الحل الإبداعي للمشكلات

Greayive Problem Solving


تناول عدد من الباحثين في مجالِ التفكير موضوعَ الحل الإبداعي للمشكلات بكثير من التفصيل، ويتزايد الاهتمام بمنهجية الحل الإبداعي للمشكلات في المجالات التربوية عمومًا، وفي برامج تعليم الموهوبين أو المتفوقين على وجه الخصوص، وقد طوِّرت هذه المنهجية أساسًا لمساعدة قطاعات التجارة والصناعة في عمليات الإنتاج والتسويق.

ومن بين الروَّاد الأوائل الذين وضعوا أسس هذه المنهجية يحتل أوسبورن (Osborn, 1963)، الذي كان يعمل في قطاع الإعلام التِّجاري في مدينة نيويورك - مكانًا مرموقًا، وقد أنشأ مؤسسة التربية الإبداعية في جامعة ولاية نيويورك في بافلو Byffalo عام 1953؛ لتسهيل نشر أفكاره، وتشجيع الدراسات حول البرامج التربوية والتدريب والتعليم والإبداع، وكان لمساعده بارنس (Parnes, 1992) دورٌ كبير في تطوير اتجاه منهجي لرعاية السلوك الإبداعي.

أما الاهتمام بتعليم التفكير الإبداعي، فتعود بداياته إلى أعمال جيلفورد (Guilford, 1959)، وتايلر (Taylor, 1964)، وتورانس ومايرز (Torrance & Myers, 1970)، وغيرهم، وقد عبَّد هؤلاء الباحثون الطريقَ إلى تطوير البرامج التعليمية للإبداع والحل الإبداعي للمشكلات، التي تنتشر حاليًّا بصورة واسعة في المؤسسات التربوية وغيرها في الدول المتقدِّمة وبعض الدول المتطورة.

نموذج جيلفورد لحل المشكلات: قدم جيلفورد (Guilford, 1986) نموذجًا مبسَّطًا لحل المشكلات، على أساس نظريته في التكوين العقلي، وأطلق عليه "نموذج التكوين العقلي لحل المشكلات"Structure of In tellect Problem Solving Model".

وكما يبدو هذا النموذج في الشكل رقم (3 - 4) يلعب مخزونُ ذاكرة الفرد وحصيلتُه المعلوماتية أو مدركاته القابلة للتذكر دورًا حيويًّا في مختلف مراحل عملية حل المشكلة، كما أن هذا المخزون هو الذي يبقي على النشاطات الهادفة لإيجاد حل للمشكلة عن طريق عمليات الذاكرة.

واستنادًا للنموذج تبدأ الخطوة الأولى في حل المشكلة باستقبال النظام العصبي للفرد، أو نظام الاتصالات لديه لمثير خارجي من البيئة أو مثير داخلي من الجسم قد يكون على شكل انفعالات وعواطف، ثم تتعرَّض المثيرات الخارجية أو المدخلات لعملية تصفية Filtering في الجزء السفلي من الدماغ، عن طريق نسيج شبكي يعمل كبوَّابة تتحكَّم في عبور كل المثيرات القادمة إلى مراكز الدماغ العليا حيث الإدراك والمعرفة.

ويؤكِّد جيلفورد أهميةَ دور الذاكرة في عملية التصفية؛ حيث إن مخزون الذاكرة يتضمَّن بعض المفاهيم المسبقة والنزعات التي تسدُّ الطريق أمام وعي الفرد وإدراكه لبعض المثيرات أو المشكلات، ويعرف هذا النشاط الانتقائي بـ"الانتباه".

أما المثيرات المهيِّجة للنظام العصبي التي يسمح لها باختراق البوابة، فإنها تنبِّه الفرد لإدراك وجود مشكلة أولاً، وإدراك طبيعة المشكلة ثانيًا، وعندها يبدأ الفرد عمليةَ بحث في مخزونِه المعرفي لإيجاد الحل المناسب للمشكلة، وإذا لم يجد حلاًّ يلجأ إلى مصادرَ خارجيةٍ؛ بحثًا عن مساعدة أو معطيات وحقائق جديدة، وخلال هذه المرحلة تجري عملية تقييم مستمرة لمعظم المعلومات والأفكار التي تفرزُها عمليات الذاكرة، وفي بعض الأحيان يتوصَّل الفرد لحل المشكلة دون أن يُمارِس ما يُوصَف بأنه عمليات تفكير متشعبة، بمعنى أنه يتخطى مرحلة التفكير المتشعب وينتقل مباشرة إلى مرحلة التفكير المتقارب عندما يصل إلى الإجابة الصحيحة بمجرد إحساسه بالمشكلة وجاهزية ذاكرته للاستجابة.


ويشير جيلفورد إلى أن بعض المشكلات تستعصي على الحل؛ لأننا لم ندركها بصورة صحيحة، وقد نُصِرُّ على مواصلة المحاولة للوصول إلى حل للمشكلة الخطأ كما فهِمناها.

إن وضعًا كهذا يتطلَّب إعادة النظر في طبيعة المشكلة، وعودة إلى الخطوة الأولى بعد استقبال المشكلة، والبحث عن معلومات وحقائق جديدة في مصادرِنا الخارجية؛ من أجل إعادة بناء المشكلة، والبَدْء بجولة جديدة من نشاطات التفكير المتشعِّب التي تتضمن بدائل جديدة للحل لم تطرح في المرة الأولى، وقد يكون من بينها الحل الصحيح.


وكما يلاحظ في الشكل، فإن الأسهم للأسفل نحو مخزون الذاكرة تشير إلى أن جميع الخطوات التي نأخذها، والنشاطات التي نقوم بها خلال عملية حل المشكلة في كل مرحلة - ترتبطُ بالذاكرة، وقد تحفظ بعض هذه النشاطات فيها لفترة قصيرة على الأقل حتى نعود إليها عند الحاجة، وحتى لا نقع في الأخطاء نفسها مرة أخرى.

الشكل رقم 4 - 3


نموذج التكوين العقلي لحل المشكلات



الحل الإبداعي للمشكلات

ويعطي جيلفورد مثالاً لتوضيح نموذجه على النحو الآتي:


افترض أن محرَّك سيارتك قد توقف وأنت تقودُها على الطريق، لا شك أنك في ورطة! فماذا تفعل؟! قد تبدأ عملية تشخيص المشكلة بفحص احتمالية أن يكون وقود سيارتك قد نفذ، فإذا تأكَّدت من وجود الوقود، ربما تقوم بفحص نظام الكهرباء والأسلاك، فإذا وجدتها في حالة جيدة، فإنك ستبحث عن مساعدة فنية متخصصة، وهنا تبدأ مرحلة البحث عن حل للمشكلة، وقد تفكر في أحد المصادر الممكنة للمساعدة أثناء استعراضك لعدة احتمالات أو مصادر، وقد تتذكَّر أثناء بحثك في مخزونك المعرفي أن لديك عضوية في أحد نوادي خدمة السيارات، وما عليك إلا أن تُجرِي اتصالاً هاتفيًّا حتى يأتيَك ميكانيكي أو مختص من النادي، وقد تكون لديك اشتراكات في أكثر من شركة خدمة السائقين على الطرق، ولكنك تختار إحداها بعد عملية تقييم مستمرة أثناء استعراضك للبدائل.

ويرى جيلفورد أن نموذجَه لحل المشكلات يستوعب التفكير الإبداعي في مرحلة توليد الأفكار والبحث عن بدائل للحل في مخزون الذاكرة، كما أن لعملية التقييم في مختلف المراحل دورًا في التفكير الإبداعي الذي يتطلب تقليص البدائل من أجل الوصول إلى فكرة أصيلة أو حل جديد، غير أن مفهوم حل المشكلات أكثر اتساعًا وشمولاً من التفكير الإبداعي، مع أن كلاًّ منهما يُسهِم في الوصول إلى نهاية ناجحة عن طريقة حل المشكلة؛ إذ ليس ممكنًا الوصول إلى حلول للمشكلات دون خطوات أو نشاطات تفكيرية إبداعية بشكل أو بآخر.

وقد تبرز مشكلات خلال العملية الإبداعية تزيد الحاجة إلى ممارسة نشاطات حلِّ المشكلة، ويخلص جيلفورد إلى الاستنتاج بأن حلَّ المشكلات قد يشتملُ على جميع أنواع عمليات التكوين العقلي، بينما يقتصر التفكير الإبداعي على بعضها، وأن كلاًّ من حل المشكلات والتفكير الإبداعي قد يتضمن أيًّا من المحتويات المعلوماتية للتكوين العقلي.