كتب د. محمد العسومي


هناك علاقة مباشرة وقوية بين التقدم الاقتصادي والتقني وبين استقطاب الكفاءات والمؤهلات العلمية، فالولايات المتحدة على سبيل المثال تمكنت من استقطاب الكفاءات على مدى فترات زمنية متتالية، حيث تحولت إلى القوة الاقتصادية الأولى في العالم وإلى بناء أكبر اقتصاد عالمي تشكل قيمة ناتجه الإجمالي حوالي 23 في المئة من إجمالي الناتج العالمي.


واستمر تدفق المؤهلات العلمية والأيدي الماهرة إلى الولايات المتحدة بعد فترة وجيزة من اكتشاف القارة الأميركية ولا يزال مستمراً إلى الآن، فـ”ستيف جوب” المولود لأب سوري أحدث انقلاباً في تفكير جيل كامل من الشاب على مستوى العالم ووضع بتفكيره الفذ الولايات المتحدة على رأس بلدان العالم في تقنية الاتصالات.


ومع التقدم العلمي السريع أصبح موضوع استقطاب المؤهلات العلمية مسألة هامة أذا ما أراد بلد ما اللحاق بهذا التقدم السريع، خصوصاً وأن الكفاءات المميزة أصبحت نادرة، مما حدا ببعض بلدان العالم الى وضع حوافز عديدة لاستقطاب هذه الكفاءات، وبالأخص في البلدان المتقدمة، إذ قدمت ألمانيا تسهيلات كثيرة في الآونة الأخيرة للمتخصصين في فروع العلم والمعرفة، وكذلك فعلت العديد من البلدان الأوروبية التي عدلت قوانين الهجرة لتتناسب واحتياجاتها للخبرات التي يتمتع بها المهاجرون.


وفي دول الخليج العربية، والتي تحقق معدلات نمو مرتفعة وتتوافر لديها فرص كثيرة لتحقيق التميز، ليس فقط بمعدلات النمو، وإنما في الاختراعات والاكتشافات العلمية وربطها بإنتاج السلع المتقدمة تكنولوجياً… فإن بعض الكفاءات بدأت في الآونة الأخيرة هجرة معاكسةً لأكثر من سبب، يأتي في مقدمتها التقدم الذي حققته البلدان الصاعدة، كالهند، والذي أدى إلى ارتفاع مستويات المعيشة وزيادة الأجور حتى أصبحت قريبة من مثيلاتها في دول الخليج لبعض التخصصات والمهن التي ارتفع عليها الطلب في هذه البلدان.


ومن هنا ستواجه دول الخليج، إذا ما استمر النمو السريع، نقصاً في بعض التخصصات بسبب الطلب المتنامي عليها في مختلف بلدان العالم، خصوصاً وأن هناك مشاريع في بعض دول مجلس التعاون ترتبط بإنتاج التقنيات الحديثة، إذ أن الأمر ينبغي أن لا يقتصر على استيراد هذه الكفاءات، بل وتوطينها بما يصاحب ذلك من توطين للتكنولوجيا الحديثة.


ويبدو أن السعودية انتبهت لمثل هذا التفاوت ما بين النمو السريع ونقص الكفاءات التي تتطلبها عملية التنمية، فاتخذت قراراً بتجنيس ألف من هذه الكفاءات سنوياً، ما يعني وجود عشرة آلاف متخصص ومهني من المؤهلات التي يمكن أن تضيف الكثير للاقتصاد المحلي خلال السنوات العشر القادمة.


ونظراً لهذه الخطوة، فإنه يمكن أن تصاحبها خطوات أخرى مكملة، كتأسيس مراكز أبحاث ومجمعات علمية، كالمدينة الأكاديمية في الهند، حيث لا تزال مثل هذه المراكز البحثية محدودة في بلدان المنطقة.


وبين دول الشرق الأوسط، تعتبر دول مجلس التعاون الخليجي الأوفر حظاً في دخول مجالات البحث والاختراعات العلمية إذا ما تمكنت من استقطاب الكفاءات ووطنتها، فالمؤهلات المحلية مهما بلغت من تطور لا يمكنها تلبية الاحتياجات التنموية الحديثة، وذلك لأسباب عديدة تتعلق بالتعليم وبتراكم الأسس التي تستند عليها مراكز الأبحاث والاكتشافات العلمية.


وبالإضافة إلى عملية الاستقطاب، فإن دول المجلس تملك البنية التحتية القوية والقدرات المالية التي تمكّنها من منافسة البلدان الأوروبية والصاعدة في استقطاب الكفاءات الأجنبية، وذلك إلى جانب تنمية وتأهيل الكفاءات المواطنة المتوافرة في دول المجلس، والتي يمكن وضع برامج لتنمية قدراتها وتوفير مراكز الأبحاث والمختبرات العلمية ودعم البحث العلمي الذي لا يشكل الإنفاق عليه حالياً نسبة تذكر من الناتج المحلي الإجمالي.
وبهذا التوافق بين المؤهلات وبرامج التنمية يمكن تحقيق التقدم الاقتصادي المنشود لتنويع مصادر الدخل والمنافسة في الأسواق العالمية، ليس من خلال تصدير المنتجات المادية فحسب، وإنما من خلال المحافظة على الموارد وإنتاج وتصدير المنتجات الفكرية لاقتصاد المعرفة التي تشكل مجتمعة الأساس اللازم للتنمية المستدامة.


صحيفة الإتحاد الاماراتية