ما أن تبدأ الطفولة في النهاية حتى يمتلئ الجسد بفوران موسيقي حاد: إن الجسد يستعد للمرحلة الوسطى م ن العمر. وتندفع اليقظة إلى غدد النمو عند الانسان، وما إن تبدأ غدة صغيرة في الضمور، وهي غدة (الثايموس) حتى تبدأ غدد الخصيتين أو المبيضين في اليقظة.
ومهمة غدة (الثايموس) هي تلقين كل خلايا الانسان أسرار حماية نفسها من أي دخيل يهاجمها، وبدء النضج في الخصيتين أو المبيضين يدل الكائن البشري على تأكيد انتمائه إلى الجنس الذي ينتمي إليه سواء أكان ذكراً أم أنثى.
في زمن المراهقة من الطبيعي أن يعلو اهتمام الفتى بالفتاة. ومن الطبيعي أن تذوب النظرة السابقة إلى الفتاة، تلك النظرة التي كانت تكبت المشاعر في الفتى، وتكاد أن تنتهي مسألة التعصب للعب مع الجنس الواحد. فالولد الآن لا يفضل اللعب مع أولاد مثله فقط، بل يفضل أن يضيف إلى صداقاته معرفة أي فتاة من الجنس الآخر، لكن الفتى قد يتحرج من ذلك.
أما الفتاة في هذه المرحلة فهي أيضاً تتمنى التعرف على الفتيان في مثل عمرها، لكن الأمر يختلف من مجتمع إلى آخر. ففي المجتمع الذي يحرم وجود أي علاقة بين الشاب والفتاة إلا في إطار الزواج، نجد المراهقة تملأ خيالها بصداقات لا أحد يستطيع مصادرتها. إنها الصداقة الخيالية مع نجوم السينما والتليفزيون وأبطال القصص العاطفية. وفي نفس الوقت يتم صقل الضمير الأنثوي بطابع التقاليد السائد في المجتمع. ونجد بعض الفتيات يتظاهرن بالخجل بطريقة فيها الكثير من الإزعاج لأنفسهن ولمن حولهن، وفي بعض الأحيان يكون الخجل حقيقياً ونابعاً من الأعماق.
ولأن كبت المشاعر المتعلقة بالجنس الآخر كان شديد الحدة في الفترة السابقة على البلوغ، فإننا نجد أن التعبير عن هذه المشاعر يأخذ درجة من الحدة في الاتجاه المعاكس. إن الشاب يتفجر بالشوق إلى معرفة الجنس الآخر، فيختار الدخول في قصة حب مع مدرسة أو نجمة سينمائية أو تليفزيونية، وهو بطبيعة الحال حب من طرف واحد، وحب خيالي. وفي نفس الوقت يختار الشاب رجلاً أكبر منه يعمل في مجال الإعلام أو الأدب أو التمثيل ليكون مثلاً أعلى له.
ونفس المسألة تصح بالنسبة للفتاة. إنها تختار نموذجاً من الجنس الآخر لتبادله عواطفها، وبطبيعة الحال تكون هذه العلاقة من طرف واحد، وفيها من الوهم وتركيز المثاليات في هذا الشخص ما يفوق التصور.
ويحدث ذلك للشاب والفتاة، لأن بطل قصة الحب الخيالية قد يكون رقيقاً أو دمثاً أو يخيّل لمن يراه أنه شخص يمكن أن يتحدث معه الانسان في كل الموضوعات التي تهم المراهق.
وسرعان ما يهبط الخيال إلى أرض الواقع فيختار الشاب فتاة في مثل عمره ويخصصها لنفسه ـ في الخيال طبعاً ـ كبطلة لقصة الحب أو يتكلم معها في الخيال ويصور لها كل ما في عالمه السحري الخاص ومستقبله الناجح وكيف أنها ستقوم بإنقاذه من هذا العالم الجاف جداً إن هي اعترفت له بالحب.
ونادراً ما يجد الشاب الشجاعة الكافية في مثل هذا العمر ليعترف لهذه الفتاة عملياً بأنه يحبها.
ويستعد لذلك لفترة طويلة. وقد تأتي الشجاعة للشاب لمثل هذا الاعتراف. وقد تتلقى الفتاة مثل هذا الحديث بالسخرية، فيندفع الخجل إلى المشاعر ويتبعه الحرص على الكرامة لتتساقط قصة الحب وكأنها قطع كوب زجاجي تناثر على الأرض.
وكعادة البشر عندما يتغلبون على الخجل بالتجربة، فإن الشاب في بداية مراهقته يتنقل من قصة خيالية إلى قصة أخرى في لمح البصر. وإذا ما نجح في تحديد موعد مع فتاة من الجنس الآخر فليس الهدف أبداً هو أن يفوز بقبلة أو لقاء مكتمل بين رجل وامرأة، إنما الهدف هو أن يستكشف مدى تقبل الجنس الآخر له. إن الشاب في بدء مرحلة المراهقة ينقل إعجابه المبالغ فيه بأمه إلى الفتاة التي يختارها كبطلة لقصة الحب. وتمتلئ مشاعره بالرغبة في حمايتها ومنحها كل الحنان ويتمنى أن يمتلك الارادة التي يكسب بها كل ما يوفر له ولها حياة مثالية تملأ النفس بالطمأنينة، وهذا ما نسميه نحن بالناحية النبيلة في الحب.
ومن أجل أن يحقق المراهق لنفسه حياة سعيدة، فهو يلتفت إلى العالم المحيط به ويحاولإنجاز بعض من الأعمال التي توفر له دخلاً، بل إنه في مثل هذا العمر يبدأ في استكشاف آفاق المستقبل وماذا يريد أن يكون. إنه يتساءل عن العلوم المختلفة، والمهن المختلفة التي يمكن أن تساعد الانسانية كلها.
إن هذه الروح المثالية كان لها جذور خشنة وغير ناضجة عندما كان المراهق في الثامنة من العمر، أما الآن وهو في قلب مرحلة المراهقة فهو يعمق من روحه المثالية، ويبحث عملياً عن مجالات الهوايات والقراءات والأبحاث التي تؤهله للمزيد من النضج والإنتاج والابتكار.
إن الشباب في عامه الخامس عشر لا يحلم فقط بأن يكون انساناً منتجاً، بل هو يحاول ذلك ويتمنى في قرارة نفسه أن يحقق في عامه العشرين قدرة من الاستقلال الاقتصادي عن أسرته. وكثير من الأعمال الروائية العالمية العظيمة، وكذلك المؤلفات الموسيقية واللوحات الفنية والاكتشافات العلمية، قد تم إنجازها في المرحلة الزمنية الواقعة بين المراهقة والنضج.
هكذا يفكر الكائن البشري في استكمال حياته العاطفية، إنه يفكر بالجمال وبالإبداع والاختيار والنمو والإنجاز. ويحرك كل ذلك ما نسميه الدخول إلى عالم الحب. إن الإنسان ينجذب نفسياً قبل الانجذاب الجسدي، بينما الحيوان ينجذب إلى أي عضو من الجنس الآخر من نفس فصيلته لمجرد حلول موسم التزاوج. والانسان يتميز عن الحيوان بأنه يألف شريك تجربته العاطفية من الجنس الآخر. إن هناك المشاعر والأحاسيس والروابط العميقة التي تجعل الانسان مستمراً لسنوات في الارتباط العميق مع شريك حياته من الجنس الآخر.
لكن ماذا عن الحب الأول؟
إن المشاعر تجعل الشاب في عامه الخامس يفكر بعاطفة جياشة في محبوبته، وكذلك الفتاة تفكر بعاطفة فوارة في حبيبها.
إن كلاً منهما يحلم لساعات طويلة بكلمات خيالية ومناقشات عن الحب والجمال والإخلاص والمستقبل. ويرى الشاب فتاته أجمل نساء الأرض وأكثر حناناً من الملائكة، وهي رقيقة كأنها مصنوعة من أوراق الورد. وآه من أي شيء يثير ألمها، وآه من أي خلاف حول أبسط الأشياء: إنه يولد الإحباط. وآه من أي تأخير منها أو غيابها، وآه من كمية الآلات الحادة إن أظهرت الفتاة أي اهتمام بشاب آخر.
وينقلب كل هذا الألم إلى عميق الفرح الغامر إذا انجلت تلك الأخطاء وإذا تمت إزالة سوء التفاهم، فالسعادة لا حدود لها. وإذا اقترب ميعاد رؤيتها، فالسرور مع دقات القلب الفرحان يملآن النفس، والخيالات لا تنتهي من تحت جفون الشاب. إنه يحلم بكوارث غير عادية تمر بحبيته، ويتقدم لإنقاذها ويحرز ـ في خياله طبعاً ـ شهرة لا حدود له، وتقف أمامه كاميرات التليفزيون لتصور هذا الانسان النادر الوفاء.
والمسألة نفسها تصح بالنسبة للفتاة في عامها الخامس عشر، فهي تمر بمثل هذه الخيالات الرومانسية ونوبات الغضب ونوبات الفرح.
لكن ما الذي يجعل الشاب يختار فتاة معينة من بين عشرات الفتيات ويقول لنفسه: (هذه هي التي أحبها)؟
وما الذي يجعل الفتاة تختار شاباً معيناً من بين عشرات الشباب وتقول لنفسها: (هذا هو الذي أحبه)؟
لقد غاض المحللون والأخصائيون النفسيون في أعماق البحار المظلمة للشباب والفتيات، وقرروا أن ما يحدث من اختيار سببه بعض الصفات المشتركة في المظهر الخارجي بين الشاب الذي تختاره الفتاة وبين والدها. وما يحدث من اختيار عند الشاب لفتة معينة هو جزء من الصفات المشتركة في المظهر الخارجي بين أمه وبين هذه الفتاة. إن هذا هو الدافع الذي يجعل الشاب يقول لفتاة ما: (أنت مَن كنت أبحث عنها)، وهذا ما يجعل الفتاة تهمس لنفسها: (هذا هو مَن كنت أبحث عنه). إن مشاعر الحب النائمة في أعماق الشاب أو الفتاة تستيقظ. لقد أحب الشاب أمه أثناء طفولته حباً لا حدود له، لذلك فهو يختار مَن تشبهها ولو بالمظهر، كفتاة أحلام، بينما يسلك هو كسلوك أبيه الذي رآه أعظم رجال العالم أثناء الطفولة.
والفتاة تسلك كسلوك أمها لأنها أثناء الطفولة رأت هذه الأم كأعظم امرأة في العالم، وتختار الفتاة لنفسها حبيباً فيه بعض من سمات والدها لأنه أعظم رجل في العالم. هذا الذي رأته في طفولتها.
إذن ليست الغدد التي تنمو هي الدافع الأول في الانسان لعلاقته بالجنس الآخر، ولكن الصورة الأولى يشكلها عن والديه هي التي تعبر عن نفسها بشكل آخر لحظة اختيار شريك للعمر أو بطل لقصة الحب.