من يتأمل في جنسيات العاملين في المنظمات الدولية المنتشرة في بقاع الأرض، يجد قلة من العرب يشتغلون فيها، فيتساءل تلقائيًّا: لماذا لا يُقبل الشباب العربي على العمل في تلك المنظمات، وهل ثمة أسرار تقف كعائق أمام الظهور على الساحة الدولية؟

التعدد الأجنبي في المنظمات الدولية أمر عادي، فلا يعني وجود منظمة اليونسكو في باريس أن يكون أولوية العمل فيها للفرنسيين، أو أن تكون الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا أن يكون موظفوها من النمساويين، أو أن تكون منظمة الصحة العالمية في جنيف ليكون العمل فيها للسويسريين حصريًّا، وهكذا...

فاختلاف الجنسيات في مثل تلك المنظمات شيء متداول، ولكنه غير متجانس، وله آثار سلبية على المدى البعيد؛ إذ لوحظ بأن وجود غالبية غرب أوربية وأمريكية مثلاً ينعكس بشكل تلقائي على أداء تلك المنظمات أو نظرتها إلى قضايا الدول النامية، بينما يساعد وجود خبراء وأكاديميين شبان من دول الجنوب على حدوث نوع من التوازن في التعامل مع القضايا المختلفة الأبعاد أو التي تتضارب فيها مصالح الشمال والجنوب، حيث يؤدي غياب العاملين من الدول النامية إلى غياب رؤية ومصالح تلك الدول في المحافل الدولية.

فعلى سبيل المثال لم تبلغ نسبة العرب المتقدمين لاختبارات الالتحاق بمحكمة الجزاء الدولية في لاهاي الهولندية أكثر من 5% من حوالي 700 طلب لشغل 100 وظيفة شاغرة، على الرغم من حاجة المحكمة إلى من يفهم في أصول الشريعة والفقه الإسلامي من أبناء المنطقة العربية والإسلامية، ومن يستطيع فهم الفرق بين الدساتير العربية المختلفة، أو البعد التاريخي للمنطقة، وهي بالطبع ملفات لا يمكن إلا للأكاديميين من أبناء المنطقة أن يبلوا فيها بلاء حسنًا، وغيابهم يترك الكلمة الأخيرة لمن يدعون بأنهم على دراية بالعالمين العربي والإسلامي من الأوربيين، ومعظمهم غير منصفين في تعاملاتهم مع القضايا التي تتعلق بتلك المنطقة الهامة من العالم.

التأهيل والتعليم

قد يتبادر إلى الذهن أن الجامعات العربية لم تصل بعد إلى المستوى العالمي في التعليم والتأهيل، وهي فكرة إن سرت إلى حد ما على التخصصات العلمية والفنية، فهي لا تنطبق تمامًا على الفروع النظرية والعلوم الإنسانية، مثل القانون والاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة وغيرها.

أما التغلب على تلك الصعوبة فليس سهلاً إلا من خلال استكمال الشهادة الجامعية (الليسانس أو البكالوريوس) بدبلوم للدراسات العليا المتخصصة أو ماجستير، أو الحصول على شهادتين في تخصصين مختلفين، مثل التاريخ والقانون، أو الجغرافيا والاقتصاد، أو الاقتصاد والبرمجيات، أو علم الأجناس والفلسفة أو علم النفس والاجتماع، وحتى في المجالات العلمية، مثل الكيمياء أو الأحياء أو الفيزياء والرياضيات والجيولوجيا، وهكذا...، وهو ما يعطي للخريج الشاب الوجه الأكاديمي المطلوب والذي يتمكن من خلاله من الدخول في أية مسابقة دولية بثقة.

وإذا كانت أغلب الجامعات العربية قد عجزت حتى الآن في الحصول على الاعتراف الدولي المناسب، من خلال اتفاقيات التعاون العلمي والبحث المشتركة، فيمكن لاتحادات الطلاب أو حتى الجمعيات الطلابية الخاصة أن تقوم بتلك الخطوة، فعلى سبيل المثال يمكن لاتحاد طلاب أو مجموعة من أي جامعة القيام بإبرام "اتفاقية" مع فريق مماثل في الجامعات ذات الشهرة الدولية، وذلك بهدف لتبادل الخبرات بين الطلاب والدخول في مشاريع بحثية مشتركة، أو المشاركة في الدورات والمحاضرات والمناقشات التي تكون متاحة عادة عبر شبكة الإنترنت أو من خلال مجموعات تبادل الأخبار.

والتعرف على مواقع تلك الجامعات سهل ويمكن مراسلتها مباشرة والاطلاع على برامجها البحثية والوقوف على آخر تطوراتها، كنوع من تبادل الأفكار، يستفيد منها الطرفان، العربي والأجنبي.

ويمكن للجمعيات والمنظمات غير الحكومية أن تلعب دور الوسيط في هذا الملف، إذا لم تتمكن الأنظمة الرسمية من الاستفادة من الآليات التي تتيحها القنوات الدبلوماسية في عملية نقل التقنية والعلم والتعلم.

المؤهلات والمهارات

ولا شك في أن إتقان اللغات الأجنبية من أهم ما يساعد الشباب العرب على الدخول في المنظمات الدولية والتي تطلب أغلبها أن يجيد الشبان الراغبون في العمل فيها إجادة لغتين أجنبيتين على الأقل، إلى جانب اللغة الأم بالطبع، فالفرنسية والإنجليزية هي أغلب اللغات السائدة في المنظمات الدولية، وظهر في السنوات الأخيرة طلب واضح على اللغة العربية بعد أن تمكنت الإسبانية والألمانية من ترسيخ حضورها في المنظمات الدولية.

وتعتبر المساهمة في الأنشطة الطلابية والعمل الخيري التطوعي سواء في الداخل أو الخارج من العوامل الهامة التي تنظر إليها المنظمات الدولية بعين الاعتبار، فإذا تضمنت السيرة الذاتية للمترشح قضاء بضعة أشهر في حملة لحماية البيئة أو لإنقاذ متضررين من كارثة طبيعية أو في عمل محو الأمية أو غيرها من الأعمال التطوعية والخيرية، ضمن المترشح علامة إيجابية، لا سيما إذا كان هذا العمل في مناطق نائية، مثل غابات إفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو جنوبي آسيا، أو في اليمن والمناطق الفلسطينية أو أفغانستان والعراق والسودان.

ولم يَعُد خافيًا أن بعض الدول تدفع بخيرة الأكاديميين لديها في الالتحاق بالمنظمات الدولية، ليس في وفودها الرسمية، ولكن للعمل في هياكلها الإدارية والفنية، لتضمن بذلك من يمثل اهتماماتها بشكل جيد ومن يستطيع أن يكون عينًا لها داخل تلك المنظمة أو الهيئة الدولية، وهو أمر لم يَعُد أحد ينظر إليه بعين الشك والريبة مثلما كان يحدث أثناء فترة الحرب البادرة.

فبعض الدول أنشأت مراكز لتأهيل الأكاديميين للعمل في المنظمات الدولية، سواء الجامعية العادية قبل التخرج أو الأكاديمية المتخصصة، مثل الماجستير أو الدكتوراة، وتأخذ تلك المراكز أسماء عادية، مثل مركز "تبادل الخبرات" أو "التعاون الأكاديمي الدولي"... إلخ.

إن ما يحتاجه الشاب العربي للدخول إلى المنظمات الدولية هو:

*

القناعة بأنه يحمل رسالة يود أن يؤديها من خلال عمله في تلك المنظمة أو المؤسسة الدولية، فأغلب من يعملون هناك ليسوا مجرد موظفين يؤدون عملاً روتينيًّا، بل يكون عملهم أقرب إلى البحث العلمي العملي التطبيقي.
*

الاهتمام بالمستوى الدراسي والتعمق في المواد والبحث عن الاختلاف بين ما يدرسه في جامعته وما يدرسه الطلبة في التخصصات المشابهة في جامعات أوربية وهندية وبرازيلية وصينية، وأن يحاول بمجهود ذاتي أن يستكمل هذا النقص.
*

توسيع دائرة الاطلاع والوقوف المتواصل على آخر مجريات الأحداث المتعلقة بدراسته ومجال التخصص.
*

تكوين جمعيات طلابية مستقلة عن طريق الإنترنت تسعى لإقامة حلقات تواصل مع الجامعات والمعاهد المختلفة لتبادل الخبرات وأحدث المراجع والأبحاث، وبالتالي كسر حاجز صعوبة نقل العلم والمعرفة والمجلات والدوريات العلمية المتخصصة الباهظة الثمن، ونجاح مثل هذه الجمعيات يعتمد على الجدية والابتعاد عن الهزل في المكاتبات والمخاطبات.
*

التعرف على توجهات المنظمات الدولية وبرامجها من خلال متابعة مواقعها على الإنترنت، والاتصال بها لتوضيح ما يستعصي فهمه، بل أيضًا لطلب فرص تدريبية، أو البحث عن وظيفة بالاتصال المباشر بها.
*

السعي لإتقان أكثر من لغة أجنبية وأغلبها يمكن تعلمه الآن مجانًا على شبكة الإنترنت مع عدم إهمال اللغة الأم، فقد رسب شاب عربي في اختبارات العمل لدى منظمة دولية عندما اكتشفت لجنة الاختبار، وكان من بينها من يتقن العربية جيدًا، أن المتقدم لا يستطيع أن يتكلم لغته الأم (العربية) بشكل صحيح.
*

كن على ثقة بأن جامعتك لا تقل في كفاءتها عن أي جامعة أخرى، فمن الحقائق التي لا يعرفها الكثيرون أن الطالب العربي يدرس أكثر من نظرائه في أوربا، لا سيما في العلوم الإنسانية والدراسات النظرية.

التخصصات المطلوبة

ومن أكثر التخصصات المطلوبة في المنظمات الدولية هم خبراء القانون والاقتصاد والإدارة وعلم الاجتماع والسياسة والتاريخ وحتى الفنون الجميلة، والتخصصات العلمية مطلوبة أيضًا في منظمات مثل الاتصالات أو البيئة والطقس والصحة.

المهم هو أن تكون كل هذه التخصصات مرتبطة ببرامج أو دورات تدريبية في التخطيط وإعداد المشروعات، وطبعًا استخدام الحاسب الآلي، وأن يعبر الراغب في العمل في طلب الحصول على وظيفة عن نيته تقديم شيء إيجابي في هذا المجال، ولا مانع طبعًا من ضرب الأمثلة والنماذج الذي قام بها من قبل. واللافت أن عدد الخبراء العرب في المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.

ووفقًا لإعلانات الوظائف بمواقع المنظمات الدولية، فثمة مزايا عديدة للخبراء الذين يعملون بهذه المجالات، حيث تترواح رواتب هذه الفئة بين 8000 دولار و10000 دولار في الشهر، معفاة من الضرائب، ولهم امتيازات في التسوق برسوم مخفضة من الأسواق الحرة بدون أي جمارك. وفي الكوادر العليا يزيد الراتب، على حسب حجم المسئوليات، مثل رئاسة قسم أو مدير إدارة، ويتراوح بين 12000 و13000 دولار شهريًّا، (جميع المنظمات الدولية موجودة على الوصلة التالية بالترتيب حسب المجال: https://www.cagi.ch/en/IGO.htm)

أيضًا هناك نوعية أخرى من الوظائف مطلوبة بالمنظمات، وتكون عادة في فئة الأعمال الإدارية المعاونة والسكرتارية والترجمة، والرواتب في هذا المجال تتراوح بين 2500 و4000 دولار شهريًّا حسب الخبرة والأقدمية وعدد اللغات الأجنبية، مع نفس الامتيازات السابقة. ويلاحظ أن الوظائف الإدارية ترتفع نسبيًّا بالتواجد العربي، ولكن لا يزيد عن 5% وأغلبهم من شمال إفريقيا لإجادتهم الفرنسية والعربية، وبعض الفلسطينيين واللبنانيين، والمصريين.

وخلافًا لهذه الوظائف فإن هناك فئة أعمال النظافة والسائقين والسعاة، وهنا حدث ولا حرج، فهي التي يتزايد فيها العدد من العرب ليصل إلى 10 - 15% ومعظمهم يعمل من الباطن أو من خلال شركات توظيف عمالة، وأغلبهم يكونون بشكل مؤقت.

ويظل أنه يمكن للشاب أن يقدم أوراق البحث عن وظيفة دون الإعلان عن وجود وظيفة شاغرة، فأغلب مكاتب الموارد البشرية في المنظمات الدولية والإقليمية تخزن جميع البيانات لديها للاستدعاء عند الطلب، وأحيانًا تأتي الفرصة حتى بدون الإعلان عن وظيفة شاغرة. (يمكن متابعة كل الوظائف الشاغرة على مواقع تلك المنظمات الدولية مثلاً: https://www.ilo.org/public/english/b...pers/index.htm

إن الحضور العربي والإسلامي في المنظمات الدولية أمر مطلوب لخدمة قضايانا، والعمل في تلك المنظمات ليس حكرًا على من يضعون العراقيل الوهمية أمام الغالبية العظمى من الشباب العربي والذي لا يقل في كفاءته عن غيره من شباب العالم، فالثقة بالنفس والاهتمام بالمستوى الدراسي والثقافة العامة هي أحد أهم المفاتيح للعمل في تلك المنظمات.