(المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه)
الحافظ ابن رجب الحنبلي
كان هناك شقيقان يلعبان مع بعضهما البعض، وفي يوم من الأيام ضرب الأخ الكبير الأخ الصغير، فبكى الصغير وكتب على الرمال: "أخي الكبير ضربني اليوم"، ومرت الأيام، وبينما هما يسبحان في النهر المجاور لبيتهما، كاد الأخ الصغير أن يغرق فأنقذه أخوه، فكتب الأخ الصغير على صخرة: "أخي الكبير أنقذني اليوم".
فسأله الأخ الكبير: ما السر في أنك كتبت في اليوم الأول على الرمال، وفي اليوم الثاني على الصخر؟! فقال له: (عندما يعاقبني أخي الكبير على شيء فعلته خطأ، أكتبها على الرمل؛ حتى تأخذها الرياح فتمحوها وأسامحه، ولكن عندما ينقذ أخي الكبير حياتي، أكتبها على الصخر؛ حتى تبقى منحوتة في قلبي مدى الحياة).
الصفح خلق سيد الأنبياء:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة يعرض نفسه على القبائل، داعيًا إلى الله تبارك وتعالى، فأغلظ له بعض القوم في الرد، فإذا بملك الجبال يُسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن شئت أن أُطبِق عليهم الأخشبين؛ فيرد نبي العفو صلى الله عليه وسلم ردًّا يقطر بالتسامح، فيقول: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا).
حقك محفوظ:
ومما يشجعك ويحفزك على التسامح، علمك أن حقك محفوظٌ عند الله سبحانه وتعالى؛ فكل فرد آذاك ستأخذ من حسناته يوم القيامة، دون أي تعب أو مشقة منك، ولذا لما بلغ أحد السلف أن رجلًا اغتابه، بحث عن هديةٍ جميلةٍ ومناسبة، ثم ذهب إليه بها وقدمها له، فلما سأله الرجل عن سبب الهدية، قال: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من صنع لكم معروفًا فكافئوه)، وإنك أهديت لي حسناتك، وليس عندي مكافأة لك إلا من الدنيا).
فحينما يسيئ إليك أحدهم؛ فتذكر أن لك ربًّا يدفع عنك أذاه، وإن صبرت وعفوت؛ أبدلك الله بذلك حسناتٍ تُثقِّل ميزانك يوم القيامة، وطالما أن حقك محفوظ عند الله؛ فدورك الآن أن تسامح لتحفظ حقك، فلا تضيعه بالكراهية والغل والحقد، حتى تنال سعادة الدنيا والآخرة، ولتوفر طاقتك ومجهودك للنجاح في تحقيق أهدافك.
واستمع إلى نصيحة الشيخ السعدي رحمه الله حين يقول: (ومن الأمور النافعة أن تعرف أن أذية الناس لك وخصوصًا في الأقوال السيئة، لا تضرك بل تضرهم، إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها، وسوَّغت لها أن تملك مشاعرك، فعند ذلك تضرك كما ضرتهم، فإن أنت لم تضع لها بالًا لم تضرك شيئًا).
وقديمًا قدَّم يزيد بن محمد المهلبي تلك القاعدة المتزنة في النظر للناس حين قال:
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه
تقبل الآخرين:
إن هذه القاعدة مطردة في التعامل مع الناس سواء أكان ذلك في علاقات شخصية، أو في الأعمال المؤسسية، فالذي يطلب الكمال من الناس، ويغفر النقص من نفسه؛ لاشك أنه سيجد المتاعب دائمًا في انتظاره؛ لأن ارتفاع سقف توقعاته في أعمال الآخرين سيقابله عيوب بشرية، وهذا ما يحذر منه الدكتور عبد الكريم بكار حين يقول: (فالناس يتوقعون من بعضهم أكثر مما يمكن أن يقدموه، وتنتهي الأمور إلى برودة العلاقات، وإلى الغيبة والنميمة وسوء الظن)، كما سيؤدي ذلك إلى حلقةٍ مفرغةٍ من شعوره بتقصير الناس، والإيحاء لهم بذلك، وهم سينبذونه ويكرهون التعامل معه؛ مما سيؤثر بالضرورة على سعادته ونجاحه.
ركز على إيجابيات الآخرين:
كثيرٌ من الناس ـ إلا من رحم الله ـ يضعون سلبيات الآخرين تحت المجهر؛ فيضخمون من أثرها، ويعظمون من خطرها، ولكن القليل الذي يفهم نفسية الإنسان، وأنه مخلوقٌ ناقصٌ مفتقرٌ للكمال؛ هو الذي سيتقبل عيوب الآخرين.
ولا تعارض بين ذلك وبين تقديم النصائح والسعي في الإصلاح؛ فالإنسان بطبعه يسعى للكمال، لكنه واقعي، لا يتعامل مع الأمور بمثالية، ولذلك نحتاج إلى أن نضع الآخرين تحت مجهر الإيجابيات، (فينبغي أن نركز على رؤية الإيجابيات؛ حتى لا ننزلق نحو تضخيم الشر، أو نعامل المقصرين فينا وكأنهم مجموعة شرور).
اغفر للآخرين زلاتهم:
ودعني أسألك سؤالًا: كم تساوي قطرة ماءٍ في محيطٍ عظيمٍ مترامي الأطراف؟! فهل ينقص ذلك المحيط شيئًا إن أخرجت بيدك تلك القطرة؟! وهكذا كثير خير الإنسان حين تقارنه بزلةٍ أو هفوة، فكم من الشحناء والبغضاء تقع بين الأخوة، وهم قد عاشوا السنوات يفيض كرم كل منهم على أخيه، ويسع عفو كل منهم صاحبه، ورحم الله الإمام الجليل ابن القيم حين قال: (واعلم أن من قواعد الشرع والحكمة أيضًا أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر؛ فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: (ينبغي أن توطن نفسك على أنه لابد أن يكون في صديقك عيب أو نقص أو أمر تكرهه، فإذا وجدت ذلك، فقارن بين هذا وبين ما يجب عليك أو ينبغي لك من قوة الاتصال والإبقاء على المحبة، بتذكر ما فيه من المحاسن، والمقاصد الخاصة والعامة، وبهذا الإغضاء عن المساوئ وملاحظة المحاسن، تدوم الصحبة والاتصال وتتم الراحة وتحصل لك).
وختامًا:
1. ابحث دائمًا عن الميزات المواهب والمهارات الخاصة التي يتمتع بها كل شخص.
2. وازن بين مزايا الآخرين وبين عيوبهم حتى تحكم عليهم بتوازن.
3. اختر من اليوم شخصًا كنت دائم النظر إلى عيوبهم، وغيَّر نظرتك له.
2. ضع أهدافًا تناسب الآخرين، وتخل عن الأهداف التعجيزية، التي لا تزيد الآخرين إلا إحساسًا بضعفهم وعيبهم، وتُدخلهم في إحباطٍ رهيب.