جيفري آرشر، الروائي الإنجليزي والنائب البرلماني الأسبق، له رواية مشهورة تتحدث عن مسؤول أفريقي يدخل إلى أحد المصارف الخاصة في سويسرا ويطلب من مدير البنك الإفصاح عن بيانات أحد العملاء عنده فيقول له: «هذا ضد القانون عندنا». ثم يعيد عليه السؤال بصيغة فيها الوعيد والتهديد فيعود مدير البنك ليؤكد عليه أن «هذا الأمر ضد القانون»، فيعاود الرجل الأفريقي السؤال ولكن هذه المرة يشهر مسدسه ويصوبه نحو رأسه وهو يهدد بلغة لا تقبل الشك بأن يعطيه البيانات التي طلبها فورا، فيجيب عليه مدير البنك بلغة ثابتة: «ولكن هذا ضد القانون ولا أستطيع القيام بذلك». وهنا ابتسم المسؤول الأفريقي وأنزل مسدسه وقال: «إذن الآن أستطيع أن أطمئن وأن أفتح حسابي الخاص بفرعكم هذا».
سويسرا تفتخر بأن لديها نظاما مصرفيا مستقلا وقويا وله من الأنظمة والقوانين والتشريعات والسياسات التي تحمي هذا القطاع أكثر من أي دولة أخرى حول العالم، وهي التي أسست ثقافة «الحساب المصرفي السري»، وبات هذا الأمر أحد أهم روافد مداخيل الاقتصاد السويسري بشكل عام. وقد استفاد القطاع المصرفي من كل كوارث العالم ونكباته، فكل نظام ديكتاتوري كان يجد فيه الملاذ الآمن والمناسب لثرواته، وكل منظومة فساد كانت تهرب بعوائدها إليه، وكل الأفعال المشبوهة والمغسولة كانت دوما تجد في ذلك المكان المناسب للبقاء بعيدا عن الأعين والمراقبة.
حتى الكوارث السياسية والحروب العالمية والمذابح والثورات العارمة كان المستفيد الأعظم منها القطاع المصرفي السويسري «السري»، فإلى اليوم لا تزال المنظمات اليهودية تلاحق الحساب السرية المزعومة لقيادات نازية وتحاول الحصول عليها كتعويضات لليهود الذين قضوا في المحرقة، وحسابات سرية أخرى فقدت لبعض اليهود أنفسهم يحاول أهاليهم الحصول على أجزاء منها بعد أكثر من ستين سنة أو يزيد من الوقائع وظهور جيل ثالث يطالب وتتغير الإدارة تلو الأخرى في المصارف، وصرف الأهالي أرتالا من الأموال لمحامين «سويسريين» أيضا دون نتيجة حتى الآن. وهذا الأمر يذكرني بالمطالب العاطفية التي تلت أحداث الربيع العربي حينما كانت بعض الأصوات تظهر في الإعلام لتدغدغ مشاعر الشعوب وهي تعد وتؤكد وتجزم بأنها ستستعيد الأموال المنهوبة من الأنظمة التي أسقطت وأودعت في بنوك سويسرا، وطبعا تبين أن كل هذا الكلام ما هو إلا هباء وتصريحات لا تساوي الحبر والورق الذي كتبت عليه. ولكن شيئا ما يحدث.. هناك ضغوط هائلة بدأت تتزايد من قبل المشرعين الأميركيين بحق الإدارة السويسرية ومصارفها، فالكونغرس الأميركي يعد المنظومة المالية للمصرفية السرية في سويسرا هي الحلقة الأضعف في الحرب العالمية على غسل الأموال والمال الفاسد، وسويسرا تزيد على ذلك الادعاء بالقول إنها حرة ومستقلة ولا تخضع للضغوط وإن نظامها يحمي المستثمر والمودع ولا تتدخل في شأن هوية ماله ومصادره حماية لخصوصيته، وتطورت المطالب الأميركية بحق السويسريين بعد سلسلة جرائم كبار التنفيذيين في المصارف والشركات المالية الكبرى في الـ«وول ستريت» وبورصات المال، وهو ما يطلق عليه جرائم الياقات البيضاء، وزادت الضغوط تطالب بالإفصاح عن أسماء وأرصدة وتفاصيل حسابات «أي مودع»، وهو ما يتضارب تماما مع أساس فكرة الصيرفة «السرية». وبدأت سويسرا تخسر بعض حساباتها الكثيرة لصالح دول أصغر مثل لينشتاين ولوكسمبورغ وغيرهما.
طبعا زادت الضغوط مجددا على سويسرا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) لنفس الحجج والدواعي والأسباب، وها هي اليوم تعود مجددا بحجة أن أحد البنوك السويسرية كان «يحمي» مليارات الدولارات لصالح مواطنين أميركان بدلا من دفعها للضرائب، والكونغرس اليوم يتوعد بالانتقام لأن أخطر إدارة في أميركا ليست وكالة الاستخبارات المركزية ولا البنك المركزي ولا مكتب التحقيقات الفيدرالي، بل ولا حتى البيت الأبيض، ولكنها إدارة الضرائب التي لم يستطع أي رئيس تغييرها أبدا. يبدو أن سويسرا ستدفع الثمن من غضبة دائرة الضرائب الأميركية وأول هذه النتائج قد تكون اندماجا غير مسبوق لأكبر مصرفين في سويسرا لحماية القطاع من الانهيار.
كتب : حسين شبكشي نقلا عن جريدة الشرق الأوسط