صناعة القرار


إن عملية اتخاذ القرار ( صناعة القرار ) الذي قد يراه الإنسان مناسبا له في مسألة ما يعتبر من أصعب الأمور التي تواجه الإنسان في تكملة مسيرة النّجاح نحو تحقيق هدفه ، و ذلك لأن قراره في الغالب محكوم بظروف معينة لها تأثير كبير على درجة سلامة ذلك القرار .
صناعة القرار


و استراتيجية اتخاذ القرار و تنفيذه تتعلق بأمور و عوامل كثيرة و مختلفة يكون الإنسان ملزما بها ليكون له ما يصبو إليه . و تكن صعوبة اتخاذ القرار - في الغالب - في الأمور الآتية في حالة القرار الخطأ :

- الخسائر المادية التي قد يتكبدها : و هي نوعان إما فعلية كأن يدفعها ، و إما ربحية سيكسبها في المستقبل . و هناك حالات كثيرة كما هو الحال في عملية بيع و شراء الأسهم . و بيع و شراء العقارات ، و في حالة الانسحاب من مشروع لأسباب معينة غير مجبرة ، و التعرض للبند الجزائي . و في حالة خوض الغمار في تجارة معينة و الخروج منها بخسارة ، و غيرها من الحالات .

- الخسائر المعنوية : منها السمعة ، و العلاقات و المكانة الاجتماعية و الاقتصادية ، و غيرها . فأحدهم تكبد خسائر مادية كبيرة عندما كان في أمريكا فنصحه المحامس بأن يعلن إفلاسه لكي يسقط عنه جزءا من الخسائر أو يعفى منها فرفض أن يمس سمعته و تقبل دفع الخسائر .
- الخسائر البشرية : كما هو الحال في الحروب و الانقلابات و الصراعات السياسية و غيرها ، و هي من أصعب الأمور التي يتخذ فيها القرارات ؛ لأنها في الغالب تتعلق بمصير شعوب و أمم و ممتلكات .
- ضياع الفرصة : في حالة الوظائف و المناصب و الدراسة و التجارة و الأسهم و العقارات و غيرها . أحدهم عرضت عليه فيلا بمليون و ثلاث مائة ألف درهم فتماطل في اتخاذ قرار شرائها فاشتراها غيره و بلغت قيمتها في غضون فترة زمنية أكثر عن مليوني درهم . !
فكلما ذكرته يتألم و يشعر بالحسرة .

- الشعور بالندم أو الحسرة أو الضيق الشديد : كحالات ضياع الفرص و هي كثيرة خاصة في مجال التجارة لأن نتاجها كبيرة و تظهر بسرعة خاصة في وقتنا الحالي . و هناك حالة خاصة بالفتيات عندما يفوت عليهن قطار الشباب دون زواج لأسباب كثيرة - لدى كثير منهن - منها عدم الرغبة في تحمل المسؤولية في سن مبكرة ، عدم الاقتناع بمن تقدم للخطبة ، كثرة الشروط و غيرها .
و الألم في نفسه يصيب أولياء الأمور الذين كانوا سبب عنوسة بناتهم لأسباب تعود إلى المادة و المنصب و الجاه و غيرها .

و كم سمعنا كلمة : " ياليت قبلك بكذا " أو " ما الذي منعني من فعل كذا " أو أنا أشك أنني كنت في وعي عندما قلت كذا " و غيرها من العبارات الدالة على الشعور داخلي بالندم و الحسرة .

و بالإضافة إلى كل ما سبق ذكره فناك خسائر أخرى متعلقة بالشخص نفسه و هي ضياع الجهد و الوقت .

إن خوف الإنسان من الفشل في مثل هذه الأمور أمر طبيعي ، فلا أحد يريد أن يخفق في الوصول إلى ما يريد و يخسر معه أشياء أخرى لا تقل أهمية عن الهدف المرجو . و لكن كما هو معروف طريق النجاح دائما محفوف بالعناء و التعب و الخسائر . و لذا في أحيان كثيرة يدفع الكثيرون أشياء كثيرة ثمنا للوصول إلى الهدف أو للاسترشاد إلى طريقه . فمن كان مغامرا و متحديا ذلك و غير مبال بالخسائر فهو الإنسان الذي لا بد له و أن يصل إلى مراده مهما طالت المدة أو قصرت
فقد يغير الموظف طبيعة عمله التي هي في صميم تخصصه و يلتحق بقسم آخر ؛ لأن فرصته كبيرة في الحصول على منصب في ذلك القسم خلال فترة زمنية قصيرة . و لكن إن انتقل هذا الموظف و لم ينل هدفه الذي كان يتوقع أو الذي خطط له فإنه يكون بذلك قد خسر العمل في المجال الذي يعرفه لأجل هدف لم يتحقق له . و قد يتخذ الإنسان قراره بالتضحية بشيء ثمين ماديا مقابل شيء مادي أقل منه قيمة و لكنه ثمين معنويا ، و بالعكس .

صناعة القرار


فقد ضحى أحد أصدقائي بمنصب رئيس إدارة في الشركة التي يعمل فيها منذ زمن ، و استقال بمنصب رئيس قسم ، و ذلك لكون هذه الشركة تقع في المدينة التي يعيش فيها والداه . اتخذ قراره هذا ليكون قريبا من والده الذي أصبح في حاجة ماسة لوجوده إلى جانبه ، و ليبقى بقرب أبنائه و أسرته ، فقد سئم البعد عنهم لسنوات طوال



صناعة القرار


إن الإنسان قد يضطر أو يجبر حسب ما تملي عليه حالته أن يوافق على أمور قد يكون فيها خطر عليه ، سواء بنسبة كبيرة أو ضئيلة مقابل الحصول على هدف ثمين جدا ، و لولا أن الهدف يعني له الكثير لما تقبل المغامرة بحياته أو بحياة أقرباء أعزاء عليه . فكما يقال الغريق يتعلق بأي شيء و لو بقشة .


ما من إنسان في هذه الحياة سواء كان رجلا أم إمرأة ، شابا أم شيخا كبيرا ، متعلما أم أميا إلا و يسعى بشتى الطرق إلى اتخاذ القرار السليم ؛ لأن فيه مصلحته و منفعته . فإن أصابه هم أو كرب من جراء مشكلة ما فإنه سيبحث عن القرار المناسب الذي يؤمن له الخروج مما هو فيه . و إن كان صاحب هدف يشغل تفكيره ليل نهار فإنه سينحت في الصخر لإيجاد القرار الذي يجب أن يعمل به ليتم له النجاح و التفوق فيما يرغب في تحقيقه . فالكل يبحث بقدر الإمكان عن القرار الذي يحمل في طياته أقل الخسائر .

يقول ( ليم جيمس ) : عندما يتم التوصل إلى قرار فإنه من المستحسن أن ينفذ في اليوم نفسه ، فإنك بالتالي ستتخلص كلينا من الهموم التي ستسيطر عليك ، و أنت تفكر في نتائج المشكلة .

صناعة القرار


أمور تتوقف عليها عملية اتخاذ القرار


يتوقف اتخاذ القرار على أمرين أساسين : أولهما الأخذ بالأسباب و هذا يتم عن طريق السؤال و البحث و جمع المعلومات و تحليلها ، ثم يأتي ثانيهما و هو التوكل على الله - سبحانه و تعالى - حق توكله . و في هذا الأمر يقول علماء الدين : " إن ترك اتخاذ الأسباب معصية و التوكل على الأسباب شرك " .

أولا : الأخذ بالأسباب : عملية الأخذ بالأسباب لها جوانب كثيرة يغفل عنها البعض ، فيدخل من ضمنها السعي و الاتصال و التفكير و البحث و السؤال و التخطيط و غيرها .

هذه طريقة سهلة تساعد في اتخاذ القرار بشكل سليم حيث ينصح باتباعها علماء النفس و غيرهم . هذه الطريقة تتحقق من خلال سؤالك نفسك هذين السؤالين :

السؤال الأول : ما هي أسوأ نتيجة يمكن أن تكون إذا أنا فعلت كذا ؟
السؤال الثاني : ما هي أفضل نتيجة يمكن أن تكون إذا أنا فعلت كذا ؟

و للاستفادة من هذه الطريقة عليك باتباع الخطوات الآتية :

ضع جدولا من عمودين .

  • اكتب في العمود الأول قائمة بالسلبيات و المخاوف التي تعرفها و التي تعتقد بوجودها عند إجابتك للسؤال الأول ، فهذا يخفف عنك الضغط الذهني و النفسي . قم بذلك دون التدقيق على ما تكتبه و ليكن بشكل تلقائي .
  • اكتب قائمة بالإيجابيات التي تعرفها و التي تتوقعها عند إجابتك عن السؤال الثاني ، فهذا يجسد لديك الأمور الإيجابية في الموضوع . قم بذلك دون التدقيق على ما تكتبه ، و ليكن بشكل تلقائي .
  • و الآن قم بمراجعة كل نقطة كتبتها في العمودين و دراستها جيدا ، و شطب كل ما ليس له حاجة . فقد تكون بالغت في أمر أو اعتقدت بموجود شيء هو غير ممكن ، أو توقعت أشياء هي ليست حقيقية و غيرها .
  • و بعدها قم بمقارنة النقاط الإيجابية و السلبية براحة و تفكير أفضل ، و تحديد النقاط القوية ، و بعدها قم بالاستخارة ثم اتخذ القرار على ضوء ذلك .

و للأسف الشديد فإن بعض الناس يفكرون بالطريقة التي اعتادوا عليها حيث يبنون في بعض أمور حياتهم في الساعة أو اللحظات الأخيرة ، فهم لم يستفيدوا من الوقت الذي كان لديهم قبل أن يدخلوا في الساعات الحرجة . و هناك فئة تترك الأمور تجري كما تشاء من دون أدنى تفكير . و هذا الأمر غير منطقي ، و غير إيجابي ، فالإنسان عندما يعرف ما يريد ، و ما يجب أن يفعله بفترة زمنية كافية ، فإن هذا يهيئة نفسيا و ماديا و يزيد من تعبئته الذاتية .
ثانيا : التوكل على الله حق توكله : يقول الله عز و جل : " و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا " .

إن مسألة التوكل على الله أمر هام جدا و أساسي في تحقيق كتابة النجاح للهدف . و التوكل في معناه المختصر هو بذل الجهد في الأسباب ثم تسليم الأمر لله - سبحانه و تعالى - . و هذا يعني أنه بعد أن يعمل الإنسان ما بوسعه من الأخذ بالأسباب كامله يوكل الله - عز و جل - أمره فهو حسبه . لأن الإنسان لا يعلم الغيب و لا يعرف ما ينفعه و ما يضره فهو أمر محجوب عنه . فما هو ظاهر بأنه مفيد قد يكون باطنه سيء ، و العكس . لذا فهو عندما يتوكل على الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة و لا نوم و يؤمن بأن ما هو مقسوم له سيلقاه ، ترتاح نفسه و تهدأ . فمن ذاك الذي سيكون أكرم و أرحم بالعباد من لاله الغفور الرحيم الرزاق العليم ؟؟من ذاك الذي يملك خزائن السماوات و الأرض و من يقول للشيء " كن فيكون " غير الله الواحد الأحد الفرد الصمد ؟؟لا أحد غيره الله الكبير المتعال الذي يعلم ما يصلحنا و ما يفسدنا هو أرحم بعباده من الأم بصغيرها .

فعندما ينوي الإنسان القيام بأمر ما بعد أن أعطى لنفسه الوقت الكافي لدراسة الموضوع بشكل جيد و الخروج بنتيجة مرضية ، تأتي الخطوة الثانية و هي التوكل على الله حق توكله من دون أدنى شك أو ريب ، أو إشراك أي مخلوق كان في هذا التوكل . و من المؤسف أن بعض الناس يعتقدون بأن أمرهم و حاجتهم تتوقف على فئة من البشر ، و أن مستقبلهم مرهون بيد تلك الفئة . و لذا هم يعتقدون بل و يؤمنون يقينا بأ نه لا بد من الاعتماد على أولئك و تفويض أمرهم لهم ؛ ليتم لهم إنجاز و قضاء حوائجهم .

سبحان الله !!!كيف يتناسى أمثال هؤلاء أن المخلوقات جميعها بلا استثناء ليس لها حول و لا قوة إلا بالله القوي العزيز الذي له مقاليد كل ّ شيء . فلا تظن إن قضيت لك معاملتك بسبب توقيع فلان الفلاني ، أو تم تعيينك في منصب معين بوساطة إنسان تعرفه ، أو ..إلخ
إن ذلك بيدهم و إن تحقق هدفك على أيديهم فما هؤلاء و غيرهم من المخلوقات إلا أسباب يسخرها الله في طريق من يشاء من عباده لتكتمل السببية لديهم ؛ لأن الإنسان خلق ليعمل ، و لذا هيأه الله لذلك بأن خلقه في أحسن تقويم . فليس هناك ما يمنعه أو يعجز الله من قوله لأمر يريده : " كن فيكون " .

و لذا فإن المؤمن الحق الذي يعلم أنه لن يجد إلا ما قد قسم له من لدن عليم حكيم ، إذا رأى أن موضوعه مع شخص ما فإنه يقول له :
" أنا معتمد على الله ثم عليك في إنهاء مسألتي " أو أن يقول له " إن قضاء حاجتي يتوقف عليك بعد الله - سبحانه و تعالى - " ، فهنا يظهر الاعتماد الحقيقي على الله ، و ما ذلك الشخص إلا سبب جعله الله في طريقه .


و إن من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها البعض في موضوع التوكل قولهم للآخرين : " أنا معتمد على الله و عليك " و هنا يقع المحضور ؛ لأنهم بهذه المقولة ساووا البشر بالخالق تبارك و تعالى ، و حاشا لله أن يكون كذلك . و الصواب أن يقول : " أنا معتمد على الله ثم عليك " . و الأخطر من ذلك ما يقوله البعض لمن تكون مصالحهم عندهم : " أنا معتمد عليك في الموضوع الفلاني " متناسين بذلك قوله تبارك و تعالى : " له مقاليد السموات و الأرض يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر إنه بكل شيء عليم ) . (الشورى :12).

و الأولى و الأصح أن يقول : " أنا معتمد على الله ثم عليك في الموضوع الفلاني " .



و في موضوع العزيمة ، و التوكل على الله يقول - عز و جل - في محكم تنزيله : " فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " . (آل عمران : 159 ).


و في الحديث الشريف الذي رواه الترمذي و قال عنه حديث حسن عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يقول : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا و تروح بطانا " .



إن اتخاذ القرار الصحيح أمر يحتاج منك إلى رؤية و تعقل و عدم استعجال بقدر الإمكان خاصة إذا كان الأمر يتعلق بتقديم تضحيات مادية أو معنوية أو بأمور تتعلق بمصالح الآخرين و غير ذلك .

تمهل قليلا و خذ بالأسباب و قلب المسائل على الجهات جميعها ، و إن لزم الأمر استشر من تحب و من تحب و من له علم و معرفة في موضوعك .
فإن لم تكن متأكدا فلا تقدم على اتخاذ القرار حتى تجد المخرج الذي يريحك و يريح من لهم علاقة بالقرار الذي تنوي أخذه .


و قد علمنا رسول الله - صلى الله عليه و سلم - الاستخارة في الأمور كلها كما جاء في الحديث الذي يرويه جابر - رضي الله عنه - حيث قال : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم - يلعمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن ، يقول : إذا هم أحدكم بالأمر ، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إني استخيرك بعلمك و أستقدرك بقدرتك ، و أسالك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر و لا أقدر و تعلم و لا أعلم ، و أنت علام الغيوب . اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني و معاشي و عاقبة أمري ، أو قال :عاجل أمري و آجله ، فاقدره لي و يسره لي ، ثم بارك لي فيه ، و إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني و معاشي و عاقبة أمري ، أو قال : عاجل أمري و آجله ، فاصرفه عني ، و اصرفني عنه ، و اقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به . قال : و يسمى حاجته " ( رواه البخاري ) .



ثمة القرار رؤية و عمق ..اعزم و توكل على ربك ليلهمك و يدلك لأفضل السبل ..خذ السبب و استشر ..لا تسوف فجودة القرار في أوقاتها ..و قوة القرار من الخبرات المتراكمة ..ـتعلم صناعة القرار ...طبتم و طاب يومكم




من موسوعة التنمية البشرية : في تنمية الفرد و المجتمع
للدكتور عبداللطيف العزعزي - خبير التنمية البشرية و التدريب