي الآخر، وهذه الإجراءات التي تتخذها السلطة لحماية مصالحها الخاصة ستؤدي حتما إلى نتائج سلبية، فهي بهذا الإجراء تعزل نفسها عن نبض الشارع، وتحرض المواطن على اتخاذ موقف عدائي منها قد يدفعه للانخراط في بعض التنظيمات ذات المواقف المعادية ليس للسلطة فقط بل وللوطن ومواطنيه، وبتمويل ربما من مصادر وجهات خارجية أو حتى داخلية لها أهدافها التخريبية المتناقضة مع المصالح الوطنية، وسعي السلطة لتأسيس مبدأ الحوار بينها وبين المواطن من خلال القنوات الرسمية المتاحة هو وسيلتها لضمان ولاء المواطن باختياره وليس مرغما تحت سطوتها وجبروتها، ونفوذها العسكري، وسيكون المواطن في هذه الحالة شريكا للسلطة في التصدي للأمراض الاجتماعية ومكافحة الجريمة والإرهاب والحفاظ على أمن الوطن ومنجزاته، بعد أن تتاح لهذا المواطن المشاركة الفعلية في قرار صناعة نهضة الوطن وازدهاره، لتكون هذه النهضة في مستوى طموحاته، وليكون هذا الازدهار معبرا عن آماله، وليست معبرا للعبث بالمال العام، وجسرا لفساد الذمم، وطريقا للإثراء السريع من قبل المنتفعين والمتاجرين بهموم أوطانهم.وتلعب مؤسسات المجتمع المدني دورا بارزا في تأصيل الأمن الفكري بين جميع فئات المجتمع، وهي عامل أساس في تفعيل الحراك التنموي وتأصيل ثقافة الحوار، والدفاع عن حقوق الفئات المسحوقة في المجتمع، وهذه المؤسسات هي التي تعطي مؤشرا دقيقا لما هي عليه أوضاع المجتمع، وتسعى لتصحيح مسار المعوج من هذه الأوضاع، وبذلك تكون عونا للمواطن في نقل صوته إلى السلطة، وتكون أيضا عونا للسلطة في معرفة احتياجات المواطن وكشف أسباب التقصير في المنجز التنموي الذي ربما لا يكون واضحا أمام السلطة بشكله الكامل، وبذلك تصل سفينة الإصلاح إلى بر الأمان بعيدا عن العنف أو المجابهة بين السلطة والمواطن، وهما جناحا طائر الوطن في تقدمه وازدهاره ليحلق عاليا بين الأمم، وليصل إلى قمم النهضة الشاملة وذرى التألق بين جميع الدول.بالتربية إذا تخلت عن أساليبها التقليدية من التلقين إلى الممارسة الإيجابية، وبحرية التعبير المتاحة للجميع باعتبارها من الحقوق الشرعية للمواطن، وبوجود مؤسسات المجتمع المدني التي تنقل بأمانة للسلطة احتياجات المواطن حتى تتحقق له الحياة الحرة الكريمة، بذلك كله يتحقق الأمن الفكري كوسيلة من وسائل البناء.. عندما يمكن أن يمارسه المواطن من خلال مسئوليته ووعيه، ويمارسه المجتمع من خلال مؤسساته المدنية، وتمارسه السلطة في علاقتها مع مواطنيها من خلال مؤسساتها الرسمية، وهو في النهاية جزء من الأمن الشامل الذي تحقق الدولة في أجوائه نموها وازدهارها.