(إذا كنت قد استطعت رؤية ما هو أبعد من أن يراه الآخرون؛ فذلك لأنني وقفت على أكتاف عمالقة سبقوني)
إسحاق نيوتين
تحدثنا في المقال السابق تحت عنوان "سفينة واحدة" عن الجماعية وأهمية التعاون، وتوصلنا إلى خمسة تصورات للتعامل مع الآخرين، وحتى نتيقن من أن تصور المنفعة للجميع "أو أفوز أنا وتفوز أنت" هو التصور الأنفع في علاقاتنا مع الآخرين،دعنا نقارن بين تصورات التفاعل الإنساني مع الآخرين، وهي التصورات المحتملة لتعامل البشر مع بعضهم البعض، وهي كما يلي:
1. أفوز أنا وتخسر أنت:
أو بمعنى آخر تفكير المنفعة للذات، والضرر للآخرين، والشخص الذي يفكر بهذه الطريقة يغلب عليه الطابع الأناني، فهو يريد أن يحقق المصلحة لنفسه على حساب، ويعتقد أن الحياة قائمة على الصراع، وبالتالي إذا أراد الحصول على حقه في هذه الحياة؛ فإن ذلك يوجب أن يتنازل آخرون عن حقوقهم.
وعلامة المتبني لهذا التصور أنه يُسَر بنجاحه الشخصي، وفي الوقت ذاته لا يسر، بل يحزن لنجاح الآخرين، وعلى العكس تصيبه سعادة داخلية خفية إذا سمع برسوب أو فشل أحد زملائه أو منافسيه.
2. أخسر أنا وتفوز أنت:
في أثناء تفاعلاتك اليومية ستجد أشخاصًا ليس لهم شخصية أساسًا، ولا يملكون قرارهم، بل قرارات حياتهم بيد غيرهم، ولا يعبرون عن آرائهم ولا وجهة نظرهم، بل الرأي ما رآه الآخرون، والسير إلى ما أشار إليه الآخرون، فهم يرمون بأنفسهم حيث أشار الآخرون.
وعلامة أصحاب هذا الفكر؛ أنك حين تتعامل مع أحدهم تشعر أنه ليس له شخصية من الأساس، وتجده يوافقك في كل ما تقول، ولا يختلف معك في أي حرف، ولا يقترح عليك أي فكرة، فهو مستسلم تمامًا لكل ما تقوله له.
3. أخسر أنا وتخسر أنت:
بعض الناس يسيطر عليهم حب الانتقام، والثأر من الآخرين، وإلحاق الأذى بهم وبأي ثمن، حتى ولو كان ذلك يعني أنه سيؤذي نفسه، ولسان حاله يقول (الهلاك للجميع)، إنها فلسفة الحرب، فلسفة عدم التفاهم ورفض الحوار.
هذه حالة طلاق عند الغرب، فرض فيها القاضي على الزوج أن يبيع كل ممتلكاته، ويحول نصف العائدات إلى حساب زوجته السابقة.
ولأنه يريد إلحاق الضرر بزوجته بأي طريقة، حتى ولو كان ذلك يعني أن يؤذي نفسه أيضًا؛ باع سيارة قيمتها أكثر من عشرة آلاف دولار بخمسين دولارًا، حتى يعطى زوجته السابقة 25 دولارًا فقط، وعندما احتجت الزوجة؛ فحص كاتب المحكمة الأمر، واكتشف أن الزوج كان يسير على نفس الطريقة في جميع الممتلكات.
ولا شك أن هذا النوع من التفكير هو أخطر أنواع التفكير على الإطلاق، وفيه هلاك الحياة البشرية، ومن المستحيل أن تقوم أي حضارة أو نهضة في أمة من الأمم إذا سيطر على أفرادها هذا النوع من التفكير.
وعلامة أصحاب هذا الفكر؛ أنك ترى أحدهم يجعل جل تركيزه على العدو؛ ويصبح في حالة غيبوبة عن كل شيء، فيما عدا رغبته أن يخسر الشخص الآخر، حتى ولو كان ذلك يعني خسران نفسه.
4. أفوز أنا فقط:
ومثل هذا النوع يبحث عن مصلحته فقط، ولا يهتم بمصلحة غيره، وتجد مثل هذا الشخص سلبيًا جدًا في أي شيء يحدث للآخرين، طالما أنه لم يصبه سوء، وأمثال هؤلاء لا يحملون همَّ أمتهم ولا همَّ إخوانهم وأصدقائهم، بل كل همه مصلحته الشخصية، وأهدافه الشخصية.
وهؤلاء تأثيرهم في الحياة ضعيف؛ نظرًا لانكفائهم على مصلحتهم الذاتية فقط، وعدم اهتمامهم بمصلحة المجموع.
5. نفوز جميعًا:
وهؤلاء هم الرجال، الذين يسيطر على فكرهم تحقيق المصلحة لأنفسهم وللآخرين في نفس الوقت، تجد أحدهم يراعي احتياجاته ومصالحه، وفي نفس الوقت يراعي احتياجات ومشاعر الآخرين.
وحينما يتخذون قراراتهم فيما بينهم؛ يتخذونها على أساس تحقيق المنفعة للجميع، وأن ننتفع بهذا القرار، وننفع الناس، وننفع الأمة به.
سؤال منطقي:
وإليك سؤال منطقي وهو: أي الخيارات أفضل؟ لا شك أن الحياة الإنسانية مبنية على أصل هام؛ ألا وهو الاجتماع البشري، والتعاون فيما بين الناس لتحقيق مصالحهم، وبالتالي نجد أن خيار المنفعة للجميع هو الخيار الوحيد الذي يكفل حياة مستقرة وآمنة للبشرية، وإلا تعرضت البشرية جمعاء لاضطراب شديد، ولمخاوف دائمة، وهذا ما نراه اليوم في عالم تسود فيه فلسفات النفع للذات والضرر للآخرين، أو الضرر للجميع.
وهذا ما يؤكده ستيفن كوفي حين يقول: (أغلب المواقف في الحقيقة تكون جزءًا من واقع يتطلب التعاضد والتعاون بيننا وبين الآخرين، وعندئذ تكون فلسفة المنفعة للجميع هي الخيار الوحيد من الخيارات الخمسة القابلة للتطبيق).
ثم يشرح بعد ذلك كيف أن جميع أنواع التفكير الأربعة الأخرى تقود حتمًا إلى نتيجة واحدة؛ وهي أنك تضر نفسك وتضر الآخرين.
فمثلًا لو كنت صاحب متجر، وطبقت مع أحد الزبائن فلسفة النفع للذات والضرر للآخرين، فبعت له البضاعة بسعر أغلى؛ أنت تعتبر نفسك بذلك فزت، لكن الحقيقة هي أنك خسرت هذا الزبون؛ لأنه بالتأكيد سيسمع عن السعر الحقيقي، وساعتها سيقرر أن يوقف التعامل معك، بل قد ينشر عنك سمعة سيئة، مما يكبدك خسائر أكبر وأكبر.
وأما إذا كنت تتعامل مع شخص فلسفته الضرر للذات ومنفعة الآخرين، ربما يبدو أنك تحصل على ما تريده في اللحظة الحالية، لكن إلى أي مدى سيؤثر ذلك على حب الشخص بالنسبة للعمل معك، والوفاء والالتزام بالعقد؟
بالتأكيد لن يشعر بسعادة في التعامل معك، وسيكتم غيظه في نفسه، وربما سيقوم خلال أي مفاوضات في المستقبل بمعارك تنزل الأذى بك، ويسعى دائمًا إلى الانتقام منك، والثأر لهذه الصفقات التي ضاع فيها ربحه، ولذا فإننا نكون مرة أخرى داخل فلسفة الضرر للجميع.
وإذا ما ركزت على أن تكسب، دون وضع أي اعتبار حتى لوجهة نظر الطرف الآخر؛ فسيشعر الطرف الآخر أنك غير مهتم به، وأنك غير حريص على مصلحته، ولن يشعر بالأمان تجاهك، وبالتالي تكون مرة أخرى قد خسرت الشخص، ولم تكتسب علاقة قوية معه، وبالتالي فكلاكما خاسر أيضًا.
كيف السبيل؟
حتى تطبق مبدأ المنفعة للجميع بشكل كامل صحيح، بحيث يكون عادة راسخة فيك، فلابد من توافر صفات ثلاث:
1. الصدق والأمانة:
ولذا فما كان للمؤمن أن يتصف بالكذب أبدًا، حتى أعداء الله عرفوا أنه ليس للكذب إلى قلب المؤمن الحق سبيل، فلما أرادوا النيل من النبي صلى الله عليه وسلم، وصفوه بالمجنون تارة، وبالشاعر تارة أخرى، وبالكاهن تارة ثالثة، أما الكاذب، فقد أعلنوها من أول يوم للدعوة الجهرية والنبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا: (... ما جربنا عليك كذبا) [رواه مسلم]، إذن فالصدق والأمانة يشكلان جسرًا عابرًا لكل عقبات الاتصال البشري، وقافزًا فوق الحواجز والعقبات.
2. العدل:
ونقصد بالعدل هنا، أن تكون متوازنًا بين طرفين: طرف العداوانية، وطرف السلبية.
فالشخص العدواني: هو الذي يُقيِّم نفسه على أنها أكثر أهمية من الآخرين، ودائمًا ما يستبد برأيه وحقوقه ومشاعره، على حساب حقوق الآخرين.
أما الشخص السلبي: فهو الذي يُقيِّم نفسه على أنها أقل أهمية من الآخرين، ويتنازل عن آرائه وحقوقه، ومشاعره دائمًا أمام حقوق الآخرين.
أما الشخص العادل: فهو الذي يدرك أن احتياجاته وآرائه ومشاعره؛ ليست أقل أو أكثر أهمية من تلك التي تخص الآخرين، بل إنها تتساوى معها، ولذا ففي ظلال العدل، تعبر عن آرائك ومشاعرك في قوة ووضوح.
وفي الوقت ذاته تشعر بالآخرين، وتحترم مشاعرهم وآراءهم وتقدرها، وهذا يضمن لك أنك لن تخرج من أي موقف وأنت تشعر بعدم الارتياح من نفسك، أو تترك الآخرين يشعرون بعدم الارتياح.
وهذا ما يمكن أن نسميه بالتوازن بين الشجاعة والمراعاة، الشجاعة في التعبير عن مشاعرك الخاصة، مع مراعاة شعور الآخرين وأفكارهم.
فليس عليك أن تكون لطيفًا فحسب؛ بل يجب أن تكون شجاعًا، ولا يجب أن تكون تعاطفيًا فحسب؛ بل يجب أن تكون واثقًا.
فإذا فعلت ذلك، وتمكنت من أن تحقق ذلك التوازن بين الشجاعة والمراعاة؛ فإن ذلك جوهر النضج الحقيقي، وأصل طريقة تفكير المنفعة للجميع.
أما إذا غلَّب الإنسان جانب العدوانية على جانب السلبية؛ فإن ذلك يؤدي به إلى تفكير النفع للذات والضرر للآخرين، وإذا غلَّب جانب السلبية على العدوانية؛ فإن ذلك يؤدي به إلى تفكير الضرر للذات والنفع للآخرين، وتفكير المنفعة للجميع هو الوسط بين الطرفين.
3. التمتع بعقلية الوفرة:
بمعنى أن تقتنع بأن في الحياة متسعًا للجميع، فليس من الضروري أن يخسر الآخرون لتفوز أنت، بل إن القمة تسع الكثيرين، وللأسف الشديد فهناك كثير من الأشخاص مطبوعون على عقلية الشح، فيعتقد أحدهم أن القمة لا تسع إلا شخصًا واحدًا، وأنه حتى يفوز فيجب أن يخسر الآخرون.
وهؤلاء قد تجدهم يعبرون بألسنتهم عن السعادة لنجاح الآخرين، إلا أنهم في الداخل تتآكل قلوبهم من الغيظ، فإحساسهم بالقيمة يأتي من كونهم موضع مقارنة مع الآخرين، ونجاح شخص آخر وبدرجة معينة يعني فشلهم.
بل تجد هؤلاء يتمنون أن يصادف غيرهم الإخفاقات والمشاكل والأزمات، ويسعدون في داخل نفوسهم لذلك، ولا شك أن حياة كهذه هي حياة شقاء، وأصحاب عقلية الشح لا يجدون الراحة الداخلية، ولا الأمان النفسي.
أما أصحاب عقلية الوفرة، فيرى أحدهم أن كل إنسان هو قمة في حد ذاته، فالإنسان هو المخلوق الذي كرمه الله، وأسجد له الملائكة، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وبالتالي فإن أحدهم يتمتع براحة نفسية، وبأمان داخلي، همه كيفية التعاون مع الآخرين؛ لتحقيق منفعة أكبر.