انطلاقًا من كون الجاذبية الشخصية للقيادة أو الكاريزما مهارة يمكن للمرء اكتسابها، تعالوا بنا نجول في ثلاثة أمور تساعد على تكوين تلك الجاذبية، وهي:
1. احرق سفن العودة:
لقد سطَّر تاريخ البشرية كثيرًا من القصص التي تحكي عن قادة عسكريين أحرقوا سفن جيوشهم، ففسر البعض ذلك بأنهم يقطعون الطريق على جنودهم من أجل التراجع أو الاستسلام، ولكننا نظن أن ذلك هو السبب الظاهري، أما جوهر هذا الفعل أنه إعلان واضح وصريح من تلك القادة أنهم ملتزمون بتحقيق الأهداف مهما كان الثمن المدفوع في تحقيقها.
وكفي بالقائد الأعظم صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة في التزامه بما اتفق عليه من الأهداف، ففي غزوة أحد أشار النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة رضوان الله عليهم أن يقاتلوا الكفار من داخل المدينة المنورة، ولكن كان رأي بعض من صحابته على عكس ذلك، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأيهم، ولما هَمَّ بالخروج أشار الصحابة عليه بالمكوث في المدينة خوفًا عليه من شر المشركين وكيدهم، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يلتزم بما اتفق عليه مع المسلمين، وقال: (ما ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) [صححه الألباني في الصحيحة، (250)].
2. أضئ شموع الأمل ومصابيح الأحلام:
فالقائد يمتلك نفسًا لا ترضى بسفاسف الأمور وتوافهها، وإنما هي نفس تأبى إلا أن تحمل بين أضلعها أحلامًا عظيمة وطموحات كبيرة، فهو يعلم أن الأهداف البسيطة يطلب لها الرجيلة، أما الأهداف العظيمة فهي مطمح الرجال والقادة.
ولذلك لابد للقائد أن تكون أهدافه عظيمة، وأن يصوغ تلك الأهداف العظيمة ويحفز اتباعه لها، ولك مع النبي صلى الله عليه وسلم موقف عظيم لقائد استطاع أن يصنع تلك الأحلام العظيمة حتى في أحلك فترات التضييق.
ففي يوم الأحزاب، يوم أن كانت قبائل العرب تضرب حصارًا خانقًا على المدينة، يوم أن تآمر اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم ونقضوا العهد والميثاق، وفي ظل ذاك الجو المشحون والضيق الشديد، استعصت على المسلمين صخرة عظيمة وهم يحفرون الخندق، فهرعوا يستنجدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها).
فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الصحابة معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب به ضربة وكبر، فسمعت هدة لم يسمع مثلها قط، فقال: (فتحت فارس)، ثم ضرب أخرى فكبر فسمعت هدة لم يسمع مثلها قط، فقال: (فتحت الروم)، ثم ضرب أخرى فكبر فسمعت هدة لم يسمع مثلها قط، فقال: (جاء الله بحمير أعوانًا وأنصارًا).
فانظر إلى صناعة الحلم، وبناء الآمال والطموحات العظيمة، حتى في ذلك الموقف العصيب، يصنع النبي صلى الله عليه وسلم لهم الهدف العظيم بفتح بلاد الفرس، والروم، واليمن.
3. تدرب.. تدرب.. تدرب:
فأداء القائد لواجباته وأعماله بشكل سلس يسير يجعل الناظر يظن أنه يؤدي واجبات عظيمة دون بذل مجهود، ولكنه لم يدرك كم بذل هذا القائد من المجهود في التدريب والتعلم؛ من أجل أن يؤدي مهامه بتلك الطريقة اليسيرة.
في موقعة تشيبو في حرب عام 1812م بين الجيش البريطاني والأمريكيين، كان الجنرال البريطاني فينيس رايال يقود قوات قوامها 1700 جنديًّا بالإضافة إلى 700 من الميليشيات الهندية والكندية، وزحف هذا الجنرال بقوة لمواجهة الفرقة التي يقودها وينفيلد سكوت.
وكان الجنرال يصف هذه الفرقة بأنها غير نظامية لما رأى من أزيائهم الرمادية، وكان وينفيلد سكوت هو قائد هذه الميليشيا، وكان لا يزال شابًا صغيرًا في العقد الثالث من العمر، لكن ما لا يعلمه رايال هو أن سكوت كان قد تدرب كثيرًا في فصل الشتاء السابق للمعركة، فقد كان يواصل تدريب فرقته حتى كادوا يسقطون من الإعياء، لكنهم من خلال هذه التدريب عرفوا قدارتهم الحقيقية وإمكانياتهم، وكل ما يجب عليهم فعله في المعركة.
فنظموا خطوطهم بمنتهى اليسر رغم نيران رايال المفتوحة عليهم، وتقدموا بنظام دقيق وكأنهم في عرض عسكري، وقد اندهش رايال بهم، وعبر عن إعجابه بقدرات سكوت، وأقسم أن هؤلاء جنود نظاميون، واستطاع سكوت أن يدفع رايال إلى الانسحاب بعد أن مني بخسائر فادحة، وأصبح سكوت جنرالًا قبل أن يتم عامه الثلاثين، ثم أصبح كبير جنرالات جيش الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ما أداه من تدريب وعمل شاق قبل موقعة تشيبوا كان السبب الرئيس وراء نظرة الناس له كشخصية جذابة تتمتع بالكاريزما.