الحياة في فلسطين صعبة. حتى حين تتوقف القنابل، يبقى الجدار البيروقراطي الذي تتنافس فيه السلطة الفلسطينية مع جدار من نوع آخر؛ هذه المرة بخرسانة إسرائيلية باردة، لتذكير المقيمين دائماً بالاحتلال الذي يشكل عبئاً ثقيلاً على كاهلهم. ومع تغلغل المقاومة في الحياة اليومية، تواجه الاحتياجات البشرية الأساسية صراعات أخرى؛ وهذا واقع يعلمه خالد السبعاوي، ابن أحد اللاجئين الفلسطينيين، جيداً؛ فالشاب البالغ من العمر 31 عاماً، والذي يدير واحدة من أكبر شركات الإنشاءات الفلسطينية، شركة الاتحاد للإعمار والاستثمار، يهدف إلى بناء المستقبل، حرفياً، في وطن أجداده.
ومن خلال الشركة التابعة (مينا جيوثيرمال- MENA Geothermal)، يعمل السبعاوي، المولود في كندا، على غرس الأراضي الخصبة بالطاقة الخضراء وإعادتها إلى أيادٍ فلسطينية من خلال مبادرة (طابو- TABO)، وهي مبادرة طموحة من شركة (الاتحاد) تسعى إلى تأمين صكوك ملكية للأشخاص الذين هم بأمس الحاجة لها. ولن يكون وصف عمل السبعاوي بالسهولة منصفاً، فالدرس الأول الذي يعطي للأطفال الأراضي المحتلة هو أن لا شيء ذو قيمة يأتي بسهولة.
بدأت رحلة السبعاوي الريادية؛ بتحدياتها وجميع ما فيها، في 2007. حيث واجه فور وصوله إلى مقر شركة (الاتحاد للإعمار والاستثمار)، التي أسسها والده محمد السبعاوي في 2005، وأدرجت في بورصة فلسطين بعائدات قدرها 2.5 مليون دولار تقريباً عام 2013، حقائق لا مفر منها أدت أولاً إلى خوض طريق الطاقة الجوفية الحرارية.
فلسطين من الأماكن التي تشهد أعلى نسب النمو السكاني في المنطقة؛ يقدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أنه بحلول 2050 سيتجاوز عدد السكان في كل كيلو متر مربع عدد سكان بنغلاديش، إلى جانب أسعار الطاقة الخيالية، إضافة إلى اعتمادها الكلي في مخزونها على الكيان الإسرائيلي: وهذا يمهد للتعرض لأزمة طاقة إن حصلت. ويقول السبعاوي: "لا يمكن أن يكون لديك عدد سكان متزايد، مع ارتفاع شديد في أسعار الطاقة وعدم توفر مصادر لها".
وبالنسبة لمؤسس ورئيس شركة (مينا جيوثيرمال)، فإن الحل هو التنمية المستدامة مدعومةً بالطاقة المتجددة. وتتخطى الحاجة للاستدامة الحدود الفلسطينية، حيث يؤكد السبعاوي الذي يعمل نائباً لرئيس مجلس الإدارة في شركة (الاتحاد للإعمار والاستثمار)، قائلاً: "تزيد كثافة طاقة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة %40 عن المعدل العالمي (إجمالي استهلاك الطاقة/ الناتج المحلي الإجمالي)".
وقد أسس السبعاوي شركة (مينا جيوثيرمال) في 2008 يدفعه في ذلك الحقائق على أرض الواقع، وظهر مع ظهور الشركة أول نظام جوفي حراري في المنطقة في المجمع السكني الفلسطيني (فلل الاتحاد). ومنذ 6 سنوات وحتى اليوم، والمؤسسة الحيوية، التي يشارك في امتلاكها السبعاوي وشركة (الاتحاد للأعمار والاستثمار) وشركة عائلته (الأهلية للتأمين)، تزود المباني السكنية والتجارية بأنظمة تدفئة، وتبريد لتوفير الاحتياجات المتزايدة للطاقة.
وهذا الأمر لا يقتصر على فلسطين وحسب، فبالإضافة إلى المشاريع التي تتضمن مقر شركة (الاتحاد)، يتوجه معظم تركيز الشركة نحو الأردن، حيث تقع شركة (مينا جيوثيرمال). وقد تم توقيع عقد مع الجامعة الأمريكية في مادبا قيمته 1.6 مليون دولار وكان بمنزلة دفعة كبيرة في المراحل المبكرة. أما المشاريع في قبرص والهند وباكستان فهي تشير إلى وعي عالمي بفضائل الطاقة الجوفية الحرارية.


وتوجد العديد من المزايا لهذا النوع من الطاقة: "معظم الطاقة المستهلكة في الشبكة الوطنية تذهب إلى المباني معظمها يستخدم للتدفئة والتبريد. وتتمتع تكنولوجيا الطاقة الجوفية الحرارية بأفضل سجل أداء وبأفضل إمكانات"، وفقاً للسبعاوي الذي يضيف ان هذا النوع من التكنولوجيا طويل الأجل ويتطلب الحد الأدنى من الصيانة. والسبعاوي الذي تخرج من جامعة (ووترلو) الكندية ليس المناصر الوحيد لهذه التكنولوجيا، فوكالة حماية البيئة الأمريكية تصف هذا النوع من الطاقة على أنه "أكثر أنظمة التكييف المتاحة اليوم كفاءة ونظافة وتوفيراً".
ويتم إنتاج الطاقة الجوفية الحرارية من خلال الاستفادة من الحرارة الموجودة تحت سطح الأرض، وتوصيلها للمباني لتزويدها بالحرارة. وفي الصيف، يتم العكس: حيث تتم تصفية الهواء الساخن عبر النظام ليذهب إلى باطن الأرض. قد تبدو هذه الطريقة بسيطة نظرياً، ولكن تنفيذها شديد التعقيد.
يقول السبعاوي: "تحتاج إلى التمتع بالمعرفة والتدريب والخبرة. فهي ليست بسيطة كاستيراد منتج من دولة أخرى، فالعديد من عوامل التصميم الهندسية تؤخذ بالحسبان". ومن هذه العوامل درجة حرارة الأرض والموصلية والامتصاص.
ويشكل توفير التكاليف تحدياً أمام التنفيذ؛ فبالنسبة للمؤسس يتعلق الأمر بمضاعفة الكفاءة وتقليل التكلفة ليتمكن المقيمون من تحملها. وحساب التكلفة ليس أمراً سهلاً، فيقول السبعاوي، الذي يحمل لقب أول مهندس طاقة جوفية حرارية معتمد في منطقة الشرق الأوسط: "يعتمد الأمر كلياً على حجم الوحدة". ويعطي مثالاً على ذلك: "لنقل أن النظام التقليدي يكلف 10 آلاف دولار، بينما يكلف النظام الحراري 20 ألف دولار"، وهذا ضعف التكلفة، ولكن وفقاً للمؤسس فإن المستخدم النهائي سيوفر حوالي %70 أو 2000 دولار سنوياً من فواتير الطاقة، كما أنه سيسدد قيمة الاستثمار الإضافي خلال 5 سنوات فقط. ويقول: "يجب أن ينظر لنظام الطاقة الجوفي الحراري على أنه استثمار". ومن الأمور الأخرى التي تشكل صعوبة في التنفيذ هو تغيير السلوكيات، ففي أمريكا الشمالية استغرق تقديم الطاقة الحرارية قبل 25 سنة وقتاً قبل أن يعتاد عليها الناس. ويقول السبعاوي ضاحكاً: "كان يقال إن العميل العادي للأنظمة الجوفية الحرارية يحمل شهادة الماجستير، وهذا يجعل الأمر أكثر تحدياً". ولكن الأمر يتخطى مجرد ذلك؛ فبالإضافة إلى قائمة التحديات التي تتضمن نقص الخبرة والتدريب ورأس المال البشري والوعي، يتم تجاهل المشكلة الفلسطينية تماماً.
ويوضح السبعاوي ذلك قائلاً: "هناك العديد من التحديات الاستثنائية التي واجهتها كرائد أعمال، والتي هي نتاج البيئة السياسية والاقتصادية". ومن بين هذه التحديات منعه من دخول الضفة الغربية، والتمييز العرقي، ومنافسة اقتصاد الدول المانحة. ويؤكد قائلاً: "إنها ليست بيئة مواتية للاستثمار أو الاستقرار أو النمو الاقتصادي".
ففي بيئة كتلك، قد يعمد العديد من رواد الأعمال إلى الرحيل ونسيان أفكارهم حول الطاقة الجوفية الحرارية، ولن يفكروا بإنشاء مشروع طموح في دولة محتلة منذ أكثر من 60 عاماً؛ لكن خالد السبعاوي يختلف عنهم. إذ يقول: "كان والداي لاجئين، وتمكنا من الذهاب إلى كندا على خلاف ما كان شائعاً. وقد تربينا على أننا محظوظون لوجودنا في واحدة من أكثر مجتمعات العالم تقدماً، وإن لم نعد لتقديم المساعدة، فمن سيفعل ذلك؟".
وكانت مبادرة (طابو) قيد التنفيذ عندما كان السبعاوي يفتتح شركة (مينا جيوثيرمال) ليحول بذلك المسؤولية إلى فعل. واليوم، ومن خلال مشروع شركة (الاتحاد) الذي سمي تيمناً بالكلمة العثمانية التي تعني "صك ملكية"، قد لا يتمكن المتعهد من نقل الفلسطينيين إلى فلسطين من خلال مشروع شركة (الاتحاد للإعمار والاستثمار)، ولكنه سيأخذ فلسطين إليهم قطعة قطعة.
علاوة على ذلك، إن كان افتتاح شركة متخصصة في الطاقة الجوفية الحرارية في المنطقة صعباً، فإن تسليم الفلسطينيين أراضي كان أقرب إلى المستحيل. فأسعار الأرض في رام الله خيالية تصل إلى أكثر من مليون دولار مقابل ربع فدان، في حين تمثل الأراضي في القرى المجاورة مشكلة أخرى: فأغلب السكان لا يملكون إثبات ملكية. ويقول السبعاوي مفسراً: "لم يكن باستطاعتك شراء أرض داخل المدينة لأنها باهظة الثمن، ولا شراء أرض خارجها لأنه لا يوجد صك ملكية؛ كان من الواضح أن علينا التدخل وتلبية الطلب".


وتلبية الطلب لا تعني التدخل، وحسب بل الانغماس في العمل والشروع بتنفيذ عملية معقدة لدرجة أن السلطة الفلسطينية فشلت في استيعابها؛ حتى ظهر السبعاوي مع مخططاته. ويقول رائد الأعمال: "عندما التقيت وزير الحكم المحلي وكشفت عن المخطط لإنشاء صك ملكية، نظر اليه بدهشة". ومن وجهة نظر السلطات فإن العملية غاية في التعقيد.
بعد تحديد الأراضي المعروضة للبيع من الفلسطينيين الذين يملكون وثائق وراثة، ولكن لا يملكون أي أوراق رسمية، يبدأ السبعاوي بالحصول على موافقات من أفراد العائلات المعنيين قبل أن يرسم حدود الأراضي بطريقة أكثر دقة من الأسلوب التقليدي المتبع وهو من "شجرة الزيتون هذه إلى تلك". ويقول السبعاوي: "علينا المرور بكل زاوية من الأرض باستخدام جهاز (جي بي إس- GPS)، وبوجود رئيس المجلس القروي، وجميع الجيران". وينبغي على جميع الجيران التوقيع لتأكيد الحدود الفاصلة قبل عرض الخطة وتلقي الاحتجاجات. ولكن هذه مجرد البداية؛ حيث تأتي بعد ذلك العملية الشاقة لاجتياز ما يصفه السبعاوي على أنه "شبكة ضخمة جداً من إجراءات السلطة الفلسطينية البيروقراطية".
ورغم أن ابتكار خطط رئيسية وبنية تحتية عامة، إذ تطور (طابو) طرق الربط الضرورية أيضاً؛ عبارة عن مشاريع صعبة، ينبع التحدي الأكبر الذي يواجه السبعاوي من مصدر غير متوقع، حيث يقول: "لم يأتِ التحدي من إسرائيل، بل من السلطة الفلسطينية". فوفقاً لرئيس مبادرة (طابو)، يعد الفساد واللامبالاة وعدم الكفاءة من بين العديد من العيوب المتغلغلة في السلطة الفلسطينية على جميع المستويات.

ولكن طالما هناك عزيمة، وصك ملكية، هناك حل. فمع مرور 3 سنوات وحتى الآن منذ تأسيس مبادرة (طابو)، تمكنت 250 عائلة، في فلسطين وفي الشتات، من امتلاك 371 قطعة أرض. وجدير بالذكر أن %30 من مبيعات (طابو) تمت من قبل الفلسطينيين في المهجر. وتقل تكلفة هذه الأراضي بكثير عن سعر الأراضي المجاورة البالغ مليون دولار، حيث تعرض المبادرة قطع أراضي تتراوح أسعارها بين 13.9 ألف دولار، و32 ألف دولار، بدفعات معفية من الفائدة تمولها الشركة لمدة تصل إلى 4 سنوات.
ويعد علاء الدين العطري، نائب رئيس وعضو مجلس إدارة مجموعة (الحجيلان القابضة) في السعودية، واحداً من العملاء الراضين. فكونه من الفلسطينيين الذين يعيشون في الشتات، استثمر العطري في 5 قطع أرضٍ من خلال مبادرة (طابو) وهو يملك حالياً صكوك ملكية قطعتين. وقد أثارت المبادرة إعجاب العطري عند لقائه السبعاوي في الرياض.
ويقول العطري: "خالد والشركة على مستوى مهني عالٍ: الفكرة، طريقة تعاملهم، التزامهم بوعودهم. وتعد المشاريع التي تخوضها الشركة جاذبة للمستثمرين، فهم يوفرون لنا كل التسهيلات لضمان أن استثماراتنا آمنة، وأن أغلب المخاطر قد تمت إزالتها". والعطري معجب أيضاً بانخراط السبعاوي شخصياً في العمل، ويقول: "أحب الطريقة التي يرعى بها عملاءه فهذا يمنح الشركة مصداقية عالية". وبالنسبة للعطري وغيره، لم تبدأ عملية البناء بعد على أراضيهم الجديدة. ولكنه في نهاية المطاف سيبدأ، حيث يقول السبعاوي: "أولاً، نتيح للناس امتلاك أراضٍ، ومن ثم يمكنهم إنشاء المبنى المناسب لميزانيتهم"، فالهدف من المشروع هو المساعدة في إنشاء مجتمعات فلسطينية قبل أن تبني إسرائيل مستوطناتها.
ومن الناحية النظرية، لا يمكن المساس بهذه الأراضي؛ فبعد اتفاقية (أوسلو)، تم تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى 3 مناطق: (A)، و(B) و(C)، وتقع الأخيرة فقط تحت سيطرة إسرائيل المباشرة. ويقتصر عمل السبعاوي على المنطقة (A) وهي تقع تحت إدارة السلطة الفلسطينية بشكل رسمي، ولكنه لا يترك أي مجال للمصادفة، حيث يقول: "إذا أرادت إسرائيل التحايل على الاتفاق فستسعى إلى الحصول على الأراضي التي لا يوجد لها صكوك ملكية، ولكن بمجرد امتلاكك دليلاً يثبت ملكيتك لأرضك فسيكون من الصعب على أي أحد الاستيلاء عليها".
ويسعى السبعاوي لإبقاء الوضع على هذا النحو، أي أن يحمي الأرض الفلسطينية بالأوراق التي تثبت ذلك. ومع عرضه لخطط رئيسية جديدة، تهدف مهمته الجديدة إلى ضم مجتمعاته الناشئة إلى الشبكة، وقد يكون إتمام العملية بالطاقة الجوفية الحرارية أمراً بعيداً، ولكن بناء المستقبل يتطلب وقتاً. ولايزال توقيع صكوك الملكية مستمراً في أرجاء فلسطين لخلق أثر لا يمحى.

المصدر: مجلة فوربس