كتب محمد بن عبد الكريم بكر


كانت مفاجأة سارة ما نقلته وسائل الإعلام في الأسبوع الماضي بخصوص قرار مجلس الوزراء تشكيل لجنة برئاسة وزير العمل لوضع آلية لتوطين الوظائف في عقود التشغيل والصيانة في القطاعات الحكومية، وتفعيل الأوامر والتعليمات الصادرة في ذلك الشأن ومتابعة تنفيذها. إذ إن تلك العقود باتت تستأثر بحصة كبيرة من ميزانية الدولة، وهي حصة من المتوقع أن ينمو حجمها بمعدلات عالية لتواكب حجم التوسع الذي نشاهده في الإنفاق العام واكتمال تنفيذ مراحل جديدة من شبكات الخدمات والمرافق العامة في سائر بقاع الوطن.


وكنت قد تناولت في مقالات سابقة نشرتها ”الاقتصادية” ملف عقود التشغيل والصيانة التي تبرمها الحكومة، وما تحمله تلك العقود من فرص لتوظيف عشرات الألوف من المواطنين. إذ كتبت في ١٤٢٥/٨/١٤ هـ عن ”الفرصة المضيعة”، وما جادت به تلك العقود من وظائف ضئيلة للسعوديين على الرغم من الجهود الكبيرة التي تُبذل، والقرارات العديدة التي صدرت بأن تكون أولوية التوظيف للسعوديين.


ثم أعدت الكرّة مرتين، مرة بتاريخ ١٤٢٦/١٢/٢٤ هـ تحت عنوان ”هدية لوزير العمل”، وأخرى بتاريخ ١٤٢٨/٥/٢٦ هـ تحت عنوان ”إضافة جديدة في سوق العمل”، أشرت فيهما إلى العائق النظامي الذي اصطدمت به برامج السعودة في عقود التشغيل والصيانة وهي الفترة المحددة في تعاميم صدرت من الحكومة قبل نحو 30 عاماً وضعت سقفاً لتلك العقود بألا تزيد مدتها على ثلاث سنوات. وهي فترة أثبتت التجربة تلو الأخرى أنها غير كافية لتوفير وظيفة مستقرة للمواطن الذي يتطلع لتنظيم حياته وبناء أسرته، ناهيك عن تأهيل كوادر مدربة تبني سجلها المهني من خلال التدرج في سلم عمل منتج يضيف للاقتصاد الوطني خبرات تراكمية تزداد عاماً بعد آخر.
كما أشرت في تلك المقالات إلى أن السعودة لم تكن الضحية الوحيدة لذلك القيد الذي وُضع على عقود التشغيل والصيانة، بل امتدت آثاره إلى جوهر الهدف الذي من أجله أُبرمت تلك العقود ألا وهو الخدمة ذاتها. إذ عادة ما تنقضي الأشهر الستة الأولى من العقد في عملية استلام وتسليم بين المقاول الخلف والمقاول السلف.. ثم قبل نهاية السنة الثالثة والأخيرة من العقد يُعلن عن طرحه في منافسة.. وهنا تبدأ معنويات العاملين في التدهور لمدة 12 شهراً تقريباً نتيجة القلق على مستقبلهم الوظيفي. وهذا بالطبع ينعكس سلباً على مستوى الأداء والخدمة. أي أن الدولة تخسر في المتوسط نحو (٣٠ إلى ٥٠ في المائة) من فترة وقيمة تلك العقود مقابل خدمة متدنية أو مفقودة.


لقد أثبتت التجارب أن أي برنامج ناجح لإحلال السعوديين في وظائف عقود التشغيل والصيانة لا بد من أن تتوافر له عوامل أساس، أهمها: الاستقرار والأمان الوظيفي، الأجور والرواتب المجزية، ثم التدريب الجيد. إذ إن غياب أي من تلك العوامل يحدث اضطراباً وخلخلة في البرنامج إلى أن ينتهي به الحال تدريجياً إلى مجرد مضيعة للوقت وإهدار للمال وضياع لمستقبل وآمال الكثير من الشباب، فما بالك إن غابت تلك العوامل مجتمعة!


لذا أخذت لجنة الشؤون المالية في مجلس الشورى على عاتقها، عندما درست مشروع النظام الجديد للمنافسات والمشتريات الحكومية في دورة المجلس الثالثة، أن تطلب من المجلس فك القيد الذي كان مفروضا على مدة عقود التشغيل والصيانة، وهو ما أيده المجلس بالإجماع آنذاك. وكان من بين المبررات التي طرحتها اللجنة أمام المجلس لدعم توصيتها توفير فرص عمل للمواطنين في وظائف ذات بيئة مستقرة، المحافظة على استمرارية الخدمة في المرافق العامة، تقليص الهدر في المال العام الذي يصاحب تعدد عملية التسليم والاستلام بين المقاولين، خفض تكلفة العقود باستهلاك المعدات والتجهيزات التي يوفرها المقاول على فترة أطول، وتشجيع إنشاء شركات متخصصة ذات كوادر وطنية وخبرات متراكمة يمكن تطويرها إلى شركات مساهمة مستقبلا، وفتح فرص جديدة للاستثمار أمام المواطنين.


ووجدت تلك التوصية مكانها في ”نظام المنافسات والمشتريات الحكومية” عند صدوره عام ١٤٢٧هـ، إذ تضمنت المادة ٢٨ زيادة مدة تنفيذ عقود الخدمات ذات التنفيذ المستمر إلى خمس سنوات مع جواز زيادة تلك المدة على خمس سنوات للعقود التي تتطلب ذلك – دون سقف أعلى – بعد موافقة وزارة المالية.


إن المرونة التي منحها النظام الجديد في تحديد مدة عقود التشغيل التي تبرمها القطاعات الحكومية ينبغي اغتنامها من قبل اللجنة المكلفة لتوطين الوظائف في تلك العقود بما في ذلك إعادة صياغة أهدافها وترتيبها في إطار يتلافى سلبيات الماضي. ومع إدراكنا أن ذلك العمل المؤسسي يتطلب دراسة دقيقة، فقد تستحسن اللجنة كسبا للوقت، التركيز في المرحلة الأولى على شروط منافسات العقود التي تزيد تكلفتها السنوية على ١٠٠ مليون ريال، ثم الأقل فالأقل، حيث تُفرز الوظائف التي يمكن شغلها بسعوديين على نحو يوضح مسمياتها، مؤهلاتها، رواتبها، ومواقعها. ثم تُحدد المدة الملائمة للعقد قبل طرحه للمنافسة في ضوء تلك المعلومات، مع اعتبارات أخرى بالطبع، لتوفير قدر معقول من الاستقرار الذي ينشده كل امرئ في عمله.


بقي جانب مهم لا بد من التوكيد عليه في برنامج توطين وظائف عقود التشغيل ألا وهو الحرص على أن يكون الإحلال تدريجياً، وذلك يعني تضمين قيمة العقد مبلغاً للتدريب على رأس العمل قبل الاستغناء عن المتعاقد الأجنبي. وأحسب أن المجتمع يكفيه ما ألمّ به من خسائر وأضرار نتيجة برامج توطين سابقة لم يكتب لها النجاح بسبب عدم الإعداد الجيد لها، وكانت المحصلة النهائية خدمة متدنية بتكلفة أعلى.


*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.