لقد أنتجت الثورة المعرفية آثاراً هائلة في فكر ومنطق إدارة الموارد البشرية يمكن رصدها في التالي:
- اكتشاف أهمية مصادر المعرفة الداخلية المتمثلة في الأفراد ذوي الاختصاصات والقدرات التي يوظفونها في أنواع متميزة من الأنشطة تمثل واحداً من أهم مصادر إنتاج الثروة في المنظمة المعاصرة وتشمل تلك المصادر كل من يعملون أعمالاً ذهنية في المنظمة من الباحثين في مجالات بحوث التسويق وبحوث تطوير المنتجات، والمخططين المختصين في إعداد الخطط والبرامج، والموازنات، ومنتجي الأفكار من رجال التسويق، والعلاقات العامة وخبراء الإعلان والترويج وتنمية المبيعات، ومصممي المنتجات، والعاملين في الموارد البشرية مثل المدربين وخبراء العلاقات الإنسانية، ثم مجموعات العاملين في المجالات الجديدة من محللي المعلومات ومبرمجي الحاسبات الآلية وأخصائي الشئون الدولية العاملين في رسم برامج العولمة للمنظمات وغيرهم ممن يباشرون ما يسمى بالأنشطة المعرفية بشكل أو آخر، وقد أصبح هؤلاء يمثلون نسبة متزايدة في سلسلة القيمة لأي منظمة.- اكتشاف أهمية المصادر الخارجية للمعرفة التي يمكن للإدارة الاستفادة من رصيد الفكر والمعرفة المتاح لها في حسن تفهم الظروف المحيطة والكشف عن سبل تطويرها وابتكار الأفضل من الأدوات والآليات لاستثمار الفرص المتاحة أو لإنشاء الفرص التي تتفق ومصالح الإدارة. وتضم تلك المصادر العملاء، والموردين، والموزعين وطوائف عديدة من المتصلين بشئون المنظمة وعملياتها بشكل مباشر أو غير مباشر وحتى المنافسين. هؤلاء جميعاً يمتلكون \"معرفة\" أي أفكار، مفاهيم، تجارب، قيم معتقدات، وتقنيات لا تتوفر للمنظمة، ولا يتحقق لها الحصول عليها بجهودها الذاتية وإلا استغرقت مئات السنين. ويعتبر الحصول على تلك المعرفة إضافة إلى الرصيد المعرفي للإدارة تستخدمه في تطوير قدراتها للوصول إلى أهدافها. ومن ثم بدأت إدارة الموارد البشرية في تطوير أساليبها في الاستقطاب والاختيار بحيث تحصل على الأفراد الأكثر معرفة من ناحية، وكذا تعمل على تطوير وسائل انفتاح أفراد المنظمة على مصادر المعرفة الخارجية من خلال المشاركة الجادة والمخططة في الفعاليات ذات العلاقة كالمؤتمرات والندوات وورش العمل، وملاحقة المعارض والمناسبات المحلية والدولية التي تطرح فيها المبتكرات، وتتراكم من خلالها معلومات متجددة.- إدراك حقيقة هامة، وهي أن المعرفة في تطور، وأن لكل عصر معارفه، ومن ثم فإن ما يتحقق للإدارة من معرفة ينبغي أن ينعكس على المنظمة فيعيد تشكيلها وترتيب أوضاعها لتتناسب مع معطيات العصر، وبالتالي تصل الإدارة إلى اكتشاف حقيقة أهم وهي ظاهرة التعلم التنظيمي، بمعنى أن المعرفة الناتجة من تفاعل المنظمة مع المناخ المحيط، ونتائج التعامل مع الأسواق والعملاء والمنافسين، والآثار المترتبة على قرارات الإدارة والخبرات المكتسبة لأفرادها نتيجة احتكاكهم بظروف ومتغيرات متعددة، كل تلك المعرفة لا تهدر أو تنحى جانباً، بل تجمع وتحلل وتستخرج منها الدروس والدلائل والمؤشرات، ويتم توظيفها في تطوير الهياكل والأفكار والأساليب والأنشطة والمعاملات وكل ما يجري في المنظمة وما ينتج عنها، بحيث تصبح المنظمة شأنها شأن الكائن الحي الذي يتعلم من تجاربه ويكتسب مفاهيم ومدركات وخبرات ودوافع متجددة تسهم في تطوير سلوكه وتجديده وبذلك يصبح الدور الأهم للإدارة هو ضرورة توظيف المعرفة المكتسبة في تطوير المنظمة. من جانب آخر، كان لهذا الاكتشاف تأثيره في أساليب تنمية وتطوير الموارد البشرية من خلال تخطيط التدريب والتنمية على فترات ومراحل يقصد بها أن تستمر طوال الحياة الوظيفية للفرد، وتكون بذلك وسيلة لتجديد المعرفة التي يتمتع بها الفرد، وضمان عدم تجمده في مستوى معرفي لا يواكب حركة التطور والتحديث.- اكتشاف طبيعة المعرفة المتميزة التي تفرقها عن باقي الموارد الأخرى التي يتاح للإدارة التعامل فيها، ذلك أن المعرفة خلافاً لغيرها من الموارد لا تنقص بالاستخدام ولا تهلك بالتداول، بل على العكس فإن المعرفة تنمو وتتطور كلما زاد انتشارها وتداولها بين الناس. ومن هذه الفكرة تكتسب إدارة الموارد البشرية بعداً جديداً يركز على أهمية فتح قنوات الاتصال وتيسير تدفقات المعلومات والمعرفة بين قطاعات وجماعات العمل المختلفة لتحقيق الفائدة الأعلى الناشئة من هذا النمو المتصاعد للمعرفة نتيجة التداول والتعامل فيها.- إدراك حقيقة أن الجانب الأكبر من أنشطة أي منظمة الواقعة على سلسلة القيمة إنما هو في الأساس \"أنشطة خدمية أساسها وركيزتها المعرفة. ومثل هذه الأنشطة الخدمية المعرفية هي أساس تكوين القدرات المحورية أو الأساسية للمنظمة ولاتي بدورها هي ركيزة تكوين الميزة التنافسية لها، وحيث أن هذه الأنشطة المعرفية يمكن لأي منظمة إما مباشرتها من خلال تكوين المورد البشري المؤهل لذلك والاحتفاظ به داخل المنظمة، أو الحصول على تلك الخدمات المعرفية من منظمات أخرى متخصصة، فقد تكونت مجموعة من المفاهيم المهمة في فكر إدارة الموارد البشرية المعاصرة تتمثل فيما يلي:1- من المفيد للمنظمة أن تركز مواردها البشرية الداخلية لأداء وتنمية عدد قليل من الأنشطة المعرفية ومصادر القوة الخدمية التي تنجح من خلالها في خلق تميز واضح ومستمر لدى عملائها [مثلاً قواعد بيانات متميزة، خبرات فنية أو تنظيمية غير مسبوقة...]، أما بالنسبة لباقي الأنشطة اللازمة فهي تسعى للحصول عليها من جهات خارجية متخصصة تتمتع بتفوق وتميز في تلك المجالات. وقد بينت كثير من الدراسات فاعلية وجدوى الإسناد للغير طالما أن المنظمة لا تملك القدرات التي توفر لها التمييز، وفي هذا الصدد تحاول المنظمة البحث عن ذلك المصدر الخارجي الذي يوفر لها هذه الميزة بتوريد أو تنفيذ تلك الأنشطة الجانبية حتى تتفرغ المنظمة في إنتاج الخدمات المعرفية التي تتميز هي فيها. وفي بعض الأحيان قد تلجأ المنظمة إلى احتواء ذلك المصدر الخارجي المتميز بالشراء ضماناً لاستمرار حصولها على تلك الخدمات مثلما فعلت جنرال موتورز بشراء شركة كانت تمدها بخبرات تقنية مهمة هي Electronic Data systems.2- أن ما تقدمه أي منظمة من منتجات ليس هو في ذاته مصدر تكوين الميزة التنافسية، ولكن المصدر الأهم للميزة التنافسية هو الخبرات أو التقنيات أو \"المعرفة\" التي تتوفر للمنظمة ويصعب على المنافسين تكرارها. وبذلك تتجلى قيمة المورد البشري المتميز من أصحاب المعرفة وهم مصدر تلك الميزات أساس تفعيلها.

ونتيجة للاكتشافات السابقة، فقد نشأت حالة فكرية جديدة تسود نظرة إدارة الموارد البشرية إلى مهامها وأساليبها تتمثل فيما يلي:
- أن وظيفة إدارة الموارد البشرية هي في الأساس \"التعامل بالمعرفة\" بمعنى أن عليها توظيف وإدماج المعرفة في عملياتها بحيث تنعكس على تصميم الأعمال وتقنيات الأداء التي يكلف بها الموارد البشرية، وكذا تضمين المعرفة واستثمارها في كافة عمليات إدارة وتنمية الموارد البشرية. وبذلك يتحقق التميز في عمليات المنظمة ويتأكد لها المركز التنافسي المتميز.- أن مهمة إدارة الموارد البشرية ليست فقط معالجة المعرفة- كما كان الشأن في نظم المعلومات، بل الأهم هو تخليق المعرفة بإدماج مصادر المعرفة الكاملة والمعلنة في نسيج متكامل ومتميز. وتلعب إدارة الموارد البشرية دوراً محورياً في هذه العملية من خلال تصميم نظم مشاركة الأفراد واستقطاب تعاونهم وانفتاحهم على أمور المنظمة ومشكلاتها، وحفزهم على المشاركة الجادة والفاعلة وإبداء الآراء والمقترحات. وبذلك فإن مهمة إدارة الموارد البشرية الأساسية ليست ضبط السلوك البشري والسيطرة على علاقات الأفراد، بل في الحقيقة العمل على تنشيط وحفز تبادل المعلومات والمعرفة بينهم، ومن ثم إطلاق المعرفة الكامنة ودعم عملية تخليق ونشر وتدفق المعرفة في أرجاء المنظمة لتكوين \"القدرات المحورية\" ومن ثم تثبيت ميزتها التنافسية.- أن اهتمام إدارة الموارد البشرية بالمناخ الخارجي يتجاوز الفكر الاستراتيجي التقليدي الداعي إلى رصد المتغيرات في المناخ لاكتشاف الفرص والمعوقات ومن ثم الإعداد لها، إلى مستوى أعمق من الفهم لدلالة المناخ الخارجي باعتباره مصدراً للمعرفة المتجددة المنبعثة من عناصره المختلفة والتي تمثل منبعاً لتجديد معرفة الموارد البشرية بالمنظمة وتطوير الرصيد المعرفي بها. كما أن المناخ الخارجي يحتوي مجموعة كبيرة من المنظمات الأكثر تميزاً في أنواع الأنشطة الخدمية ذات الركيزة المعرفية، ومن ثم يمكن للمنظمة أن تحصل منها على الأنشطة التي لا تتوفر لها فيها مقومات التميز حتى تتفرغ للتركيز على الأنشطة التي تتمتع فيها بميزات كبرى.- أن تهيئة المناخ المناسب لعملية تخليق المعرفة التنظيمية تتطلب بالضرورة التحول عن أشكال من الممارسات الإدارية المعتادة واستبدالها بممارسات أخرى أكثر توافقاً مع معطيات عصر المعرفة من نحو:1. التحول من الهيكل التنظيمي هرمي الشكل متعدد المستويات إلى الهياكل التنظيمية الأكثر تفلطحاً والأبعد عن الشكل الهرمي، بل وحتى الانتقال إلى الهيكل الهرمي المعكوس.2. التحول من النظم المركزية التي تعتمد على احتكار المعرفة وتركزها في مستوى تنظيمي واحد، إلى النظم اللامركزية التي تستند على انتشار وتدفق معرفي يسود مناطق المنظمة كلها ويشارك الجميع في تخليقها. ومن هنا كان تحول بعض إدارات الموارد البشرية في المنظمات المتقدمة إلى نظم الخدمة الذاتية التي يباشر فيها الموظفون إنهاء معاملاتهم مع إدارة شئون الموارد البشرية من خلال شبكة الإنترنت أو الإنترنت.3. التحول من أنماط التنظيم القائمة على العمل الفردي المنعزل أو المتتابع إلى نمط العمل الجماعي في فرق ذاتية الإدارة، ونتيجة لهذه التحولات يمكن الاطمئنان إلى ترسيخ منهج إداري جديد هو الأداء من خلال فرق العمل ذاتية الإدارة.

والخلاصة أن الفكر الإداري الحديث احتوى مفاهيم وتوجهات مهمة كان لها تأثيرها في تحوير إدارة الموارد البشرية لتصبح في الحقيقة \"إدارة رأس المال البشري\" وهو الثروة الأهم في المنظمات المعاصرة.