هناك مثل شهير يقول: (أصابع اليد الواحدة لا تشبه بعضها البعض)، وكذلك فكل واحد من البشر له من المبادئ والقيم ما يختلف عن الشخص الآخر، وبالتالي إدراكه للأمور وطريقة نظره إليها تختلف اختلافًا كبيرًا عن الشخص الآخر.
مبدأ بدهي:
إن هذا المبدأ يستمد هذه القوة في التأثير، وهذه الأهمية من شدة بديهيته، فأول شيء بديهي يخطر ببالك إذا أردت أن تتعامل مع أي شخص في العالم؛ أن تتعامل معه بلغته، فإذا قابلت شخصًا إنجليزيًّا لا يعرف إلا اللغة الإنجليزية؛ ستتعامل معه باللغة الإنجليزية، ولو حدثته بكل مفردات اللغة العربية ما فهمها، ولو صغت له كلمات بليغة ما تذوقها، فكيف تتعامل مع الآخرين بوجهة نظرك؟
حتى مع الأطفال الصغار الذين لا يعرفون اللغات بعد؛ ستجد نفسك تتعامل معهم باللغة التي يفهمونها، وستفاجأ بأنك تفعل أمامهم الكثير من الحركات الطفولية، والأصوات البهلوانية؛ حتى يفهموك ويضحكوا منك.
النبي صلى الله عليه وسلم يقر هذا المبدأ:
والمتتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يبصر مدى فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التام لكل شخصية من شخصيات صحابته، وكيف كان يختار النصح المناسب لكل شخصية على أساس فهمه صلى الله عليه وسلم له.
ولذا جاءت أحاديث كثيرة في السنة، والسؤال ذو صيغة واحدة: (يا رسول الله أوصني)، فالسؤال واحد، وموجه لنفس الشخص، للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الإجابة مختلفة باختلاف شخصية كل صحابي، وفهم النبي صلى الله عليه وسلم العميق لخبايا تلك الشخصيات ودقائقها.
فلما جاءه رجل يريد سفرًا، فقال: (يا رسول الله أوصني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوصيك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف) [رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني].
بينما أراد معاذ بن جبل رضي الله عنه سفرًا، فقال: (يا رسول الله، أوصني)، فقال صلى الله عليه وسلم: (اعبد الله ولا تشرك به شيئًا)، قال: (يا رسول الله زدني)، قال: (إذا أسأت فأحسن)، قال: (يا رسول الله زدني)، قال: (استقم ولتحسن خلقك) [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
وجواب مخلتف يصوغه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في حديث أسود بن أصرم المحاربي،لما قال أسود رضي الله عنه(يا رسول الله أوصني)، قال: (هل تملك لسانك؟)، قال: (فما أملك إذا لم أملكه)، قال: (أفتملك يدك؟)، قال: (فما أملك إذا لم أملك يدي)، قال: (فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير) [رواه الطبراني وصححه الألباني].
ويأتي الدور على الصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه فيقول: (يا رسول الله، أوصني)، فيقول صلى الله عليه وسلم: (اتق الله، إذا عملت سيئة؛ فأتبعها حسنة تمحها)، قال: قلت: (يا رسول الله، أمن الحسنات لا إله إلا الله؟)، قال: (هي أفضل الحسنات) [رواه أحمد وصححه الألباني].
بينما كان رده صلى الله عليه وسلم على طلب أبي هريرة رضي الله عنه للوصية بقوله: (لا تغضب) [رواه البخاري]، ولما سأله جرموز الهجيمي رضي الله عنه فقال: قلت: (يا رسول الله، أوصني)، قال خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم: (أوصيك أن لا تكون لعانا) [رواه أحمد وصححه الألباني].
ما زال البحث مستمرًا:
فكل سلوك يفعله الإنسان؛ وراءه قيم ومبادئ ودوافع، وراءه رسالة في الحياة، ولذا ابحث دائمًا عن هذه القيم، وابذل الجهد في التعرف على رسالته في الحياة، ولا تقف على الأفعال والتصرفات، فكما يقول الدكتور إبراهيم الفقي: (وراء كل سلوك توجد رسالة، ووراء كل رسالة توجد نية إيجابية).
مثال توضيحي:
فإن ضربك والدك يومًا ما، فقد ترى للوهلة الأولى أن ذاك التصرف سلبيًا بالنسبة لك، ولكن حقيقة التصرف وراءه نية إيجابية؛ ألا وهي أن يربيك على الاستقامة، ويعلمك الصواب من الخطأ.
ولنرجع مرة أخرى لمثال والدك الذي ضربك، فوراء هذا السلوك توجد رسالة له في الحياة؛ ألا وهي إرضاء الله تعالى، وتربية أبنائه تربية دينية وخلقية صحيحة، وبالتالي لما رآك أخطأت ضربك؛ لأن رسالته في الحياة أن يربيك تربية صحيحة، فأدت هذه الرسالة إلى نية إيجابية حسنة في ضربك، ألا وهي تربيتك وتعليمك الصواب، فنشأ التصرف الذي رأيته.
طبلة القلب:
ربما تعجب من العنوان السابق وتقول: أنا أعرف طبلة الأذن، ولكنني لا أعرف ما هي طبلة القلب، وهنا يأتي دور نوع مختلف من الاستماع إلى الآخرين والإنصات إليهم؛ من أجل فهمهم فهمًا عميقًا، ونعني بهذا النوع ما يعرف بالاستماع التعاطفي، ذلك الاستماع الذي يقع في خمس درجات هامة:
الدرجة الأولى: أننا نتجاهل الشخص الآخر، فلا نستمع إليه أبدًا في الحقيقة.
الدرجة الثانية: نتظاهر بالاستماع (حقًا! إنك على حق)، ولسنا مع الشخص أساسًا.
الدرجة الثالثة: الاستماع الانتقائي، نستمع فقط إلى أجزاء معينة من المحادثة.
الدرجة الرابعة: الإنصات اليقظ، الذي ننتبه فيه، ونركز طاقتنا على الكلمات التي يتم التلفظ بها.
أما الدرجة الخامسة: فهي درجة أعلى من درجة الإنصات الفعال، ألا وهي درجة الاستماع التعاطفي، وهي أعلى درجات الاستماع.
إذًا فالاستماع التعاطفي باختصار: هو أنك تسمع وتشعر بالشخص الآخر، تستمع إليه وتتعاطف معه.
وختامًا:
فإن الاستماع التعاطفي هو السبيل الأمثل لفهم وجهة نظر الآخرين والتعامل مع الأمور من منظورهم وليس منظورنا، ولكن ما هي فوائد الاستماع التعاطفي؟ وكيف يمكن تطبيقه في الحياة، هذا ما سنتعرف عليه في المقال القادم إن شاء الله.