لا بد لرئيس الفريق من أن يتمتع بمجموعةٍ من الصفات والمزايا الخاصة، وتجدُر الإشارة إلى أن هذه الصفات والمزايا المطلوبة ينبغي أن تكون حقيقيةً، وليست شكلية أو إعلانية، وتكون المميزات الخاصة معيارًا مناسبًا، تستطيع الجهة التي تُصدر الأمر بتكليف رئيس الفريق أن تعتمد عليها قبل اتخاذ القرار بتكليفه، وكذلك هي المعيار العملي لمن ينتخب رئيس الفريق إذا كان النظام انتخابيًّا.ومن المهم أن يكون الشخص صادقًا ومخلصًا في تقويم نفسه كذلك (أقصد من يُكلف برئاسة فريق)، فيضَع نفسه بتجرد في هذا الميزان، فإن وجَد أنه يثقل بها (المعايير)، فنعمت المهمةوأهلاً بها، وإن وجد أنه يطيش أمامها فعليه - وبكل شجاعة وبلا تردد - أن يقول: (أنا لست أهلاً لها)، وذلك من أجملِ وأرفع درجات الإخلاص والتجرد عن رغبات الدنيا، وهو معبر عن حفظ الأمانة، والتنازل من أجل مصلحة الفريق.وعلى رئيس الفريق أن يتذكر دائمًا أنه بشرٌ مثل بقية البشر، لا يفرق عنهم، بل ربما كان في الفريق من هو أفضل منه بصفة معينة، أو بمجموعة من الصفات؛ لذلك عليه ألا يظلم أبدًا، ويضع هذا الحديث القدسي الشريف نصب عينيه دائمًا:عن أبي ذرٍّ الغفاري - رضي الله عنه - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما روى -صلى الله عليه وسلم- عن الله - تبارك وتعالى - أنه قال: ((يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي، كلكم جائع، إلا من أطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم، يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولَكم وآخركم، وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولَكم وآخركم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجرِ قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخرَكم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كل إنسان مسألته، ما نقَص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخيط إذا أُدخِل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجَد خيرًا، فليحمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومَنَّ إلا نفسه"[1].فإذا رأى رئيس الفريق في نفسه هداية، فهي من الله - سبحانه وتعالى - وإذا وجَد مكانة رفيعة أو جاهًا أو مالاً... إلخ، فكلها من الله - جل جلاله - لا من نفسه، فليتَّقِ الله ربه، ونذكر ها هنا بعضًا من هذه الصفات التي يجب أن يتحلى بها رئيسُ الفريق:1- ألا يكون حريصًا على هذه المنزلة (رئاسة الفريق) فيطلبَها بشكل مباشر، أو أن يكون سعى أو خطط للوصول لها بطريقة أو بأخرى، ولو رأى في نفسه الأهلية لذلك، وبدا له أحقيتُه عن غيره بها؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعةُ، وبئست الفاطمة))[2].وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا عبدالرحمن بن سَمُرة، لا تسألِ الإمارة؛ فإنك إن أوتيتَها عن مسألة وكِلتَ إليها، وإن أوتيتَها من غير مسألة أُعنتَ عليها، وإذا حلفتَ على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفِّر عن يمينِك، وأتِ الذي هو خير))[3].وسيكون من الصعوبة بمكان أن يفقدَ مَن يطلب رئاسةَ الفريق ويسعى لها - معيةَ الله سبحانه وتعالى في هذه المسيرة الصعبة؛ لأنه بكل الأحوال سيُوكَل إليها، وسيكون بمفرده، ولن يستطيعَ مخلوقٌ بلوغَ الهدف بمفرده إلا بتوفيق من الله تعالى.ثم إن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قد وضَع هذا الشرط الذي ذكرناه كأساس في العمل القيادي؛ فعن عن أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - قال: دخلتُ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلانِ من بني عمي، فقال أحدُ الرجلين: يا رسول الله، أمِّرْنا على بعضِ ما ولاك الله - عز وجل - وقال الآخر مثلَ ذلك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنا واللهِ لا نُوَلِّي على هذا العملِ أحدًا سأله، ولا أحدًا حرَص عليه))[4].2- القيادة: وهي من أهم الصفات التي تجعَلُ من رئيس الفريق قادرًا على تولِّي مهمة إدارة دفة الفريق عبر عُباب الأزمات إلى برِّ الأمان؛ لأن صفةَ القيادة تعني القدرة على اتخاذ القرار التي يحتاجها بشدة رئيسُ الفريق، بل هي من صُلب واجباته، فمَن تردد ساعة الحاجة لاتخاذ القرار، لا يصلُح للقيادة.إنَّ رئيس الفريق وُضِع ليَقود لا ليُقاد، وهذا ما فعَله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بعَث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - وكان عمرُه ثماني عَشْرة سنة، أو أقلَّ من ذلك[5]، وقد بلغ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قولُ الناس: استعملَ أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - على المهاجرين والأنصار، فخرج رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جلس على المنبر، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أيها الناس، أنفِذوا بَعْثَ أسامة؛ فلعمري إنْ قلتم في إمارته، لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخَليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقًا لها))[6].لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى في أسامة - رضي الله عنه - صفةَ القيادة، وأهليته لها؛ ولذلك اختاره، واتضح من كلامه -صلى الله عليه وسلم- بأنه خليقٌ لها، وبالفعل ثبتت صحةُ وجهة نظر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن مارسها أسامةُ بن زيد - رضي الله عنه - على أرض الواقع.ولا بد من الانتباه إلى أن التكليف لأسامة بن زيد - رضي الله عنه - هنا إنما هو بمهمة جزئية وليست رئيسة، وكذلك حال فِرَق العمل، فبالإمكان أن تكون فرقَ عمَل متعددة داخل الفريق الرئيس الكبير، بمعنى أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يمنَحْ أسامةَ بن زيد - رضي الله عنه - إمارة المؤمنين في عامة شؤونهم، وإنما في بَعْث للجيش.فإنَّ موضوع السنِّ في المسؤولية الأولى في فريق العمل أو المؤسسة له أهمية لا تقل شأنًا عن أي مواصفة رئيسية، فيُذكر أن قيس بن عاصم أوصى بنيه عند موته، فقال: "أوصيكم بتقوى الله تعالى، وسوِّدوا أكبركم؛ فإن القوم إذا سوَّدوا أكبرهم خلفوا آباءهم، وإذا سوَّدوا أصغرهم أُزِريَ بهم في أكْفائهم"[7].ومن حُسن القيادة أن ينظر رئيسُ الفريق لنفسه، ويتابعها ويقوِّمها، ولكن ليس من وجهة نظره؛ وإنما بعيون الآخرين، ودون مجاملات ومداهنات مِن قِبَل أعضاء الفريق؛ لأنه من الطبيعي أن يُثني أعضاء الفريق على رئيسهم بكل حال من الأحوال.ولقد لفت نظري بشدة يومًا رئيسُ فريق ناجح، وكان الرجل يحمل الدكتوراه في الهندسة، ناهيك عن خبرته في عمله الهندسي، وكنت في وقتها أقوم بتقديم وِرَش عمل في تطوير المهارات، ورفع مستوى الأداء لأعضاء فريق هو يقوده، وقد طال بي المقام معهم فصِرْتُ كأنني واحد من أعضاء ذلك الفريق؛ حيث طلب مني رئيس الفريق في حينها أن أطلب من أعضاء فريقه تقييمَ رئيسهم بعيدًا عنه، وبالفعل صممت نموذجًا لاستمارة خاصةٍ بالموضوع، ودون أي إشارة للأسماء، كما لم يكن فيها شيء يحتاج للكتابة؛ حتى لا يخشوا شيئًا من معرفة الخطوط، وإنما كان اختيارات فقط، وقد قالوا رأيهم بصراحة في رئيس فريقهم بعيدًا عن الضغوط الوظيفية، وكانت النتائج جيدة، واستلم مني التقرير، وقال لي بإصرار: إنه لن يكتفي بالجيد، وإنه سيسعى لأن يصلَ معهم إلى درجة ممتاز في أدائه معهم، وهذا نموذج رائع للقيادة.3- أن يعمَل وَفْقَ مبدأ (القائد - الخادم)، وليس القائد المتحكم (البيروقراطي)[8] المستبد؛ فيكون واجبُه إيجاد الرُّؤى المشتركة في التحفيز والدعم والتوجيه، ومراعاة مشاعر واحتياجات الغير، وليس التسلُّط والتحكُّم فحسب، كما أن عليه تنمية القدرات للأفراد، وبناء الثقة المتبادلة بينهم، ورؤية آفاق جديدة، والتخطيط الطويل الأمد.والقائد الخادم هو من يضع نفسه بشكل دائم مكان الآخرين؛ ليعرف احتياجاتهم، وحقيقة ما يعانونه، ولقد تجلت هذه الصفةُ الكبيرة أول أمرها في خير الناس رسولِ الله محمد -صلى الله عليه وسلم- فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من أشدِّ الناس لطفًا بالناس، والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبدٍ ولا أمَةِ ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه، وما سأل سائل قط أذنه إلا أصغى إليه، ولا ينصرف عنه حتى يكون هو الذي ينصرف، وما تناوَل أحدٌ بيده قط إلا أتاه إياها، فلم ينزِعْها منه حتى يكون هو الذي ينزِعُها منه"[9].وقال عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - لأصحابه يومًا: "دلُّوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمَّني، قالوا: فلان، قال عمر - رضي الله عنه -: لا حاجةَ لنا فيه، قالوا: فمن تريد؟ قال: أُريدُ رجلاً إذا كان في القومِ وليس أميرَهم كان كأنه أميرُهم، وإذا كان أميرَهم كان كأنه رجلٌ منهم، قالوا: ما نعرِفُ هذه الصفة إلا في الربيعِ بن زياد الحارثي، قال: صدقتم، فولاَّه"[10].وقد ورد في الطبقات الكبرى لابن سعد أنَّ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - خرَج في يوم جمعة وقطر عليه ميزابُ العباس - رضي الله عنه - وكان على طريقِ عمر إلى المسجد، فقلعه عمر - رضي الله عنه - فقال له العباس- رضي الله عنه -: قلعتَ ميزابي، والله ما وضَعه حيث كان إلا رسولُ الله محمد -صلى الله عليه وسلم- بيده، قال عمر: لا جرَم ألا يكونَ لك سُلَّمٌ غيري، ولا يضعه إلا أنت بيدك، فحمَل عمرُ العباسَ على عنقه، فوضع رجليه على منكبَيْ عمرَ ثم أعاد الميزاب حيث كان، فوضعه موضعه.فكم رئيس فريق اليومَ على استعدادٍ لمثل هذه الخطوة؟ وإذا لم يكن على استعداد لهذا الموقف، فما هي الأسباب؟ورأى أحدُ الصحابة أميرَ المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عام الرمادة مرَّ على امرأةٍ وهي تعصد عصيدة لها، فقال: "ليس هكذا تعصدين، ثم أخَذ المسوط فقال: هكذا، فأراها".وعن أنسِ بن مالك - رضي الله عنه - قال: "تقرقر بطنُ عمر بن الخطاب، وكان يأكل الزيت عام الرمادة، وكان حرَّم عليه السَّمْن، فنقر بطنه بإصبعه قال: "تقرقر تقرقرك، إنه ليس لك عندنا غيرُه حتى يحيا الناس"[11].يقول ستيفن كوفي: "إن مهمةَ المدير الخادم هي المساعدة في بناء الذكاء والحكمة والشخصية لدى العاملين معه، وقد يحتاجُ إلى تحطيمِ بعض الأساليب التقليدية لرؤية وتنفيذ المهام".وعلى العموم، فإن مداراة أعضاء الفريق من أهم واجبات رئيس الفريق، بل هي الدليل القاطع على رجحان عقله، وعلوِّ شأنه، يقول رسولُ الله محمد -صلى الله عليه وسلم-: ((رأسُ العقل بعد الإيمان بالله التودُّدُ إلى الناس، وما يستغني رجلٌ عن مشورة، وإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أهلَ المنكر في الدنيا هم أهل المنكَر في الآخرة))[12].4- التميُّز بين أقرانه من كل الوجوه، وبشكل عام في مجموعة من الصفات الأساسية، لعل أهمَّها القوةُ العلمية والفكرية، ومنها: الذكاء، والشجاعة، والفِطنة، والصدق، والأمانة.. إلخ، ويشار له من قِبَل الآخرين بذلك، والمقصود هنا تميز الكفاءة، ومن أهم الوجوه الأخرى الجانبُ الفني والخبرة العملية المتراكمة إذا كان في المهمة جانبٌ فني.ولقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُشير ويذكر المتميزين من أصحابه بأسمائهم، ومثال ذلك ما قاله -صلى الله عليه وسلم- في حقِّ الصحابي أُسَيد بن حُضير - رضي الله عنه - فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نِعْمَ الرجل أُسيدُ بن حُضير[13]))[14].في حين أننا نجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ردَّ الصحابيَّ أبا ذر الغفاريَّ حين طلب القيادة؛ فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملُني؟ قال: فضرَب بيده على مَنكبي، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: ((يا أبا ذرٍّ، إنكَ ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ، إلا مَن أخَذها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها))[15].5- قَبول النصيحة والاستشارة من أعضاء الفريق بشكل خاص، ومن الآخَرين بشكل عام، ومن الخطأ الشائع اعتقادُ رئيس الفريق عدمَ حاجته للنصيحة؛ لاعتقاده أنه بمرتبة أعلى من الآخرين، فهو في غنًى عن نصائحهم، فهنا يقول النبي محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-: ((نضَّرَ اللهُ امرأً سمع مقالتي فحفِظها، فإنه رُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))[16].فلا يُدرى من أين ستصدُر الحكمة، والله - وحده - يعلَمُ أين يقبع الإبداع، فربما جاءت نصيحة كبيرة، وبقدرٍ من المسؤولية، وعلى مستوًى عالٍ من الأهمية - من أصغرِ عضو في الفريق، تؤدي إلى تغيير مسار العمل برمَّته، وتأتي بنتائجَ لم تكن بالحسبان.ولنا في خطبة أبي بكر الصِّديق - رضي الله عنه - عبرةٌ عظيمة، ومنفعة رصينة، وأصلٌ من أصول المعرفة في قيادة الفِرَق، فهو يقول في خطبته: "إني وليتكم ولستُ من أخيركم، وإنما أنا بشَر مثلكم، فإن أصبتُ فاحمَدوا الله، وإن أخطأت فقوِّموني، وإن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يُعصَم بالوحي"[17]، إنه يبين لهم أنه بشَرٌ، ما يعني احتمالَ حصول الخطأ، وهو أمر وارد جدًّا، فيطلب منهم ليس الاعتراض وتقديم النصح حسب، بل طلب منهم التقويم؛ لأنه ليس بمعصومٍ عن الخطأ والنسيان والغفلة وعدم التقدير.وعلى هذا الأساس، فإن من مصلحة رئيس الفريق والفريق والعمل: أن يقرِّبَ حوله الصادق الناصح الأمين في طرحه، وإن كان لا يجامل ولا يُداهن ولا يُطري عليه؛ لأن الحق على لسانه، "وهذه خَصلة يندُر اليوم توافرُها، وهذا دليل على قلة معرفة رئيس الفريق وعدم أهليته؛ لأنه لا يحبُّ أن يسمَع ممن حوله أو مستشاريه إلا كلمةَ (نعم)! وهو أمر خطره عليه شخصيًّا قبل غيره".عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أراد اللهُ بالأمير خيرًا، جعَل له وزيرَ صِدق؛ إن نسِي ذكَّره، وإن ذكَر أعانه، وإذا أراد الله به غيرَ ذلك، جعَل له وزيرَ سُوءٍ؛ إن نسِي لم يُذكِّره، وإن ذكَر لم يُعِنْه))[18]، والمقصود بالوزير هو الشخص الذي يكون مقربًا من رئيس الفريق، ويقدم له الاستشارة، ويمهِّد له الأمورَ، ويشرح له الحالات قبل اتخاذ القرارات، والاستشارةُ التي تُقدَّم لرئيس الفريق تكون على ثلاثة أوجه:الوجه الأول: أن يعقد رئيس الفريق لقاءً أو اجتماعًا لكافة أعضاء الفريق، حتى أولئك الذين يعتقد عدم أهليتهم للاستشارة، فربما خرَج منهم شيء عظيم، ثم يطرَح الموضوع، ويستمع للآراء التي يُبديها الجميع، ويوثقها ليدرسها لاحقًا، وهذا الفعل كثيرًا ما فعله رسولُ الله محمد -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه حين كان يقول لهم: ((أشيروا عليَّ أيُّها الناس))؛ فقد قالها قبل صُلح الحديبية حين أُبلِغ أن قريشًا تريد حربه، وقالها حين تكلم المنافقون وبعض الصحابة كلامًا في زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي قضية إعادة بناء الكعبة، وغير ذلك الكثير والكثير، وهي سنَّة الْتزمها الخلفاءُ الراشدون - رضي الله عنهم - بعد النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فكانوا كثيرًا ما يقولون للآخرين: أشيروا عليَّ؛ لهذا فمن حكمة رئيس الفريق ووعيه ورُجحان عقله وتفانيه وتواضُعه ومكانته الرفيعة: أن يرفع شعارًا نصه: "أشيروا عليَّ".الوجه الثاني: أن يطلُبَ رئيس الفريق الاستشارةَ أو النصيحة من أعضاء محدَّدين في فريق العمل بشكل مشترك، أو كل على حِدَة؛ لمعرفته بفطنتهم أو علمهم أو تخصصهم في مجال محدد.وقد حصل أن استشار النبيُّ محمد -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه في موضوع أُسارى معركة بدر من المشركين؛ فقد استشار أبا بكر الصِّديق، واستشار عمر بن الخطاب، واستشار عبدالله بن رَواحة.الوجه الثالث: أن يتقبَّل النصيحة أو المشورة التي يتبرَّع بها أعضاءُ الفريق، وهذه نقطة حريٌّ بكل رئيس فريق الوقوفُ عندها، وإن كانت هذه النصائح مخالفةً لِما يسير عليه، كـ: (سياسة لعمل الفريق)؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نزَل منزلاً يوم بدر، فقال الحُباب بن المنذر: "ليس هذا بمنزلٍ، انطلِقْ بنا إلى أدنى ماء إلى القوم، ثم نبني عليه حوضًا، ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل، ونغوِّر ما سواها من القُلُب، قال: فنزل جبريل - عليه السلام - على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "الرأي ما أشار به الحُبابُ بن المنذر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا حُبابُ، أشرتَ بالرأي))، فنهض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففعل ذلك"[19].وهذا الأمر رغم أهميته يَغفُل عنه الكثيرُ من رؤساء الفِرق إلا من رحم الله، بل ويَعُدُّون من يقدِّم النصيحة لهم كأنه عدو لهم، فيحاولون التخلص منه أو إبعاده بطريقة أو بأخرى عن طريقهم؛ لأنه يذكِّرُهم بأخطائهم وهم لا يريدون ذلك، بل ويعدونه يعمل ضد مصالح الفريق، وهو ليس كذلك وهم يعلمون ذلك علم اليقين.وكان الاستماع للنصيحة من الناس من أخلاق أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - فقد خرج يومًا من المسجد ومعه الجارود العبدي، فإذا بامرأة برزة[20] على ظَهر الطريق، فسلَّم عليها عمرُ - رضي الله عنه - فردت عليه، أو سلَّمت عليه، فرد عليها، ثم قالت: هيه يا عمر، عهدتُك وأنت تسمى عُميرًا في سوق عكاظ تصارع الصبيان، فلم تذهب الأيام والليالي حتى سمِّيتَ عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتَّقِ اللهَ في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد، قرُب منه البعيد، ومن خاف الموت، خشي الفوت، فبكى عمرُ - رضي الله عنه - فقال الجارود: هيه، فقد أكثرتِ وأبكيتِ أميرَ المؤمنين، فقال له عمر - رضي الله عنه وعنها -: أوَما تعرف هذه؟ هذه خولةُ بنت حكيم امرأةُ عبادة بن الصامت التي سمع الله قولَها من سمائه؛ فعُمَر واللهِ أجدرُ أن يسمَعَ لها"[21].6- الصبر: والتحلِّي بالصبر من صفات رئيس الفريق الناجح، والصبر هنا له العديد من الأوجه، فمنها أنه يعني السيطرةَ على العواطف؛ حتى لا يجنح رئيس الفريق بعيدًا عند اتخاذ القرار، وكذلك يعني الصبر على أعضاء الفريق حين حدوث الخطأ أو التقصير.فلما كان يوم حنين، آثَر النبي -صلى الله عليه وسلم- أناسًا في القسمة، فأعطى الأقرعَ بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب، فآثرهم يومئذٍ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِل فيها، وما أريد بها وجهُ الله، فقلت: والله لأخبرن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأتيته، فأخبرته، فقال: ((فمن يعدِلُ إذا لم يعدل الله ورسولُه؟! رحم الله موسى قد أوذي بأكثرَ من هذا فصَبَر))[22].والصبر من الدهاء الإداري الذي يعطي نتائجَ إيجابية في أداء الفريق، ويضمن استمرارَ مسيرة الفريق.وقد قال عمرُو بن العاص - رضي الله عنه - وكان من دُهاة الناس: "إني لأصبرُ على الكلمة لهي أشد عليَّ من القبض على الجمر، وما يحملني على الصبر عليها إلا أن أتخوَّفَ من أخرى شر منها".فهؤلاء القوم تعلموا هذه الأسس الإدارية في عمل الفريق من رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- فأصَّلوا لها واتَّبعوا أسسها، وهذا أبو الدرداء - رضي الله عنه - يقول: "إن الدنيا خوَّانة لا يدومُ نعيمها، ولا يؤمَن فجائعها، ومن يعِشْ يُبتلَ، ومن يَتفقَّدْ يُفقَدْ، ومن لا يُعِدَّ صبرًا لفجائع الأمور يَعجِز".7- التواضع: وهي من الصفات الواجبة، والتي لا يُسمح بالتنازل عنها ولو بنسبة قليلة جدًّا، ولا بدَّ من لفت النظر إلى أن التواضعَ المقصود ليس تواضعَ الكلمات، وتواضع المشاهد التمثيلية، وإنما المقصود التواضعُ الذي يكبح جماح النفس فيجعلها تسير مع الفريق وَفْق ما يشتهون ويُحبُّون ويتَّفقون، وليس وَفْق ما تحب هي وتشتهي، تواضع يجعل رئيس الفريق يسكُن كما يسكن أعضاء الفريق، ويلبَس مثلهم، ويأكُل أكلهم، ويشرب شربهم، ويجلس مجلسهم؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إنكم لتدَعون أفضل العبادة؛ التواضع"[23]، وعنها - رضي الله عنها - قالت: "كان فراشُ النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- من أَدَمٍ، وحشوه من ليف"[24].وبإمكان رئيس الفريق أن يتبع بعض الخطوات التي تساعده على التواضعِ؛ كأن يتكلَّمَ مع أعضاء الفريق بطريقة تُشعِرهم بأنه واحد منهم، أو أن يحمل حاجياته بيده، أو يأكل مع بسطاء الفريق من المائدة نفسها، بل ويعد الطعام بيده، ويحمله لهم، وهناك أمور كثيرة من هذا النوع بالإمكان فعلها؛ فعن عروة، قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، أي شيء كان يصنَعُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان عندك؟ قالت: "ما يفعل أحدكم في مهنة أهله، يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويرفع دلوه"[25].ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعمل بيده الشريفةِ مع أصحابه في غير موضع؛ فقد عمل مع أصحابه في بناء مسجد قُباء، وفى بناء مسجده الشريف في المدينة المنورة، وفى غزوة الخندق كان يعمل في الحفر أكثرَ مما يعمل الأفراد الاعتياديون، وقد روى بعضُ الصحابة عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنهم رأوه اشترى تمرًا بدرهم، فحمله في ملحفته، فقالوا: نحمِلُ عنك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل.ولما قدِم عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - الشام أتته الجنودُ وعليه إزار وخفَّان وعمامة، وأخَذ برأس بعيره يخوض الماء، فقالوا له: يا أميرَ المؤمنين، تلقاك الجنودُ وبطارقة الشام وأنت على هذا الحال؟! قال: فقال عمر: "إنَّا قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العزَّ بغيره"[26]، وسُئل الأحنف بن قيس - رحمه الله -: ما الإنسانية؟ قال: "التواضعُ في الدولة، والعفو عند المقدرة، والعطاء بغير منَّة".وموعظة أخرى تأتينا من رجلِ دولةٍ عظيم، هو سلمان الفارسي - رضي الله عنه - حين كان أميرًا بالمدائن، فقد اشترى رجلٌ بيتًا بالمدائن، فمرَّ سلمان الفارسي - رضي الله عنه - بالمدائن وهو أميرها، فحسب سلمانَ عِلجًا، فقال: يا فلان، تعالَ، فجاء سلمان - رضي الله عنه - فقال: احمل، فحمله فمضى به، فجعل يتلقاه الناس: أصلَح الله الأمير، نحمل عنك، ويا أبا عبدالله، نحمل عنك، أبا عبدالله، نحمل عنك، فقال الرجل: ثكلتني أمي وعدِمتني، لم أجد أحدًا أسخِّره إلا الأمير، قال: فجعل يعتذر إليه ويقول: أبا عبدالله، لم أعرِفْك رحمك الله، قال: انطلِق، فانطلق به حتى بلغ به منزله، ثم دعاه، فقال: "لا تسخِّر بعدي أحدًا أبدًا"[27]، فأيُّ أمراء أولئك الذين يسخِّرهم الناس؟ وأي تواضع كان يحمله سلمان الفارسي - رضي الله عنه؟وخرَج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في يوم حارٍّ واضعًا رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار، فقال: "يا غلام، احملني معك"، فوثب الغلام عن الحمار، فقال: اركب يا أمير المؤمنين، قال: "لا، اركَبْ، وأركبُ أنا خلفك، تريد أن تحملني على المكان الخشن، وتركب على المكان الوطيء، ولكن اركب أنت، وأكون أنا خلفك"، قال: فدخل المدينةَ وهو خلفه، والناس ينظُرون إليه"[28].وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: "رأيتُ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يومئذٍ أمير المؤمنين يطرح له صاع من تمر، فيأكله حتى يأكل حشفها"[29].ومِن تواضع رئيس الفريق أنه يعُود عن القرارات التي يكتشف فيما بعدُ عدمَ صلاحيتها، أو وجود أسباب منطقية للعدول عنها لسبب أو لآخر، ولا يتمسك برأيه وتأخذه العزة في ذلك، والأمر هنا يحتاج إلى قوةِ الشخصية، والوقوف على الحق، وألا تأخُذَه في الله لومةُ لائم؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: بعَثَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعث وقال لنا: ((إن لقيتُم فلانًا وفلانًا - لرجُلينِ من قريش سماهما - فحرِّقوهما بالنار))، قال: ثم أتيناه نودِّعه حين أردنا الخروج، فقال: ((إني كنتُ أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا بالنار، وإن النارَ لا يعذِّب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما))[30].والتواضع المطلوب هو التواضعُ المحدد بالمبادئ؛ لأن المبادئ هي المتحكمة بنا وليس العكس، باعتبارها ثوابت؛ فلهذا من الضروري - بل من الواجب - تحديد وتسمية ثوابتنا في قضايانا، وهذه الثوابتُ من صفاتها: أن تكون واقعية وليست خيالية، وممكنة التطبيق وليست تعجيزية، وذات عوائد إيجابية للفريق ورئيسه وأعضائه.ومن أمثلة الثوابت التي تُضرَبُ في سياسة فريق العمل أنه "كان بين سعدِ بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وسلمان الفارسي - رضي الله عنه - شيء، فقال سعد وهم في مجلس: انتسِبْ يا فلان، فانتسب، ثم قال للآخر: انتسب، ثم قال للآخر حتى بلغ سَلمان، فقال: انتسِبْ يا سلمان، قال: "ما أعرفُ لي أبًا في الإسلام، ولكن سلمان ابن الإسلام"، فنمى ذلك إلى عمر، فقال عمر - رضي الله عنه - لسعد ولقيه: "انتسِبْ يا سعد"، فقال: أنشُدك الله يا أمير المؤمنين، قال: فكأنه عرف، فأبى أن يدَعَه حتى انتسب، ثم قال للآخر حتى بلغ سلمان، فقال: انتسب يا سلمان، فقال: أنعَم الله عليَّ بالإسلام؛ فأنا سلمانُ ابن الإسلام، فقال عمر - رضي الله عنه -: "قد علمتْ قريشٌ أن الخطاب كان أعزَّهم في الجاهلية، وإن عمر ابن الإسلام أخٌ لسلمان ابن الإسلام، أما والله، لعاقبتك عقوبة يسمع بها أهل الأمصار، أوَما علمت؟ أوَما سمعت أن رجلاً انتمى إلى تسعة آباء في الجاهلية فكان عاشرهم في النار، وانتمى رجل إلى رجل في الإسلام وترك ما فوق ذلك، وكان معه في الجنة؟"[31].ومن دلالات التواضع: مخالطةُ الآخرين، والحديث معهم، والعمل معهم، وملاطفتهم؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير: ((يا أبا عُمَير، ما فعل النُّغَير؟))[32].8- العدل: يقول الله - عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135].فبالعدل والهداية يحافِظ رئيسُ الفريق على مسار الفريق من الانحراف؛ قال رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-: ((لن تَهلِكَ الرعيةُ وإن كانت ظالمة مسيئة إذا كانت الولاة هادية مهدية، ولكن تهلِك الرعية وإن كانت هادية مهدية إذا كانت الولاة ظالمة مسيئة))[33].كما يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لَعدل العامل في رعيته يومًا واحدًا أفضلُ من عبادة العابد في أهله مائة عام أو خمسين عامًا))[34] "الشاك راوي الحديث"، والعدل المقصود: هو القائم على الصدق والمساواة، وهو أساسُ تقويم رئيس الفريق، يقول رسولُ الله محمد -صلى الله عليه وسلم-: ((خيرُ أمراء السرايا زيدُ بن حارثة، أقسمُهم بالسوية، وأعدلُهم في الرعية))[35].9- قليل الكلام والمِزاح والضحك: إن كثرةَ الكلام تعني المزيدَ من التفاصيل، ونتيجتها المزيد من الأخطاء، والمزيد من كشف الأسرار، وما أفشيت الأسرارُ إلا باستمراء كثرة الكلام؛ فقد كتب عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - إلى أهل المدينة: "أنه من تعبَّد بغير علم، كان ما يُفسد أكثرَ مما يصلح، ومن عد كلامه من عمله، قل كلامُه إلا فيما يَعنيه"، وأما الضحك الكثير ففيه ذَهاب الهيبة؛ قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "من كثُر ضحِكُه قلَّت هيبتُه، ومن كثُر مِزاحه استُخِفَّ به، ومَن أكثر من شيء عُرِف به، ومن كثُر كلامه كثُر سقطه، ومن كثُر سقطه قلَّ حياؤه، ومن قل حياؤه قلَّ ورَعُه، ومن قلَّ ورَعُه مات قلبه"، وعن أبي ذر الغِفاري - رضي الله عنه - قال: "قلت: يا رسول الله، زدني، قال: ((إياك وكثرةَ الضحك؛ فإنه يُميت القلب، ويَذهب بنور الوجه))، قلت: يا رسول الله، زدني، قال: ((عليك بالصمت إلا من خير؛ فإنه مَطردةٌ للشيطان عنك، وعونٌ لك على أمر دينك))[36].عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالسُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: "كان طويلَ الصمت، قليل الضَّحِك، وكان أصحابُه ربما تناشدوا عنده الشِّعر والشيءَ من أمورهم، فيضحكون، وربما تبسَّم".يقول أحَدُ الحكماء:"وإياك وضحِكَ القهقهة؛ فإن فيه ثمانيةً من الآفات:أولها: أن يذمَّك العلماء والعقلاء.والثاني: أن يجترئ عليك السفهاء والجُهال.والثالث: أنك لو كنتَ جاهلاً ازداد جهلُك، وإن كنت عالِمًا نقص علمك؛ لأنه رُوي في الخبر: "إن العالِمَ إذا ضحِك ضحكةً مجَّ من العلم مجَّة"، يعني رمَى من العلم بعضَه.والرابع: أن فيه نسيانَ الذنوب الماضية.والخامس: فيه جراءة على الذنوب في المستقبل؛ لأنك إذا ضحِكتَ يقسو قلبُك.والسادس: أن فيه نسيانَ الموت وما بعده من أمر الآخرة.والسابع: أن عليك وِزْرَ مَن ضحِك بضحكك.والثامن: أنه يجب له بالضحك بكاءٌ كثير في الآخرة؛ قال -تعالى-: ﴿ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 82].