الأطفال يدفعون الثمن قلقاً واكتئاباً

إدمان العمل دليل اضطراب عاطفي

الفايننشال تايمز : إدمان العمل دليل اضطراب عاطفي
فرق بين أناس يكرسون أنفسهم لحياتهم المهنية ويستمتعون بذلك وبين العمل القهري من أجل حجب المشاعر.
إيما جيكوبس من لندنبحلول الساعة الثالثة من عصر كل يوم، تبدأ حالة من الشعور بالإنهاك العقلي والجسدي تسيطر على ميشيل. وبدلاً من وقفة لالتقاط الأنفاس، تقوم صاحبة المشاريع البالغة من العمر 50 عاماً، من ولاية تكساس، بإعداد نفسها نفسياً لمشروع عمل جديد. وتقول: ''كنت مدمنة على الأدرينالين. كنت أضاعف جهدي في كل وقت''، لكن ذلك سبَّب لها كما قالت، الألم والمعاناة: ''وكنت أشعر بالاكتئاب وأن جسدي توقف عن العمل''.لذلك قبل ست سنوات حضرت أول اجتماع لـ ''الرابطة المغْفلة لمساندة مدمني العمل''. وهي عبارة عن برنامج يتكون من 12 خطوة، تأسس في عام 1983، وهو يحذو حذو نموذج روابط مساندة مدمني الخمر ومدمني المخدرات. لكن في هذه الحالة، بدلاً من التخلي عن الخمور أو الكوكايين، يريد المشاركون التوقف عن العمل بشكل قهري.ووجدت ميشيل (ليس اسمها الحقيقي) أن الفريق ساعدها على تغيير الطريقة التي كانت تعمل بها. ويشتمل النشاط على عمل أقل، لكنها وجدت أيضا زيادة في مستويات الطاقة لديها من خلال العمل بصورة أكثر ذكاء. وتقول: ''تعدُّد المهام والتكنولوجيا يجعل عملية التركيز صعبة. ركزتُ على شيء واحد وكانت النتائج أفضل''. وأدت التجربة إلى تحويل توجهاتها نحو العمل. وكما قالت: ''يستخدم الناس العمل لتجنب العلاقة العاطفية الحميمة، لم أكن أعتقد أنني يمكن أن أكون مجدية إلا إذا كنت منتجة''.لقد ساعدتها الجمعية على تتبع المشكلة التي تعود إلى طفولتها. وتقول: ''أمي وأبي شخصان رائعان، لكنهما لم يمارسا الأبوة والأمومة بشكل جيد للغاية، كانت المرة الوحيدة التي حصلت فيها على اهتمام منهما عندما أبليتُ بلاءً حسناً في المدرسة''.وتقول ميشيل: إن الصورة النمطية للإدمان على العمل هي صورة رجل أعمال يعاني آثار ضغط شديد ويلبس بدلة، لكنها تعتقد أن هذا ليس هو الأنموذج الوحيد، مضيفة أنها سبق أن كانت مدمنة على العمل التطوعي، في حين حتى الآباء الذين يبقون في المنزل قد يعانون أيضا إدمان العمل بسبب الحاجة إلى ''أن يكونوا دائما مشغولين وليسوا في حالة تكاسل مريح''. وتتابع: ''إدمان العمل أوسع انتشاراً من مجرد التنفيذيين المستنزفين من الطاقة. تماماً مثلما أن الإدمان على الخمر ليس مجرد منظر سكير نائم تحت الجسر''.وعلى الرغم من تشخيص ميشيل لنفسها بأن حالتها إدمان على العمل، ليس هناك تعريف سريري لذلك ولم يكتسب مرض مدمني العمل الزخم الذي نجده لدى جماعات مساندة المدمنين على الخمر. وقد صيغ هذا المصطلح في عام 1968 من قبل واين أوتس، وهو عالم نفس أمريكي يعمل في التربية الدينية، في مقال اعترف فيه بأن إدمانه على العمل (كتب 57 كتاباً) كان مماثلا للإدمان على الخمر.كما أن فكرة الإدمان على العمل تُعَرِّض الشخص للسخرية. وتقول ميشيل: ''يضحك الناس إذا قلت إنك من المدمنين على العمل''.مايكل سينكلير، وهو طبيب نفساني استشاري يوجد مقره في الحي المالي في لندن، يرى أن المصطلح هو من نوع ''علم النفس الشعبي''.لكن المكوِّن الوسواسي الذي يدعو صاحبه للإفراط في العمل إلى جانب عواقبه الضارة دفع مزيدا من علماء النفس إلى تغيير وجهة نظرهم. وفي العام الماضي، مثلا، أنشأ باحثون في النرويج والمملكة المتحدة ''مقياس بيرجن للإدمان على العمل''، وهو أداة لقياس إدمان العمل على أساس سمات الإدمان الرئيسية.ويدافع بريان روبنسون، الطبيب المعالج ومؤلف كتاب ''وثاق مشدود إلى المكتب''، منذ فترة طويلة عن مفهوم إدمان العمل. وقد وصف نفسه بأنه ''متعافٍ من إدمان العمل'' الذي هو الإدمان على الكحول، مشيرا إلى أنه اعتاد على إخفاء إفراطه في عمله. ويتذكر عطلة تظاهر خلالها بالغفوة، بينما ذهبت عائلته في نزهة على الأقدام حتى يتمكن من القيام ببعض الأعمال. وقد سمع عن امرأة اعتادت على تبليل طقم الملابس الرياضية الخاصة بها بالماء لتتمكن من استخدام درس تمارين رياضية تفوح منه رائحة العرق حجة تبرر بها الساعات الطويلة في المكتب.وضرر الإفراط في العمل يمكن أن يتجاوز الشخص المفرِط إلى الزوجة والأطفال. وقد أظهرت بعض الدراسات أن أطفال مدمني العمل لديهم معدل عالٍ من الاكتئاب والقلق يفوق ما لدى أطفال المدمنين على الخمر.وحتى بين علماء النفس الذين يرفضون الاعتراف بفكرة الإدمان على العمل، يعتبر العمل المفرط علامة على الاضطراب العاطفي. ويقول سنكلير: ''هناك اضطرابات متصلة بالعمل المفرط'' وربما يكون العمل الشاق مرتبطاً بـ ''النزعة إلى الكمال'' و''نوع السلوك أ'' (متوتر للغاية وقادر على المنافسة بشكل كبير). وتكمن وراء هذه المشاكل، كما يقول ''مشاعر الرفض''.ومع ذلك، يقول سنكلير: ليس كل من يعمل ساعات طويلة لديه مشكلة: ''هناك فرق بين أناس يكرسون أنفسهم لحياتهم المهنية ويستمتعون بذلك وبين العمل القهري من أجل حجب المشاعر. محور الأمر كله يتعلق بالإفراط. نحن جميعاً نمتلك بعض صفات مدمني العمل. العمل مهم لهويتنا. فهو مهم من الناحية المالية، لكنه مهم أيضاً من الناحية النفسية. يمكن أن يكون صحياً - فهو يعطي لنا دوراً وروتيناً. المشكلة في الإفراط''.ويعتقد مارك جريفيث، ''أستاذ دراسات لعب القمار'' في جامعة نوتنجهام ترينت، أن العمل لفترات قصيرة من 12 إلى 16 ساعة في اليوم أمر لا يدعو للقلق. لكنه يضيف أن كل شخص له رد فعل مختلف. شخصان يعملان 14 ساعة في اليوم لمدة شهر قد يظهر عليهما سلوك مماثل ''لكنهما مختلفان تماماً من حيث دوافعهما النفسية ومعنى وتجربة العمل داخل حياتهما''. بالنسبة لأحدهما قد يكون العمل الجاد ''إيجابياً تماماً'' حين يؤدي إلى الترقية، مثلا، في حين أنه بالنسبة للآخر ''سلبي تماما'' لأنه وسيلة لحجب كل شيء آخر حوله.ويرى يهودا باروخ، وهو أستاذ في كلية نيوما لإدارة الأعمال في فرنسا، أن الإدمان على العمل لا يفترَض أن يُرفَض بصورة آلية باعتباره رذيلة، وليس سمة يمكن أن تؤدي إلى تحقيق نتائج إيجابية لدى الأفراد والشركات والمجتمع. ويشدد على أننا محظوظون في أن ''فريق البيتلز كان مدمناً على العمل''.وفي السنة الماضية استحدث فيلمار شاوفيلي، أستاذ العمل وعلم النفس التنظيمي في جامعة أوتريخت، تعبير ''المدمن على العمل المنخرط''، الذي يُعرِّفه على أنه الشخص الذي لديه حماسة صحية إيجابية للعمل. ويعتقد شاوفيلي أن الفرق الأساسي هو بين الذين يشعرون بأنهم ''مجذوبون'' من خلال التمتع بالعمل وبين الذين يشعرون بأنهم ''مدفوعون'' بسبب المشاعر السلبية، مثل الرغبة في الهروب من العلاقة الحميمة مع الشريك أو مع أحد أفراد العائلة.وبحسب باروخ: ''إذا كنتَ تحبه، فلا تخشَ شيئاً. وإذا لم تكن تحبه، فقم بأقل القليل''.ومن رأيه أن مفهوم العمل المفرط ذاتي تماماً. ويقول: ''أنا أحب الشوكولاتة. ويمكنني أن آكل الكثير منها دون أن تسبب لي السمنة، لكن إذا أصبحتُ سميناً بسبب الإفراط في تناول الطعام فسيكون مشكلة، ليس كل إدمان يدمر حياتك''.والأمر أيضاً عرضة للاختلاف الثقافي. فالإفراط في العمل في فرنسا، كما يقول باروخ، ربما لا يشعر به شخص في الصين على أنه كذلك.وبالنسبة للذين يشعرون فعلاً أن لديهم مشكلة، يقول سنكلير: إن الحل هو التصدي للقضايا العاطفية التي تكمن تحت الاندفاع نحو العمل المفرط. وهو لا يؤمن بأن المشكلة يمكن حلها ببساطة عن طريق العمل لساعات أقل. ويقول: ''الأمر لا يتعلق بالحصول على مزيد من الإجازات، بل يتعلق بتجنُّب دورة العمل – الإجازة ـ العمل، حين تحرق نفسك في العمل وتعيد شحنها في الإجازة. ينبغي أن تكون قادراً على خلق مساحة ضمن العمل وتلاحظ كيف يكون شعورك. خذ وقتك في ملاحظة سلوكك''.