يفضل سلاي كوردين نائب رئيس احد المصانع الأمريكية في أوهايو أن يخصص طابقاً خاصاً للأنشطة الاجتماعية ليحقق بذلك التوازن بين راحة الموظفين ومستوى إنتاجيتهم، حيث يمكن لموظفي الشركة إمضاء الوقت في هذا الطابق لسماع الموسيقا وتجاذب أطراف الحديث لكن طبعاً في حدود وقت الفراغ المتاح لهم وبما لا يتعارض مع عملهم. بيد أن خطط كوردين تعرض لتحديات حقيقية عندما قام أحد الموظفين لدى الشركة بإحضار مضارب الجولف معه وبدأ في تسديد الضربات من خلال نموذج مصغر للعبة متناسياً تماماً ما عليه من مهام أساسية. وقال كوردين: “أغلب الناس بحسب رأيي وجدوا الأمر مسلياً في البداية حتى حدوث هذه الواقعة التي أخذت منحى سلبياً لكن كوردين تلافى الخطأ وبادر إلى الجلوس مع الموظف في محاولة لإيجاد طرق مناسبة لضمان عدم تكرار هذا الأمر وذلك ببحث السبل الممكنة لإعادة حماسة هذا الموظف لعمله.
إن بيئة العمل اليوم مع ما تزدحم به من مراسالات رقمية ومكالمات على الهواتف الجوالة مليئة بأمور تشتت انتباه المرء وتعطله عن مهام عمله الرئيسية إضافتها التقنية المتقدمة على الهمسات الفضولية في ردهات الشركات والمشتتات التقليدية المشابهة في أماكن العمل.
وتؤكد التقديرات الحديثة لمؤسسات الأبحاث الاستشارية “بيزكس” ان قطاعات الأعمال في الولايات المتحدة تفقد حوالي 650 مليار دولار سنوياً بسبب ما يسود هذه القطاعات من أمور وعراقيل تشتت انتباه الموظفين وتعطلهم عن تقديم جهدهم بالكامل لعملهم. وبالتالي فإن قطاعات الأعمال وكبريات الشركات بحاجة ماسة لإيجاد السبل المناسبة لوضع حد لهذه المشتتات ولكفالة مناخ عمل أكثر راحة وفعالية وقادر على تعزيز عوامل الإنتاجية.
فعلى سبيل المثال قام بروس ليونسكي مدير قسم التسويق السابق لدى واحدة من كبريات الشركات في الولايات المتحدة بفصل أحد مدراء الأقسام لأن الأخير كان يهدر بين 40% و50% من وقته في التجوال بين مكاتب الموظفين في الشركة للحديث والتسلية الأمر الذي كان يشتت انتباه العاملين في مكتبه والمكاتب التي كان يزورها خلال جولاته اليومية، أما بقية وقته فكان يمضيه في تصفح الانترنت وتسديد الفواتير وقراءة المجلات الخاصة بأعمال الشركة.
ويقول ليونسكي تعليقاً على هذا الموقف: “من الجيد بالطبع الاطلاع على المستجدات في أعمال القطاع فهذا يساعد المرء على صقل معلوماته وتعزيز معرفته لكن الأنسب بلا شك أن يتم ذلك في غير ساعات الدوام اليومية.
ويقول الخبراء إن الحالات المماثلة لما شهده ليونسكي نادرة في قطاعات الأعمال فقلما نجد مديراً في إحدى الشركات يمارس هكذا أساليب فجة في هدر الوقت. إلا أنهم يؤكدون أيضا على وجود أشكال وأنماط عدة مختلفة لتضييع الوقت وتعطيل الآخرين عن القيام بمهام عملهم الأمر الذي يكون له تأثير السلبي في معدلات الإنتاجية.
ومن جانبه فإن تشانك مارتن رئيس شركة الأبحاث “ان اف اي ريسيرتش” المعنية بشؤون الإدارة وتوجهات تكنولوجيا المعلومات يرى أن أكثر وسائل الإلهاء تأثيراً تتمثل في البريد الالكتروني والأزمات التي تمر بها الشركات إضافة إلى مقاطعة زملاء العمل المرء خلال قيامه بتنفيذ المهام المطلوبة منه، وقال أن العامل الأخير هو الأكثر شيوعاً ما يضطر 46% من رؤساء الشركات إلى الحضور إلى عملهم مبكراً أو البقاء فيه لساعات متأخرة بعد الدوام سعياً وراء لحظات هدوء يتمون فيها عملهم.
إلا أن هذه الوسيلة هي الأخرى لم تنجح إذ غالباً ما يبادر الموظفون للحضور قبل الدوام أيضاً أو البقاء بدورهم لساعات متأخرة في محاولة من قبلهم لكسب رضا المدير خاصة مع غياب المنافسين في هذه الأوقات.
وأضاف مارتن قائلاً إن سعي الموظف وراء إثبات ذاته بهذه الطريقة لا يؤثر فقط في مديره الذي كان ينشد الهدوء وإنما يكون له كذلك انعكاساته السلبية على التوازن اللازم تحقيقه بين ساعات العمل والحياة الشخصية للمرء.
ويقول مارتن في كتابه “إلى أي حد تقودنا رغبتنا في النجاح؟” إن المفتاح الحقيقي لتحسين أداء الموظف ومساعدته على زيادة التركيز ومضاعفة الإنتاجية يكمن في معرفته لأوجه قوته ومواطن ضعفه ويمكنه قياس ذلك من خلال 12 عاملاً من بينهم إدارة الوقت والعمل تحت الضغوط والتخطيط السليم وتحديد الأولويات إضافة إلى المرونة. وبحسب الكتاب فإن هذه المهارات تميل نوعاً ما إلى اتخاذ مستوى ثابت خلال مرحلة النضج، ووجه مارتن النصح للمدراء في تحري هذه العوامل أو المقومات لدى الموظفين الراغبين في تعيينهم لمعرفة المستوى الحقيقي لأداء كل منهم.
ويضيف مارتن موضحاً: “ان درجة ميل المرء إلى إلهاء الآخرين عن عملهم وإضاعة الوقت تعتمد على طبيعته، ما يعني ان هذا الأمر يصعب تغييره بشكل جذري، لكن من الممكن بالطبع تعديل أكبر مشكلة أو مشكلتين ناجمتين عن هذه الطبيعة بما يتماشى ومناخ العمل المناسب الذي تصبو إليه الشركة” .
ويوحي المدراء والاستشاريون بعدد من الخطوات الممكن إتباعها لوضع حد لكل ما من شأنه أن يلهي الموظفين في الشركة عن عملهم ومن بين هذه النصائح تحديد وقت معين في اليوم لتصفح البريد الالكتروني ووضع علامات أو فواصل رادعة بين المكاتب في الردهات المفتوحة.
ويقول دايفيد جافيتش المحلل الاستشاري إن المشكلة الأكثر تعقيداً في المكاتب المفتوحة حيث لا توجد أبواب تفصل بين الموظفين ولا مجال هناك للخصوصية وبالتالي من المهم وضع لافتات تحذير مثل تلك الموضوعة في الشوارع وعليها علامة قف، فعلى الرغم من أنها ستبدو بمثابة الدعابة إلا أنها في الواقع طريقة فعالة لإضفاء شيء من الخصوصية على المكاتب المفتوحة. ويقوم جافيتش نفسه بفرض قواعد صارمة على عمله حيث لا يرد على رسائل البريد الالكتروني إلا في ساعات محددة وخلال فترات ثابتة. وهو ينصح كذلك بوضع جدول محدد لفترات استراحة الموظفين بحسب طبيعة الإيقاع الشخصي لكل موظف، ويقول انه من المناسب كذلك وضع هاتف في غرفة الاستراحة ليتسنى للموظف إتمام المهام الشخصية العالقة قبل العودة إلى مكتبه.
ومن جهة أخرى فإن تغيير مناخ العمل يمكن أن يشكل مصدراً إضافياً لتشتيت انتباه جميع العاملين في الشركة تماماً كما يحدث خلال عمليات الدمج أو الحيازة. ويقول ليونسكي مدير التسويق السابق لدى شركة “ويلفيت” للاتصالات إن الشركة عانت من حالة تشتت واسعة النطاق لدى قيامها بالاندماج مع شركة “سين أوتنبكس” عام 1994 الأمر الذي أدى إلى فشل الشركة الجديدة الناشئة عن هذا الدمج “باي نيوتوركس” وبيعها إلى شركة منافسة في نهاية المطاف.
ويقدم الخبراء المختصون عدداً من الحلول المقترحة لكل نوع من أنواع الإلهاء في قطاعات الأعمال، وتختلف هذه الحلول وتتباين بحسب النظريات التي تحلل أسباب وقوع هذه المشتتات. ويرى ليونسكي أن المسبب الرئيسي وراء نشوء الملهيات يرجع إلى ارتفاع عدد الموظفين بما يزيد عن حاجة الشركة الحقيقية الأمر الذي يتيح أمام العاملين في المكتب الكثير من الوقت الإضافي وبالتالي فإن أنسب الحلول لهذه المشكلة يكمن في زيادة المهام التي يتعين عليهم إتمامها. أما مارتن فيقترح تقسيم العمل الملقى على كاهل الموظف إلى عدد من المهام الصغيرة مما يفرض عليهم زيادة التركيز لإتمام كل مهمة.
ويقول ديك جروتيه مؤسس شركة الاستشارات الإدارية “جروتيه كونسلتنج” في دالاس إن تعيين الكثير من الموظفين يزيد الأعباء على كاهل المدراء ويحد من قدرتهم على تحقيق أهداف الشركة الأساسية بالقدر الكافي من الكفاءة والفعالية.
وأضاف قائلاً أيضاً: في حال تلقى المدير الكثير من رسائل البريد الالكتروني سيقوم بالضرورة بتجاهل البعض في حين سيكتفي بإرسال ردود مقتضبة غير شافية للبعض الآخر الأمر الذي من شأنه بالطبع أن يضر بشكل الشركة وبصالحها في نهاية المطاف، وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى وقوعه في المشاكل في نهاية المطاف.
وبحسب شركة الأبحاث “ان اف آي” فإن نحو الثلثين من بين 228 رئيس تنفيذي ومدير هم قاعدة بحث لمسح جديد قالوا إن رسائل البريد الالكتروني أكثر ما يشتت الانتباه عن العمل في الوقت الحاضر وجاءت أزمات العمل في المرتبة الثانية بنسبة 42% في حين جاءت المشتتات الشخصية في المركز الثالث بنسبة 31%. ولحقت بهم التغييرات التي تطرأ على أولويات العمل بنسبة 30%.، ووجدت جيل بيميس مديرة الحسابات في دائرة الزراعة بمينسوتا الحل المناسب لمشكلة إهدار وقت العمل نتيجة افتقار الموظف للمعلومات الشافية حيث قامت بتصميم دليل يقدم للموظف في الشركة كافة المعلومات التي يحتاجها من دون أن يضطر إلى إضاعة وقت غيره من العاملين في الشركة،كما قامت كذلك بتنظيم المؤتمرات التي تناقش الإجراءات المتبعة في كل قسم وقالت جيل ان هذا المنهاج ساعد على تقليص حالات الإلهاء لأن الموظف الذي اعتاد على إضاعة وقته وإهدار وقت غيره بات بإمكانه الاطلاع على كل ما يحتاج من معلومات بسهولة.
وكانت بيميس قد قامت سابقاً خلال عملها في الإدارة المالية لجامعة ميتروبوليتان بإعداد موقع خاص على الشبكة يطلع من خلاله الطلاب على الأجوبة الثانية عن أسئلتهم المتكررة والتي أهدرت في السابق الكثير من وقتها.
وقال جريجوري هاريس رئيس شركة الأبحاث السوقية “كوانتوم” إن المدراء يمكنهم تشجيع موظفيهم على التركيز أكثر على عملهم من خلال إتاحة الفرص أمامهم للترقي في العمل ومكافأة الأكثر فعالية وان احتاج الأمر عبر التخلص من العناصر المتلفة.
وأضاف قائلاً ان المحفزات تعد خير وسيلة لكفالة انخراط الموظفين في أعمالهم والتركيز على الإبداع بما يحقق أفضل مستويات الإنتاجية. ويرى الخبراء إن المحفزات من الممكن أن تسهم في إعادة تأهيل الموظفين بشكل جذري، بيد ان الأمر يتطلب أيضاً الاستغناء عن الموظفين الذين يمكن القول انهم لا أمل في تغيير عاداتهم السلبية. ويقول الخبراء انه يتعين على المدراء اللجوء الى اختبارات فعالة لتقييم الملهيات ومشتتات التركيز التي تؤثر في الإنتاجية وتلك محدود الأثر.