د.سعود بن عبد العزيز الشبيلي

يهدف هذا المقال - ضمن سلسلة مقالات - إلى تحليل أسرار التميز الياباني التي ساهمت في تحقيق معجزة اقتصادية بكل المقاييس بعد الحرب العالمية الثانية، بناءً على تجربة شخصية خلال مشواري التعليمي والعملي في اليابان.
وقد أرجع معظم المحللين الاقتصاديين المعجزة اليابانية إلى العوامل الأربعة التالية:
* التعاون الثلاثي الوثيق بين الحكومة والقطاع الخاص ومراكز الأبحاث الجامعية.
* الجهد الجبار الذي بذله رواد الصناعة السبعة الأوائل مثل السيد تويوتا والسيد هوندا.
* الدور الحيوي الذي لعبته الشركات التجارية التسع الكبرى مثل ميتسوبيشي وسوموتومو.
* استيراد مواد خام رخيصة وتحويلها إلى منتجات نهائية عالية القيمة والجودة للتصدير.
إلا أن المحللين قلما تطرقوا إلى عاملٍ خفي ساهم بشكل مباشر في تحقيق المعجزة الاقتصادية اليابانية يتمثل في الاستخدام الأمثل لرأس المال البشري بقطاع الأعمال في بلدٍ يخلو تماماً من الموارد الطبيعية عدا المياه.
بدءا من خمسينيات القرن الماضي، درج قطاع الأعمال الياباني على تجنيد وتأهيل عشرات الملايين من العاملين في المصانع والموظفين بالمكاتب الذين دفعوا ثمناً غالياً من وقتهم وجهدهم ـ كجنود مجهولين ـ لانتشال بلدهم من دمار الحرب في ظل بيئة عمل مستقرة وفرتها شركاتهم.
وتعتبر الموارد البشرية العنصر الأهم في بنية الشركات اليابانية ونموها وقدرتها التنافسية، لذلك تولي اهتماماً بالغاً لعملية اختيار وتدريب موظفيها الجدد ليس لسد حاجات آنية، ولكن بناءً على خطط توظيف مستقبلية.
لذلك طورت الشركات اليابانية نظام التوظيف مدى الحياة (Life Employment System)، حيث يقضي الموظف طوال سنوات عمره العملية في شركة واحدة ليصبح هذا النظام تقليداً اقتصادياً واجتماعياً راسخاً فيما بعد.
ولا شك أن سياسة العمالة المستقرة لها صلة بمعطيات موضوعية ناتجة عن عدم الإحساس بالأمن القومي لخلو اليابان من الموارد الطبيعية وكثرة الزلازل والبراكين في جزر جبلية لا تتعدى مساحتها سدس أراضي المملكة.
يضاف إلى ذلك، قنبلتان نوويتان وهزيمة موجعة في الحرب العالمية الثانية جعلت المجتمع الياباني يعيد ترتيب أولوياته ويتواضع عن كبريائه ويسخِّر جلَّ طاقاته لتحويل الهزيمة إلى قوة دفع للحاق بركب الدول الغربية اقتصادياً وتقنياً من خلال الاستثمار المكثف في الموارد البشرية.
ونظراً لعدم وجود سوق عمالة ماهرة حينها في اليابان، كان لزاماً على الشركات أن تحرص على استقطاب وتدريب خريجي الجامعات المتميزة مثل واسيدا، وطوكيو وذلك لقدرتهم على تكوين علاقات عمل ناجحة مع من سبقوهم والذين غالباً ما يشغلون مناصب قيادية في القطاعين العام والخاص في ظاهرة اجتماعية تُسمى (سنباي كوهاي كانكي) ومعناها أنه يجب على الكبير مساعدة الأصغر خصوصاً إذا كان يجمعهم رابط مثل الجامعة أو القرية.
حال اختيار الموظفين الجدد، تشرع الشركات اليابانية فوراً في إخضاع كل موظف لسلسلة من برامج تدريب مستمرة على رأس العمل بإشراف مباشر من الكوادر الأكثر خبرةً مع تدويره على جميع الأقسام حتى يُلّم بمهام الشركة مما يعزز إيمانه برسالتها وولاءه لها.
وبما أن الشركة تتحمل تبعات التأهيل دون استفادة حقيقية من المستجدين لعدة سنوات، فإنها حريصة على الاحتفاظ بموظفيها حتى سن التقاعد، لذلك ابتدعت الشركات اليابانية أنظمة حصرية للتدريب والترقيات والتقاعد، ليس من السهل على الموظف التضحية بها والالتحاق من جديد بشركة أخرى تعطي جل اهتمامها لموظفيها القدامى.
طبعاً، هناك قيود اجتماعية وراء حرص الشركات على الاحتفاظ بموظفيها والاهتمام بأدق شؤونهم العملية والخاصة، حيث إن صورتها الذهنية لدى الرأي العام تعتمد على موقفها من العاملين فيها، فأكثر الشركات نجاحاً في اليابان ليست الأكثر نمواً وأرباحاً، بل الأكثر قدرةً على توفير الاستقرار الوظيفي لكوادرها ومعاملتهم كشركاء.
وفي الحالات النادرة التي تضطر فيها شركة التخلي عن أحد موظفيها، فإنها غالباً ما تلجأ إلى وسائل أخرى غير الفصل خوفاً على سمعتها في مجتمع المعلومات الياباني، كأن تكتفي بعدم تكليفه بأي أعمال جديدة لعدة أيام مما يجعل موقفه حرجاً أمام زملائه أو أن تعيَّن موظف أصغر سناً منه مديراً عليه فيستقيل طوعاً.
فالشركة التي تستغني عن موظفيها مكروهة من قِبل المجتمع الياباني، الأمر الذي يحدّ من إقبال المستهلكين على منتجاتها وخدماتها ويؤثر سلباً في عوائدها وقيمة أسهمها في السوق المالية، إضافة إلى إحجام خريجي الجامعات المتميزة عن الالتحاق بها.
الجدير ذكره أن القيود الاجتماعية والاقتصادية على الشركات المذكورة أعلاه بدأت تخف حدتها بعد بلوغ اليابان مرحلة متقدمة تقنياً واقتصادياً تقارع الدول الغربية وبدء تكوّن سوق عمالة ماهرة إضافة إلى رغبة الأجيال الجديدة في قطف ثمار ما زرعه الآباء.
وختاماً، فإن الإدارة المتميزة لرأس المال البشري ضمن بيئة عمل مستقرة كان لها ثمارها الإيجابية على العاملين وقطاع الأعمال معاً، وساهم بشكلٍ مباشر في رفع الإنتاجية والجودة وتبؤ اليابان مركزاً متقدماً بين الدول الصناعية في ظاهرةٍ جديرة باهتمام واضعي السياسات العمالية السعودية... ولأسرار التميّز الياباني بقية في طريقها للنشر.