الجودة قبل العصر الإسلامي:

حاول القدماء وضع وحدة قياس للأطوال والأوزان والمعايير التجارية الأخرى، وكانت التجارة لديهم تعتمد على تبادل المنتجات على مبدأ القبول والرفض لمواصفات المنتج, وكانت مبادئ تحسين الجودة موجودة في ذلك العصر بشكل معنوي عن طريق التطبيق.
ويعود تاريخ الجودة إلى القوانين التي وضعها حمورابي ملك بابل لعام 2000 قبل الميلاد، حيث أن هذه القوانين هي أول وأقدم من تحدث عن القوائم المتعلقة بتكاليف ورسوم الخدمات المقدمة, وقام حمو رابي بإصدار العديد من القوانين من ضمنها قانون خاص بالعقوبات المتعلقة بالأخطاء، وهذا القانون قام بالجمع بين الجودة وتكلفة الخدمة، وفي متحف "اللوفر" في باريس لوحة ضخمة عبارة عن عقوبات خاصة بالإهمال وتدني مستوى الأداء في عصر حمورابي .
وفي القرن الخامس قبل الميلاد في مجموعة كتب يطلق عليها كتب "ثوث" من الحضارة المصرية القديمة ورد بعض الممارسات الخدمية أو الإنتاجية حيث ذكر في هذه الكتب أن أي انحراف و تجاوز عن المعايير يعتبر جريمة.
وفي عهد الإغريق طلب أبقراط من تلاميذه تأدية يمين القسم على أنهم سوف يقدمون إلى زبائنهم أفضل خدمة وأفضل منتج يمكن تقديمه.
وفي الحضارات القديمة كالحضارة الرومانية والصينية والعربية كانت توجد مدارس تقديم الخدمات وصناعة الإنتاج وفق تقاليد ومعايير تم وضعها لممارسة الإنتاج، والآثار العظيمة الشاخصة للآن تمثل دليلاً على مستوى جودة المواد والآليات التي استخدمت في حينه لإنجاز هذه الشواخص كسور الصين والجنائن المعلقة في بابل والأهرام في مصر..
.


الجودة في العصر الإسلامي:

مهدت الحضارة الإسلامية منهجاً للتطوير المستمر للجودة, عن طريق الارتقاء بمستوى التفكير البشري والمعيشي للأفراد والمجتمعات من خلال إعطاء السيادة للعلم والمعرفة والإتقان والتفكير الإيجابي وممارسة العبادات التي يتمرن الفرد فيها على الإخلاص الذي أساسه جودة الأداء الذي هو أساس التحسين والتطوير, وظهرت نتائج الجودة خاصة في العصر الأموي والعباسي والأندلسي.
ويعتبر الغرب والشرق نتائج الجودة في العصر الإسلامي أساساً في رقيهم وتقدمهم, وسبباً في تطورهم.
ففي عصر الخليفة عمر بن عبدالعزيز وصل الاقتصاد مستوى من الرفاهية لم يسبق قبله ولا بعده, والناس يبحثوا عن فقراء ليتصدقوا عليهم فلم يجدوا، وهذا دليل أن الجودة في ذلك العصر اعتمدت على تطبيق المبادئ الإسلامية.



ورغم أنه لم يرد نص لفظي بالجودة في القرآن أو السنة النبوية, غير أنه وردت مفاهيم تماثل الجودة ومفاهيمها مثل مصطلح (الإتقان) الذي يعني الكمال في العمل والذي لن يبلغه أحد من البشر, ولكي يكون العمل متقناً من وجهة النظر الإسلامية ينبغي أن يتم على أكمل وجه دون إهمال أو تقصير أو تفريط، وارتبط مصطلح الجودة في الإسلام بمفردات ومصطلحات ذات علاقة من أبرزها الإحسان والإخلاص والإتقان والسداد:



الجودة والإحسان:

يقول الله تعالى {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} والإحسان لغة من أحسن أي فعل ما هو حسن وأحسن الشيء أجاد صنعه, والإحسان بمعنى النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها, وعرف بأنه إحكام العمل وإتقانه ومقابلة الخير بأكثر منه والشر بأقل منه.. وقال صلى الله عليه وسلم (وخالق الناس بخلق حسن).



والإحسان في العمل ذو شقين:

· 1/ استخدام أقصى درجات المهارة والإتقان فيه.
· 2/ التوجه بالعمل لله عز وجل.



ويؤكد ذلك ماجاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).
ولأجل الحصول على الإحسان هناك سلسلة من السلوكيات:

1/ الحث على الإحسان في العمل: قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) وفي موضع آخر جاء الاقتران بين الإيمان والتقوى والإحسان (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، والإسلام يحث على الإحسان والإتقان في أداء العبادات كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله".



2/ الحث على العمل الصالح:قال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، ورغّب بالمداومة على العمل الصالح (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) وحث على المبادرة إلى العمل الأفضل و يقارن بينه و بين غيره من الأعمال التي لا ترتقي إليه (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، فنجد المقارنة ومن يرتقي, ومن أعظم درجة من الآخر ونتحدث عن هذا في الجودة الشاملة على المقارنة المرجعية, أي أننا نحاول أن نقارن بين الشركات عبر أفضل الممارساتBest Practice .



والعمل الصالح في الإسلام يتصف بالشمول والتنوع ولايقتصر على جلب الخير النافع وإنما يتعداه إلى محاربة الشر, والعمل الصالح يحتاج إلى إعداد و تربية وتدريب على أداءه و توفير مؤسساته، ولابد أن يكون هذا العمل الصالح أخلاقياً وناجحاً ليصبح مقبولاً، فإذا كان هذا العمل أخلاقي ولكنه غير ناجح فهذا العمل لن يجلب منفعة ولا يدفع مضرة, وإذا كان ناجحاً وغير أخلاقي فإنه يجلب الضرر, فلابد أن يكون العمل أخلاقيا وناجحاً حتى نجد الجودة المطلوبة.



3/ التأكيد على إتمام العمل وإكماله على أفضل وجه: لخص القران الكريم مسيرة الإنسان في حياته ومصيره إلى ثلاثة مقاييس وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر، فالدين في المفهوم الإسلامي نظام عام اتصف بالكمال والتمام وتنزه عن النقص يقول تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فإتمام العمل من مظاهر الوفاء وقد وصف سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم عليه السلام بقوله {وإبراهيم الذي وفى}.


الجودة والإخلاص:

يعرف الإخلاص بأنه تصفية العمل من كل شائبة، فينبغي أن يتم على أكمل وجه دون إهمال أوتقصير, وقد أمر الله عز وجل عباده بالإخلاص في العبادة والأعمال (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)

فالعمل المقبول له معياران: أن يكون خالصاً لوجه الله وأن يكون صواباً.

ومن متطلبات الإخلاص في العمل أداؤه بصورة جيدة، ومتى صدر العمل عن نية صادقة وشعور مخلص أدى إلى أن يدأب العامل على مواصلته دون سآمة أو ملل وأفضى إلى رفع كفاية الإنتاج, ويعد الإتقان مظهرا من مظاهر الإخلاص في العمل وهو لا يقتصر في الإسلام على عمل دون أخر بل هو مطلوب في كل عمل من أعمال الدين والدنيا.

الجودة والإتقان:

الإتقان درجة عالية في الجودة، والإحسان مرادف للإتقان غير أن الإتقان أخص من حيث الدلالة لكونه يتضمن حذق الشيء والمهارة في أداءه وإحكامه، ويبقى الإحسان هو الأصل الذي ينبثق عنه فعل الصواب وجودة العمل بصفته قيمة روحية إيمانية دافعة ومحفزة لكل عمل يحبه الله عز وجل ويرضاه.
فالإتقان على مستوى المهارات والإحسان يكون من الداخل أي روحي، فالإحسان أشمل وأعم دلالة من الإتقان (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) .

الجودة والإتقان لغوياً: الإتقان في اللغة من أتقن الشيء أحكمه قاول تعالى (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) فالإتقان أحد مظاهر ومؤشرات الحكمة في العمل, والحكيم هو المتقن للأمور.
ومن المؤشرات الدالة على الإتقان أداء الشيء بمهارة كما جاء في الحديث الشريف [‏الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ ‏ ‏السَّفَرَةِ‏الْكِرَامِ
الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ‏وَيَتَتَعْتَع‏ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ] فالإتقان يتضمن إحكام الشيء وإحسانه وأداء العمل بمهارة, ولأجل الوصول إلى الإحسان نحتاج إلى السداد.

الجودة والسداد:

السداد لغة شيء من اللبن ييبس في احليل الناقة سمي به لأنه يسد مجرى اللبن, ويعني في الأداء إتمام العمل بعملية بنائية تكاملية تضم ثلاثة جوانب أساسية:

1/ (Design Quality) جودة التصميم: تحديد المواصفات والخصائص التي ينبغي أن تراعي في التخطيط للعمل.

2/ (Performance Quality) جودة الأداء: القيام بالأعمال وفق المعايير المحددة.

3/ (Output Quality) جودة المخرج: الحصول على منتج وفق الخصائص والمواصفات المتوقعة.

والسداد في الأداء يترجم احتياجات وتوقعات المستفيدين من العملية الأدائية والإنتاجية إلى مجموعة خصائص محددة تكون أساساً في تصميم المنتج وطريقة أداء العمل من أجل تلبية احتياجات وتوقعات المستفيدين وتحقيق رضي الله عز وجل أولاً وأخيراً، ويحتاج السداد التزام الأمانة في أداء العمل (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) واستشعار المسؤولية تجاه الإعمال والتزام الدقة والإجادة في أداء الواجبات (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون).