يوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن كل فرد مسؤول عن مصلحة مجتمعه، وعليه حفظه ورعايته، فيقول صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قوم استهموا على سفينة؛ فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء؛ مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا) [رواه البخاري].
الجائزة الكبرى:
ولم يكتفِ الإسلام بذلك، بل جعل أعظم الثواب لمن يقوم بخدمة الآخرين، والسعي في مصالحهم، قال صلى الله عليه وسلم:
(أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم؛ تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة؛ أحب إلي من أن أعتكف في المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ شهرًا) [رواه الطبراني، وحسنه الألباني].
فتأمل كيف يجعل الإسلامُ الأحرصَ على نفع الناس؛ الأقرب إلى الله والأحب إليه، بل انظر إلى عظم ثواب قضاء حوائج الآخرين؛ فساعة واحدة في قضاء حوائج الناس خير من اعتكاف شهر في المسجد، وهذه والله هي الجائزة الكبرى في الدنيا وفي الآخرة.
الرصيد الحقيقي:
يظن كثير من الناس أن الرصيد الحقيقي هو رصيد المال والجواهر والتجارة، وما ذلك بالصحيح، إنما الرصيد الحقيقي هو ذاك الرصيد الذي يبقى للإنسان في يوم يكون فيه أحوج إلى الحسنة الواحدة، ذاك الأجر الذي يزف لك النبي صلى الله عليه وسلم البشرى به في قوله:
(من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر؛ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا؛ ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) [رواه مسلم].
وهكذا يخرج الإسلام للإنسانية شخصية متزنة، تراعي مصلحتها ومصلحة الآخرين، وتحرص على تحقيق المنفعة للذات وللغير.
فلنبنِ حياتنا على هذا المبدأ (المنفعة للجميع)، وليكن أساس تعاملنا مع أي فرد هو: أن أنتفع وأنفعه، أو كما يعبر عنه الغربيون: أفوز أنا وأنت.
نجوم مضيئة:
والمتطلع لسير الأنبياء والصالحين؛ يلاحظ كيف كانت علاقاتهم وتعاملاتهم مبنية على أساس المنفعة للجميع، فكانوا نجومًا في سماء المنفعة للجميع، فدعنا نقبس لك منها طرفًا:
1. حوار شعاره المنفعة للجميع:
انظر مثلًا إلى هذا الحوار بين شعيب وموسى عليهما السلام، يقول تعالى في كتابه على لسان شعيب: { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [القصص: ٢٧].
فهنا يعرض شعيب عليه السلام على سيدنا موسى عليه السلام منفعة، وهي أن يزوجه ابنته؛ على أن يبادله موسى منفعة أخرى، ألا وهي أن يرعى له غنمه ثماني سنوات، فإن تبرع بسنتين فمن عند موسى، ثم يذكر له أنه ليس الهدف أن يشق عليه.
فيرد موسى عليه السلام بالموافقة على هذا الاتفاق، بل وانظر إلى عظم أخلاق موسى عليه السلام، ونبل خلاله، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سألت جبريل عليه السلام: أيُّ الأجلين قضى موسى عليه السلام؟ قال: أبرهما وأوفاهما) [رواه الطبراني، وصححه الألباني].
2. الأنصار يرفعون لواء المنفعة للجميع:
وتأمل في موقف الأنصار، حينما أتوا للنبي صلى الله عليه وسلم، يريدون أن يقسموا نخلهم بينهم وبين إخوانهم من المهاجرين، لمساعدتهم على العمل والكسب؛ لتستقر حياتهم في المدينة، وفي هذا منفعة للجميع.
وعندما أتوا للنبي صلى الله عليه وسلم اقترح عليهم اقتراحًا آخر لتعظم المنفعة، فقال: (هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر)، أي أن المهاجرين لا يعرفون الزراعة، فاقترح النبي صلى الله عليه وسلم أن يستمر الأنصار في عملهم، ثم يقسموا الثمر بعد ذلك بينهم وبين المهاجرين.
3. حتى مع الأعداء:
وإذا قرأت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستجده يطبق مبدأ المنفعة للجميع حتى مع أعدائه، وفي قصة سراقة بن مالك حين طارد رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته، فعثرت دابة سراقة أكثر من مرة، فطلب الأمان، وعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاد والمتاع، فلم يأخذ منه شيئًا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (أخفِ عنا)، وفي المقابل كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لسراقة عهدًا بسواري كسرى [رواه البخاري].
فهذه صورة بسيطة لعقد اتفاقية على أساس المنفعة للجميع، بين النبي صلى الله عليه وسلم وسراقة بن مالك، الذي كان مشركًا آنذاك، وقد أسلم سراقة بعد ذلك، وحسن إسلامه، وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفتح بلاد فارس، ويؤتى بسواري كسرى، فتعطى لسراقة بن مالك وفاءً بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل حتى مع اليهود، يتعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم على أساس المنفعة للجميع، فحينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، عقد مع اليهود معاهدة على أن يدافعوا مع المسلمين عن المدينة، وأن يحافظوا على أمانها واستقرارها، ولهم حريتهم الدينية الكاملة ولهم الأمان الكامل.
الفطرة تشهد:
حتى الحيوانات بفطرتها التي فطرها الله عليها تقوم بتطبيق مبدأ المنفعة للجميع في كثير من مواقف حياتها، وإليك بعضًا من تلك المواقف التي تؤيد ذلك ومنها:
1. التمساح والعصفور:
هل رأيت هذا المشهد العجيب من قبل؟! إنه مشهد تمساح ضخم شرس يفتح فاه الملئ بالأنياب والضروس القاتلة؛ يفتحه لعصفور صغير ليدخل فينظف فاه، ويلتقط منه بقايا الطعام المتعلقة بأسنانه، ثم يخرج بعد ذلك في أمان وسلام.
ولكن لماذا لا يغلق التمساح فاه على العصفور ليأكله؟ ولماذا لا يخاف العصفور من غدر التمساح؟ والإجابة بسيطة، إنها المنفعة للجميع في أسمى صورها.
2. سمكة القرش على درب التماسيح:
ونفس المشهد تراه مع سمكة القرش، حيث تفتح فمها للأسماك الصغيرة؛ لتدخل فتنظفه، وتتغذى على ما تنظفه من بين أسنان سمكة القرش، ثم تخرج بعد ذلك في أمان وضمان تام، في ظل إتفاقية المنفعة للجميع.
التصورات الخمس:
ولكي نتيقن من أن تصور المنفعة للجميع هو التصور الأنفع في علاقاتنا مع الآخرين، فلابد أن نقارن بين تصورات التفاعل الإنساني مع الآخرين، وهي التصورات المحتملة لتعامل البشر مع بعضهم البعض، وهي كما يلي:
1. أفوز أنا وتخسر أنت.
2. أخسر أنا وتفوز أنت.
3. أخسر أنا وتخسر أنت.
4. أفوز أنا فقط.
5. نفوز جميعًا.