صحبنا في رحلتنا إلى الحجاز، دليل شيخ من أعراب نجد يقال له صلَبى ما رأيت أعرابياً مثله قوةَ جَنَان، وفصاحة لسان، ولولا مكان النبرة البدوية من لسانه لقلت قد انصرف الساعة من سوق عكاظ، لبيان لهجته، وقوة عارضته، وكثرة ما يدور على لسانه من الفصيح . وكان أبيّ النفس، أشمّ المعطس،عالي الهمة ، كريم الطباع، لكن فيه جفوة الأعراب...
رافقنا أياما و ليالي ، فما شئنا خلة من خلال الخير إلا وجدناها فيه : كان يواسينا إذا أصبنا، ويؤثرنا إذا أَضَقنا، يحمينا إذا هوجمنا ، و يحرسنا إذا نمنا، و يقنع إذا قسمنا ، و يشكر إذا أعطينا ، و يصبر إذا منعنا ، و يعذر إذا اعتذرنا ، و يعفو إذا أسأنا ، و يلين إذا اشتددنا ، و لا يشتد إذا لنا ،على خفة روح ، وسرعة جواب ، ونكتة حاضرة ، شجاعة نادرة . قلنا له مرة:
- إن (صْلَبة) في عرب اليوم، (كباهلة) في عرب الأمس، قبيلة لئيمة خسيسة يأنف الكرام من الانتساب إليها، وأنت فيما علمنا سيّد كريم من سادة كرام، وليس لك في هذه القبيلة نسب فما لك تدعى صلبى و لا تغضب؟ فقال:
- صدقتم والله، ما أنا من صلبة، ولا صلبة مني، وإني لكريم العم والخال ولكنّ لهذا الاسم قصة أنا قاصها عليكم.
قلنا له: هات.
قال:
-كان أبواي مثكلين لا يعيش لهما ولد، فلما رزقا بي تاسع تسعة ماتوا جميعا ، و أعجزتهم الحيلة ، احتسبا عند الله مصيبتهما بذل الاسم ، و سمياني صْلَبى.
قلنا: أإن سمياك صْلَبى عشت؟
قال:
- نعم إن عزرائيل( لم يثبت في حديث صحيح أن هذا اسم ملك الموت) أكرم من أن يقبض روح صْلَبى و أرفع من أن يمسه بيد....
وسألناه مرة: هل أنت متزوج يا صْلَبى؟
قال:
- لقد كنت متزوجاً بشرّ امرأة تزوجها رجل، فما زلت أحسن إليها وتسيء إليّ حتى ضقت باحتمالها ذرعاً فطلقتها ثلاثاً وثلاثين.
قلنا: إنها تبين منك بثلاث، فلم الثلاثون؟
قال: صدقة مني على الأزواج المساكين الذين لا يجدون ما يطلقون ...
وطال بنا الطريق إلى تبوك، و كاد ينفد ما كان معنا من ماء ، و خشي القوم الموت ، فأقبلوا كلهم على صلبي ، يتذمرون من بعد تبوك و طول الطريق ، فتركهم حتى إذا نفض كل جعبته ، قال لهم ضاحكا:
معكم الحق إنها بعيدة ، و لكني أقسم لكم بالله أني لم أضعها أنا هناك ... و ليس لي في بعدها يدان
. ولم يكن صْلَبي يعرف المدن الكبيرة ، ولم يفارق الصحراء قط إلا إلى حاضرته تبوك (وتبوك قرية فيها ستون بيتاً...) فلما بلغنا-قافلين- مشارف الشام أغريناه بدخول المدينة، وجعلنا نصف له الشام: رياضها و أنهارها و عظمها و عمرانها فيأبى، وكنت صفّيه من القوم وخليله ونجيّه فجعلت أحاوله وأداوره، وبذلت في ذلك الجهد فلم أصنع معه شيئاً لما استقر في نفسه من كراهية المدن وسوء الظن بأهلها.... فتركناه مرغمين ، و ودعناه آسفين !
وعدت إلى دمشق، فانغمست في لجة الحياة، وغصت فيها إلى أذني، و نسيت صلَبى وصُحبته، وكدت أنسى الصحراء وأيامها، ومرّت على ذلك شهور... وكان أمس فلمحت في (باب الجابية) وسط الزحم الهائل، وجهاً أعرفه فذهبت أنظر إليه فإذا هو وجه صْلَبى بعينه و أنفه ....فأقبلت عليه مسرورا:
-صْلَبى ... هذا أنت ؟
قال: - لا صْلَبى ولا مْلَبى.
قلت: ولم ويحك؟
قال: أنا في طلبك منذ ثلاث ثم لا تأتي إليّ
فقلت له ضاحكاً: - وأي ثلاث وأي أربع و أي خمس؟ أتحسبها تبوك فيها ثلاثمائة إنسان إنها دمشق يا صْلَبي، فيها ثلاثمائة ألف نسمة، فأين تجدني بين ثلاثمائة ألف؟
قال: - صدقت والله!
و أخذت بيده فاستخرجته من هذه الزحمة، وملت به إلى ندى(مقهى) قريب، فجلسنا فيه ودعوت له بالقهوة العربية والشاهي، فسرّ، وانطلق يحدثني فقال:
- لمّا فارقتكم ورجعت أسير في هذه البادية وحيدا، شعرت بالوحشة وحننت إلى هذه الأيام التي قضيتها معكم ، فاستعبرت و جعلت ألوم نفسي و أقول يا نفس ما كان ضرك لو أجبت القوم و وردت الشام فرأيت ما لم تري ؟
و انصرفت إلى أهلي ، فلبثت فيهم شهرا ثم دعاني الأمير فارتحلت إليه ، فإذا عنده رهط من أهل الحضر يريدون دليلا ، فسرت معهم أدلهم حتى بلغت بهم مشارف الشام فدعوني و ألحوا علي فاستجبت لهم فدخلوا بي دمشق ...
فلما بلغنا الميدان و صرنا بين البيوت ، رأيت سيارة كسيارتكم تلك، لكنها أكبر وأضخم، لها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما،
فقال صاحبي : هذا هو الترام ، فتعال نركب فيه
قلت لا و الله ما أحب أن أركبه
فزينوه لي و حببوه إلي ، حتى استحييت منهم لطول ما يسألوني و آبى ، فدخلت ويدي على خنجري إن رأيت من أحد ما أكره وجأته به، وعيني إلى النافذة إن رابني أمر قفزت إلى الطريق، وجلست حذرا ، فما راعني إلا رجل بثياب عجيبة قد شق إزاره شقاً منكراً، ثم خاطه حول فخذيه ، و ارتدى برداء ضيق ، قد عمد إليه فصف في صدره مرايا صغيرة من النحاس ما رأيت أعجب منها، فبدا كأنه قرد ...
و لم أدر ما هو ، ثم رجع إلي ما غرب من عقلي ، فقلت رومي مجنون من هؤلاء الروم الذين يحكمون الشام ، وخفت أن أنا لنت له أن يسطو علي ، فسللت خنجري لأغمده في صدره إذا هو انتهى إلي ،فقام إلي صاحبي يقول :
- مالك يا صلبي ، ماذا عراك ؟
قلت : ألا ترى الرومي المجنون ؟
قال : أي رومي يا صلبي ؟ و أي مجنون ؟
قلت : هذا ؟ أما تراه ؟
قال: هذا جابي الترام
قلت: جبك الله !
و سكت فقد أقبل هذا القرد على صاحبي ، فمد إليه يدا كأنها حجر الرحى ، فوضع فيها من جبنه قرشين ،فأعطاه بهما فتاتة ورق، فما رأيت والله صفقة أخسر منها، وعجبت من صاحبي إذ يشتري بقرشين اثنين ورقة لا تصلح لشئ و لكني جلست صامتا ، و ما هي إلا هنَيّهة حتى أقبل علينا رجل كالأول رومي خبيث إلا أنه أجمل ثياباً، وأحسن بزّة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها، فثارت ثائرتي، قلت: هذا والله الذل، فقّبح الله عربيا يقيم على الضيم ، و يرضى أن يسام الخسف ..و قمت إليه فلبّبته وقلت له:
- يا ابن الصانعة، أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا، ودفعنا فيه قروشنا و تمزقه، و الله لأمزّقن جلدة وجهك.
وحسبت صاحبي سيدركه من الغصب لكرامته، والدفاع عن حقه مثل ما أدركني فإذا هو يضحك، و إذا الناس يضحكون لما يرون مني ، لأن عمل هذا الرجل -فيما زعموا- تمزيق أوراق الناس التي اشتروها بأموالهم !
ولما نزلنا من هذه الآفة، قال لي صاحبي: هلّم إلى الحمام.
قلت:مالي وللحمام ؟
قال: نغتسل وتلقي عنك أدران السفر.
قلت: إن كان هذا هو الحمام، فما لي بالحمام من حاجة ، حسبي هذا النهر أغطس فيه فأغتسل.
قال: هيهات... إن الحمام لا يعدله شيء، أو ما سمعت أن الحمام نعيم الدنيا؟
قلت: لا والله ما سمعت.
قال: إذن تسمع و ترىْ.
وأخذني فأدخلني داراً قوراء في وسطها بركة يتدفق منها الماء، فيذهب صعداً كأنه عمود من البلور ثم ينثنى ويتكسر ويهبط و له بريق و لمعان ، صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان، وعلى أطراف الدار دكك كثيرة، مفروشة بالزرابيّ و الأرائك و المتكآت كأنما هي خباء الأمير، فلم نكد نتوسطها حتى وثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد، يصيحون علينا صياحاً غريباً، و يصرخون صراخ من به مس ، فأدركت أنها مكيدة مدبرة، فانتضيت خنجري و صحت بهم : مكانكم فوالله لا يدنو مني رجل إلا قططت رقبته، فأحجموا وعجبوا و رعبوا،فقال صاحبي : إنه يمزح، ومال عليّ يعاتبني عتاباً شديداً. فقلت : أفلا ترى صنيعهم بنا أفتحب أن ندعهم حتى يأخذونا؟
قال: إنهم يرحبون بنا ويسلمون علينا لا يريدون حربا و لا قتالا.
فصدقته و أغمدت الخنجر ، و ظن القوم أنه المزاح فعادوا إلى حركتهم و ضجتهم ، يدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون، وأنا لا أدري ما هم صانعون حتى قادونا إلى دكة من هذه الدكك، وجاءوا ينزعون عنا ثيابنا فتحققت أنها المكيدة، وأنهم سيسلبونني خنجري حتى أهون عليهم ، فقد عجزوا أن ينالوني وبيدي الخنجر، فأبيت وهممت بالخروج فجعل صاحبي يكلمني و يحلف لي حتى أجبت و استسلمت ، و للموت أهون علي من أن أنزل عن سلاحي و أمنحهم سَلَبي حتى يسلبونني و لكنها المدينة دار الذل و المهانة و ليست بالصحراء ولو أني لقيتهم في الصحراء لجعلتهم طعمة الوحش و الطير... حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبق عليّ إلا الإزار أرادوا نزعه عني ، فقلت: أما من مسلم في هذا البلد ؟ أما من عربي؟ أتكشف العورات فلا يغير أحد، ولا يغضب إنسان؟
فهدّأني صاحبي وقال: أفتغتسل وأنت متزر؟
قلت: لعن الله نظافة الجسم إذا كانت لا تأتي إلا مع نجاسة النفس ، ويحك أتراني أضيع ديني و شرفي و أتكشف بعد هذه الشيبة ، و تذهب عني في العرب ، فتكون فضيحة الدنيا و الآخرة ؟
قال: من أنبأك أنك ستنكشف؟ هلا انتظرت ؟
و دعا غلاماً من أغلمة الحمام، فقام دوني يسترني سترة الله حتى خلعت إزاري و اتزرت بازار أبيض أعطونيه ، وكان صاحبي قد تعرى كما تعريت فأخذ بيدي فأدخلني إلى باطن الحمام، فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلى ساحات، ومداخل ومخارج متلوية معوجة ، يضّل فيها الخرّيت وهي مظلمة كالقبر و قد انعقدت فوقه قباب فيها قوارير من زجاج تضيء كأنها النجوم في الليلة الداجية، وفي باطن الحمام أناس جالسون إلى أجران ضخمة من الصخر، عري لا يسترهم شئ فعلمت أنهم الجن و تعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وجعلت ألتمس آية الكرسي فلا أجدها، فأيقنت لما نسيتها أن جنياً منهم لابد راكبني ، وجعلت أبكي على هذه الشيبة أن تكون سخرية شبان المدن ، وإني لكذلك، وإذا بالخبيث يعود إليّ يريد أن ينزع عني هذا الإزار الذي كسانيه،فقلت ويل أمهاتكم ! ما ألأمكم ! أتأخذون ثيابي وسلاحي ؟ ثم تضنون علي بثوب يسترني ؟ الرحمة يا مسلمون، الشفقة يا مؤمنون ، أأفتضح في الإنس و الجن ؟
و وثب الجن علي وأحدقوا بي و هم عري، فقف و الله شعر بدني ، و امتلأت فزعاً فقال صاحبي و هو يضحك :
- اعطهم الإزار لقد أضحكت الناس علينا.
قلت:ويحك و هل أبقى عرياناً؟ قال: لا، سيعطيك غيره،إن هذا جديد يفسده الماء.
فاستخذيت و أطعت و ما خوفي إلا من هؤلاء الجن أن ينفخ علي أحدهم فيحرقني أو يدفعني دفعة فيلقيني وراء جبل قاف !
و دخلت إلى مقصورة من هذه المقاصير، فجلست إلى الجرن حزيناً كئيباً لا أعلم ماذا يجري علي فبينما أنا تلك الحال وإذا بجني عار، كأنه قفص عظام، له لحية كشوك السعدان ، وددت أنها عشاء لجملي وقد تأبط ليفاً غليظاً- يا شرّ ما تأبط- وحمل ماعوناً كبيراً،فتشهدت و استغفرت و علمت أنه السم ، وأنه سيتناثر منه لحمي ، و قصد الجني إليّ، فجعلت أفرّ منه وأتوثب من جانب إلى جانب ، كأني دجاجة تفر من سكين الجزار وهو يلحق بي ضاحكاً ويعجب من فعلي، ويظن أني ألاعبه أداعبه، وصاحبي يقسم لي أنه الصابون.
قلت : و ما الصابون لا أم لك – أمصابون أنتم في عقولكم ؟- هذا هو السم لقد عرفته...
قال : لا و أبيك إنه الصابون ، و لا ينظف شئ مثله .
قلت: ألا شيء من سدر! ألا قليل من أشنان؟
قال: والله ما أغشك، فجرب.
و نطق الجني ، فإذا هو و الله كلام ككلام الناس و إذا هو آدمي من أمثالنا ، فاطمأننت و جلست بين يديه ، وأقبل الرجل يدلكني دلكاً شديداً وأنا أنظر هل تساقط لحمي، هل تناثر جلدي، فلا أجد إلا خيراً ، فظننت أنه أحسن إلي ، و هممت بشكره لولا أن ظهر أنه شيخ سوء من القوم الذين أهلك الله فقد كان يتغافلني فيمد يده من تحت الإزار فيمس فخذي و ساقي ، فقلت : لو نجا منه أحد لأنجتني هذه الشيبة ، وجعلت أهم بهشم أنفه وهتم أسنانه ثم أدعه ، حتى انتهى و صب علي الماء سخناً فشعرت و الله كأنما نشطت من عقال ، و أحسست الزهو و الخفة ، فصحت فأنكرت صوتي فقلت: ما هذا، أينطق على لساني مغنٍ من الجن؟ وأعدت الصيحة فازددت لصوتي إنكاراً. فاستخفني الطرب، و جعلت أغني وأحدو، فقال صاحبي: هل استطبت صوتك؟
قلت: إي و الله. قال: أفلا أدلك على باب القاضي؟
قلت: فض الله فاك ما لي و للقاضي؟ هل أحدثت حدثاً ؟ هل آويت محدثاً ؟ هل ...
قال: ألا تعرف قصة جحا؟
قلت: لا والله، فمن جحا ؟ و ما هي قصته ؟
قال: كان جحا عالماً نحريراً، إلا أن فيه لوثة ، و كان خفيف الروح، فدخل الحمام مرة فغنى فأعجبه صوته ، فخرج من فوره إلى القاضي، فسأله أن ينصبه مؤذناً وزعم أن له صوتاً جميلاً ،لا يدخل أذن رجل إلاّ حمله حملاً فوضعه في المسجد... فقال له القاضي: فقم على المنارة فأذن نسمع ، فقام فأذن، فلم يبق في المسجد أحد إلا خرج هاربا يتعوذ.
فقال له القاضي: أي صوت هذا ؟ هذا الذي ذكره الله في الكتاب !
قال: أصلح الله القاضي، ما يمنعك أن تبني لي فوق المئذنة حماماً؟!..
* * *

ولمح صلبي أعرابياً من أهل نجد، يمر في الطريق ، فقال لي : انتظر وخرج يعدو وراءه ...
. . . . . ثم لم يعد !
علي الطنطاوي

نقلاً عن كتاب الحديقة لمحب الدين الخطيب الجزء 14 المطبعة السلفية