بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..
فتقبَّل الله منَّا ومنكم، وكل عام وأنتم بخير، وكل عام وأنتم إلى الله أقرب، وعن معاصيه أبعد..
فها هو عيد الأضحى يُسرع الخُطى إلينا ببركته وفضله؛ ليكون ختامَ عبادةٍ، وتمامَ نعمةٍ، ومدعاةَ شكرٍ وذكرٍ، ومثَارَ تفكُّرٍ، وموطنَ عظةٍ، فهو يأتي في ختام فريضة (الحج)، وهو ركن ركين من أركان الإسلام، كما كان عيد الفطر ختام فريضة (الصيام)؛ ليفرح المسلمون عقب كل عبادة ونسك.. ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (يونس: 58).
وهو يأتي عقب يوم عرفة؛ حيث يغفر الله لهذه الأمة ما أسلفت من معصية، وما فرَّطت في جنبِ الله، فلا يرى الشيطانُ أخزَى ولا أذلَّ منه يومئذٍ، وقد خاب سعيُه، وضاع جهدُه.
وفي مثل ذلك اليوم أتمَّ الله نعمته على أمة الإسلام بكمال نزول القرآن، دستور هذه الأمة.. ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3)، وفي أعقابه يقذف الحجيج إبليس بجمراتهم، متبرئين من سلطانه وقهره، متحررين من وسوسته ونفثه، عازمين على نصب العداوة له ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (فاطر:6).
فنسأل الله تعالى أن يتقبل من حجَّاج بيته حجَّهم وسعيَهم، وأن يُديم عليهم نعمته، وقد عادوا متطهرين كيوم ولدتهم أمهاتهم، وما أحرانا أن نستمسك بذلك الفضل؛ ليكون الحج- كما أراده الله- دورةً تدريبيةً مكثفةً، يعيشها أكثر من مليوني مسلم كل عام، يجدِّدون خلايا الإيمان والإنابة والتضحية والجهاد في جسد هذه الأمة، التي أضحت في مسيس الحاجة إلى فقهِ أسرار عبادتها، والتمسك بمردودها العملي، وهي في وضعها العصيب الذي تتكالب عليها فيه قوى الشر..

تضحية إبراهيم- عليه السلام- وآلِه:
يأتي عيد الأضحى من كل عام تخليدًا لكل هذه المعاني وغيرها، وخاصةً ذكرى تضحية أبي الأنبياء إبراهيم- عليه السلام- وأسرته المؤمنة التي نذرت نفسها لله، واستسلمت لأمره، فحقَّقت كمال معنى الإسلام والإيمان، حين همَّ خليل الرحمن بذبح ولدِه طاعةً لربه، فانقاد الابن لمراد الله تعالى، ورضيت الأم الصابرة بقضائه عز وجل، فكان تمامُ الإسلام لله هو كمال الاستسلام له.. ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ (الصافات: من الآية 103 إلى 107).
وكان القبول من الله تعالى رهنًا بحقيقة الإخلاص له، ومطلق التجرد لجنابه، حتى لو كان ذلك في أخص عواطف المرء.. عاطفة الأبوة والأمومة والبنوة.. ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف: من الآية110)، وبتلك التضحية النبيلة استحق إبراهيم- عليه السلام- أن يكون خليل الله تعالى، وأن يكون أمةً وحدَه ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النحل:120،121)

التضحية سبيل أصحاب الدعوات:
لم تقم دعوةٌ عظيمةٌ دون تضحية عظيمة ممن ينتسبون إليها، قيادةً وجندًا، وقد كان ذلك حاضرًا في ذهن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ اليوم الأول لنـزول الوحي على قلبه، حين حدثه "ورقة بن نوفل" بقوله: "ليتني أكون جذعًا- أي قويًّا فتيًّا- حين يخرجك قومك، قال- صلى الله عليه وسلم-: "أمخرجيَّ هم؟ قال نعم، ما جاء نبي بمثل ما جئت به إلا عُودي".
كما كانت التضحية في سبيل الدعوة ماثلةً في ذهن إمامنا الشهيد "حسن البنا"، حين استقرأ سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وحوادث التاريخ وسير أصحاب الدعوات، ثم قال: "أيها الإخوان المسلمون: إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه- على الأقل- إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلوُّن ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقديرٌ له، يعصم من الخطأِ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره".
وجعلها الإمام "البنا"- رحمه الله- ركنًا أصيلاً من أركان البيعة، ووضعها في ترتيبها الطبيعي الذي يضمن لأصحابها القبول عند الله، والنجاح في السعي، فجاءت بعد أركان الفهم والإخلاص والعمل والجهاد، فلا تضحية تُجدي بغير فهم صحيح يحيط بالدعوة من أطرافها، دون إفراط أو تفريط، وبدونه تغدو مخاطرةَ مغامرٍ يورِد نفسه مواردَ الهلَكة دون تبصُّر ووعي، ولا تضحية تُجدي من غير إخلاص لله يجلب لها القبول عنده، وبدونه تغدو شهوةَ نفسٍ تريد أن تُذكَر فتُشكَر، ولا تضحيةَ بعيدًا عن الالتزام الصادق بركن العمل الذي يحدد لها دوائر السير، ونطاق البذل، وجهاد يوسِّع مداها لتكون عنصر صيانةٍ للأمة وإعزازٍ لها؛ لذلك قال في أركان بيعتنا: "وأريد بالتضحية بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهادٌ لا تضحيةَ معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحيةٌ، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل".

الجهاد والتضحية فريضة:
إن عيد التضحية يقْدم علينا، وسوق الجهاد والتضحية قائم في عديد من أقطارنا، فُرِضَ عليها أن تُضحي بكل غالٍ وثمين؛ ردًا للعدوان، ودفاعًا عن المقدسات والحرمات، لا إرهابًا كما يزعم المجرمون، ولا عدوانًا على مَن ينشد السلام ويؤمن به، فأهلنا في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان- وفي غيرها من بلدان عالمنا الإسلامي المستهدف- لا يبغون غير حقوقهم الأصيلة في الحرية والاستقلال وكرامة الإنسان، هم الذين اعتدى عليهم الصهاينة والأمريكان والروس، هم الذين قُتل رجالهم ونساؤهم وأطفالهم، ودِيست بلادُهم، وبُدِّدَت ثرواتهم، واحتُلت أوطانهم، فمن عجيب أن ينعت جهادهم بعد ذلك بالإرهاب، أو توصف تضحياتهم بالعنف الذميم ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾ (الكهف: من الآية 5).
لقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بأنهم ﴿إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ (الشورى: من الآية39)، وأَذن لهم برد العدوان قائلاً عز من قائل : ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج:39-40).
إننا نتوق إلى اليوم الذي تستطيع فيه جموع شعوبنا المسلمة أن تشارك هؤلاء المجاهدين جهادهم، وتدعم تضحياتهم، كما نتوق إلى اليوم الذي تدرك فيه حكومات بلادنا قيمةَ ما لديها من نفوس أبيَّة، تعشق الشهادة في سبيل الله؛ ردًّا على عدوان الظالمين الذين لا يريدون خيرًا لحاكم ولا محكوم، ويسعَون لفرض الذلة والهوان على الجميع، وبثِّ الفتن فينا، وأن يكون بأسُنا بيننا شديدًا، على غير مراد الله تعالى الذي وصف جنده الصادقين وحزبه الغالبين بأنهم ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: من الآية54).
لقد آن الأوان أن يدرك أبناءُ هذه الأمة أن الجهاد فرض عين عليهم، بعدما غزيت بلادنا واستبيحت ديارنا، وأنه لا تضحيةَ أشرف ولا أعز من التضحية في سبيل الإسلام وحرية أهله، وسلامة حياضه والدفاع عن المستضعفين في الأرض، وأنه إن ضاق السبيل على مَن أراد ذلك فلا أقلَّ من دعم المجاهدين ومقاطعة منتجات المعتدين، وفضح مخططاتهم، وتنبيه الغافلين، مبينًا إلى خطورتها وخبثها، ودمويتها وعنفها، وأنهم ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ (التوبة:10).
وآن الأوان لحكامنا أن يُدرِكوا عظمة المدخور من قُوى التضحية والفداء في هذه الأمة، وأنه كفيلٌ برد عادية مَن أراد بها شرًّا، كما أنه كفيل بإنهاضها وعزِّها، وأن الإسلاميين في أوطاننا هم أبرزُ حماتها الذين يرَون حبَّها عبادةً، والبذل من أجلها فرضًا ماضيًا، ودينًا قيمًا، وهم القادرون على استنهاض الهمم للبذل في سبيل نهضة الأمة والدفاع عن أمنها القومي في ظل وحدةٍ تجمع كل مَن يستظل بحضارة الإسلام.
وآن الأوان في هذا الظرف العصيب أن تُنقَض عرى ذلك الفصام النكد بين الشعوب وحكامها، فليدرك الجميع أننا أصحابُ سفينة واحدةٍ إن خرقها واحدٌ منا غرقت بنا جميعًا، وإنَّ الشر الذي يستهدفنا لا يخص واحدًا ولا جماعة دون الآخرين، وأن أيَّ مذلةٍ تصيب شعبًا أو حاكمًا- أو تستهدفه- هي خصمٌ من كرامتنا، لا تقبله عزَّةُ مسلم يعلم أنه موقوف بين يدي ربه، ومسئول عما جنت يداه.