بقلم : سميرة أحمد الجلال
مديرة إدارة البحوث و المشاريع التربوية
المشرفة على برنامج (( الإبداع الإداري في تربية وتعليم البنات بالأحساء ))
منشور في مجلة بوابة على التربية الالكترونية التابعة لإدارة تربيةو تعليم البنات بالاحساء العدد 1 ، ذو الحجة ، 1426 هـ

مايك أحد الجنود الأمريكان في الحرب الكورية عاش فترة من الزمن يعاني من الخوف و البرد و الملل داخل حقيبة النوم المخصصة لكل جندي للاختباء من طلقات العدو ليلاً......
يقول ( نحن نقضي أوقاتاً كثيرة في حقائب النوم محاولين الهرب من البرد القارس و قد يخالجك شعور زائف بالأمان في تلك الحقائب لكن كان علي أن أنهض من هذه الحقيبة حتى وإن كان الهواء خارجاً متجمداً لقد حان الوقت لتحويلها إلى بيئة خصبة )
و قرر أن يكون مسئولاً عن بيئته و حول حقيبة نومه إلى خيمة من عدد من صناديق الذخيرة التي ربطها مع بعضها على شكل حرف u ليصنع جانبين وقمة ووضع هذا الهيكل الصغير حيث يستلقي و جعله يدعم الحقيبة لتكون غرفة صغيرة و صمم باباً لها و جعل جدرانها مغطاة بورق يكتب عليه الأحداث و يرسم الصور ، و وصل لها إضاءة متقطعة بمصابيح الطريق ، و لأنه سأم من طعم القهوة المر ابتكر فيها مزج القهوة بالسكر و لم تكن في وقته هواتف محمولة فكان لديه جهاز إرسال صغير للاتصالات في الميدان و أصبحت غرفته ملتقى للأصدقاء ومكان لتبادل قصص الحرب و لمزيد من الأمان حول غرفته و ضع أسلاكاً للتعثر و ربط العلب المعدنية المليئة بالأحجار على مسافات حول الحواف لتسقط محذرة الجنود . وبذلك استطاع مايك أن يحافظ على نفسه وعقله وحياته وسط جحيم الحرب ، بل و أن يبقى على اتصال وثيق بمن معه .
فما السر في ذلك ؟
إنه الخروج من الحقيبة ، إنه الابداع ....إنه المهارة التي يملكها كل إنسان ....و لكن لايفلح الكثير في الاستفادة منها ..إنها القدرة على أن يخرج من حقيبة الجمود و الأسر داخل اليأس و المشكلات و الإحباط وبدلاً من قول لا يمكن عمل شيء فهو يصنع الأفضل ، فالإبداع هو القيمة التي تجعل الإنسان يتغلب على الجمود الذي ينتج من طغيان التفكير المألوف و السائد على حياة الإنسان خاصة حين وجود الحاجة لتطوير الأداء .
ولقد اعتاد الكثير على سماع كلمة الإبداع تتردد في جوانب الحياة المختلفة ، و تكاد لا تخلو أي مادة إعلامية من طرح لهذا المصطلح الخلاب و أساليب تنميته لدى الفرد ، ولقد تم التركيز من جانب البحث و الممارسة على الإبداع الفردي و مع ذلك فإن النتائج على المستوى العملي في هذا المجال ليست بالمتوقعة ما عدا حالات متفرقة من المبدعين و الذين فرضوا إبداعهم على السطح رغم كل ما يحيط بهم ..
فما السبب لذلك ؟
لعل من أهم الأسباب لذلك غياب الإبداع الجماعي و ضعف مقومات الإبداع في المؤسسات ، فالعالم اليوم يعيش عصر التنظيم المؤسسي ، كما أنه عصر يتطلب مؤسسات مبدعة تقابل متغيراته المختلفة و تعالج مشكلاته المتنوعة و تحقق أهدافها بأعلى مستوى من الجودة ، هذه المؤسسات هي التي تحتضن المبدعين و تهيئ لهم المناخ التنظيمي الملائم للإبداع وتقدر الإبداع الجماعي و تؤسس له بأنظمة وهياكل وبرامج .
مثل هذه المؤسسات هي التي تستحق أن تعيش . ...
فكيف تكون المؤسسة مبدعة ؟؟
تكون المؤسسة مبدعة بتكامل ثلاث محاور أساسية فيها هي التنظيم الإبداعي و الفرد المبدع و المناخ الإبداعي و كل من هذه المحاور يؤثر في الآخر .
و يعتبر الفرد المبدع من أهم هذه المحاور فقيمة أي مؤسسة تكون بقيمة الطاقة العقلية فيها فمثلاً شركة كبيرة مثل شركة (أريكسون ) 50%من ممتلكاتها إنما هي ممتلكات فكرية وشركة أخرى مثل ( إتش بي ) تصل فيها نسبة الممتلكات الفكرية إلى 80% من ممتلكات الشركة ،كما يقول مدير إحدى الشركات لدينا 300 طن من القوى العقلية.
و لنتأمل في شركة مايكروسوفت التي يصل إيرادها السنوي إلى 161مليار دولار وعدد موظفيها 14.000موظف و هي في المرتبة الأولى على مستوى العالم في مجال الكومبيوتر و تتفوق على الشركات الأخرى التي عدد موظفيها يفوق ما ميكروسوفت بأضعاف كثيرة و تفسير ذلك أنها أيضاً الأولى في استخدام العقول .
و الأفراد المبدعين ليسوا بفئة خاصة أو نسق من البشر هم عملة نادرة يصعب الحصول عليهم ، بل كل إنسان لديه القدرة على الإبداع متى ما توفرت لديه الرغبة والدافعية والمهارات الإبداعية و الفرد المبدع يمتلك تفكير تباعدي يساعده على تقديم أفكار ذات أصالة و جدة كما يتميز بالطلاقة الفكرية و المرونة والتخلص من الجمود العقلي مع حس جمالي و تذوق فني وقدرة عقلية على التخيل مما يساعده على تحويل الأفكار المجردة إلى واقع جميل ، مع وجود عدد من الصفات الشخصية أبرزها الانفتاح على الجديد و الاستمتاع بالأشياء غير المألوفة مع الحماس و المثابرة و الدافعية و تقبل المخاطرة أو المغامرة مع شعور بالاستقلالية وتأكيد الذات و في نفس الوقت الذكاء الاجتماعي و القدرة على الاتصال الفعال .
و بذلك فإن الفرد المبدع بحاجة إلى المناخ و البيئة الإبداعية التي تتصف بالأمن والحرية ، بيئة تتيح له عرض أفكاره -مادامت في حدود شرع الله- دون خوف من تجاهل، أو استنكار، أو رفض، أو عقاب من المجتمع.
وتزداد الحاجة إلى البيئة الإبداعية لدى الأفراد الذين إذا قوبلت أفكارهم بالرفض من المجتمع فإنهم يستسلمون لذلك ويتنازلون عنها أو قد يتوجهون لمجتمعات أخرى تتقبل أفكارهم المبدعة، وفي هذا المجال يذكر ( الكناني، 1990 م) أنه"حين تفرض القيود على الفرد المبدع يصبح مجبراً على البحث عن سراديب وأنفاق تحت الأرض يخرج فيها ما لا يقوى على إخراجه فوق سطح الأرض، وقد لا يصبر البعض فنجدهم يتوقفون عن الأداء الإبداعي، والبعض - وهم كثر ة - يمضون في الطريق السهل، ويتحول انتباههم الإبداعي إلى أشياء سطحية ليس لها من عمق أو رسالة أو إضافة، وبذلك يفقدون خصائص المبدعين " ، بينما هناك من المبدعين من يعتقد بأن مجتمعه بحاجة لهذه الأفكار لتزدهر، وهو يبقى يحارب من أجلها .
ومظلة الإبداع المؤسسية تقدم ظلاً وارفاً من الأمن و حرية الرأي و التفاعل و التواصل المتبادل بين جميع أفرادها مع تشجيع للتجريب و قبول الفشل أو الخطأ للتعلم والاستفادة منه فالخطأ في ثقافة المؤسسة المبدعة ليس الخطأ لأجل الخطأ أو التهاون أو العبث أو الفوضى و لكن الخطأ المدروس و الذي يكون بغرض التجريب إنه الخطأ الهادف من أجل الوصول إلى الجودة .
و هذه المظلة تقدم المكافأة للجهد الإبداعي وليس فقط للنواتج الإبداعية كما أنها تدعم تقديم الأفكار والمقترحات مهما كان مصدرها بآليات منظمة ، و لعل من المفيد النظر في النظام الياباني في مجال دعم المقترحات حيث يجعل تقديم المقترحات و النظر فيها عند المستوى الذي صدرت منه ، أما النظام الغربي فيعمل على إدخال المقترحات كاملة في النظام ثم يتم اختبارها من قبل موظفين كبار ، و هذا يلقي عليهم عبئاً كبيراً مع تجاهل لبعض الاقتراحات البسيطة ، و بذلك فإن نظام المؤسسة المبدعة لا يجعل المقترحات تمر في لجان لفحصها لكي يقدم لها التحفيز المناسب بل يقدم المكافآت التشجيعية لكل جهد إبداعي في نفس المستوى التنظيمي و يساعد المقترح على أن يقدم تقييم لمقترحه و فيم يستخدم و يقدم له أيضاً سبباً لعدم قبوله في حالة عدم قبوله .
و هنا يبرز المحور الثالث للمؤسسة المبدعة وهو التنظيم الإبداعي حيث تمتلك المؤسسة المبدعة فلسفة تنظيمية ُتترجم إلى آليات وهياكل وبرامج لتحقق رؤيتها المستقبلية التي تجعل من الإبداع أحد أهم موارد المؤسسة وتخطط لتحقيق هذه الرؤية على كافة المستويات.
و هي تعتبر أن القدرة على الإبداع و الابتكار من أهم أهدافها و التي تعتبر أعلى شأناً من زيادة الإنتاجية و الأرباح.
و التنظيم الإبداعي يرسخ قيمة الإبداع و يعمل على نشر ثقافة الإبداع في المؤسسة بوسائل مختلفة كالمحاضرات و الندوات، النشرات ، الإشادة بالمبدعين وإنجازاتهم ، والمسابقات الإبداعية .
و من البرامج الجادة و الهياكل التنظيمية التي ترسخ الإبداع في المؤسسة ( برامج التطوير المستمر ) و برنامج ( إدارة الجودة الكلية ) و هذا لا يغني عن تأسيس ( مركز الإبداع ) الذي يتبنى مسئولية إدخال الإبداع كأحد المهارات المهنية و السلوكيات الضرورية للعاملين في المؤسسة .
و إذا كانت تجربة إدخال الإبداع الجاد إلى مؤسسات الأعمال و الصناعة قد سارت قدماً فإنها مازالت في مراحلها المبكرة بالنسبة للمؤسسات التربوية و التي هي أحوج ما تكون للتفكير الإبداعي لأن مخرجاتها المأمولة هم النشء الصالح والمبدع القادر على أن يتعامل مع معطيات المستقبل .
و يؤكد العديد من الباحثين على أهمية المؤسسة التربوية المبدعة فنجد Shayghnessy,1990,P10) ( يقول " إن القادة التربويين يجب أن يكونوا مستقطبين ( باحثين ) للأفكار الإبداعية idea seekers ، وموزعين لها، بدلاً من أن يكونوا خازنين لتلك الأفكار، أو مستهلكين لها idea chokers " ،
و آخر يشير إلى (( أن هناك حاجة متزايدة إلى القادة التعليميين ذوي الرؤى المستقبلية الذين في ظل هذه البيئة متمكنين ذاتياً و قادرين على أن يقوموا بتحويل منظماتهم بشكل مبدع )) .
و بذلك فإن المحاور الثلاث التي تم استعراضها للمؤسسة المبدعة هي محاور متفرقة لا تجتمع إلا في يد واحدة هي يد قائد المؤسسة التربوية ( سواء كانت إدارة عامة أو قسماً أو مركزاً أو مدرسة ) حين يقرر أن تكون المؤسسة التي يقودها مبدعة .