يبدو العالم للناظر إليه من الخارج منقسمًا إلى عالمين: جنوب يعيش نهضة تتجلى مظاهرها في الصين والهند، حيث التقدم في التنمية البشرية والنمو القوي وآفاق مشجعة للحد من الفقر، وشمال يعيش أزمة حيث اللجوء إلى سياسات التقشف، وغياب النمو الاقتصادي يسبب ضائقة على ملايين العاطلين عن العمل والمحرومين من الفوائد بسبب الضغوط الجسيمة الذي يفرضها هذا الوضع، وقد تتجلى هذه الأزمات في دول أمريكا وأوروبا.
وجاء تقرير التنمية البشرية لعام 2013م والذي يصدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي داعمًا للنهضة التي تعيشها دول الجنوب، حيث حققت بلدان عديدة من الجنوب في الأعوام الماضية تقدمًا شاملاً في التنمية البشرية في تطور يبعث على الأمل، أهّل تلك البلدان لدخول الساحة العالمية في ظاهرة تستحق تسمية «نهضة الجنوب». وإذ تتعالى من الجنوب أصوات تطالب بأطر للحكم الدولي تتأسس على مبادئ الديمقراطية والمساواة والتمثيل الشامل للجميع، يشهد العالم مزيدًا من التنوع في الصوت وفي النفوذ يخالف المبادئ التي استرشد بها صانعو السياسات، وبُنيت عليها المؤسسات في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي خطوة هامة أيضًا، تُعيد بلدان نامية كثيرة النظر في مفاهيم تحقيق التنمية البشرية. فنهضة الجنوب لم تكن نتيجة للتمسك بمجموعة جاهزة من وصفات السياسات العامة، بل نتيجة لوضع سياسات عملية انطلاقًا من الظروف والفرص المحلية، سياسات هي وليدة الاقتناع بضرورة تفعيل دور الدولة في التنمية، والإصرار على النهوض بالتنمية البشرية، ودعم التعليم والرعاية الاجتماعية، والانفتاح على التجارة والابتكار. ولتحقيق التقدم في المستقبل سيكون على صانعي السياسات توجيه الاهتمام اللازم لقضايا المساواة، والاستماع إلى صوت الجميع والمساءلة، ومعالجة المخاطر البيئية ومواكبة التغيرات الديمغرافية.
وعلى مدى العقود الماضية سجلت بلدان من مختلف أنحاء العالم تقاربًا في مستويات التنمية البشرية، حسبما يظهره دليل التنمية البشرية، وهو مقياس مركب يضم مؤشرات موزعة على ثلاثة أبعاد هي: طول العمر ومستوى التحصيل العلمي والقدرة على التحكم بالموارد من أجل عيش حياة لائقة وكريمة. وقد سجلت مختلف مجموعات البلدان والمناطق تحسنًا في جميع عناصر دليل التنمية البشرية، وجرى التقدم بسرعة لافتة في البلدان ذات التنمية البشرية المتوسطة والبلدان ذات التنمية البشرية المنخفضة. ومع هذا التقدم يمكن القول إن العالم يتجه أكثر فأكثر نحو تحقيق المساواة، غير أن فوارق كبيرة في تجربة التنمية البشرية تستتر وراء المتوسطات المسجلة، إذ بقيت التباينات كبيرة ضمن البلد الواحد سواء أكان في بلدان الشمال أم في بلدان الجنوب، واتسعت الفوارق في الدخل داخل البلدان وفيما بينها.
مع أن معظم البلدان النامية أبلت بلاءًً حسنًا، سجلت بلدان عديدة أداءً مميزًا يليق بتعبير «نهضة الجنوب». وإذا كان التقدم السريع قد تركز في بعض البلدان الكبرى مثل إندونيسيا والبرازيل وتركيا وجنوب إفريقيا، والصين والهند، فهذا لا ينفي حدوث تقدم ملحوظ أيضًا في بلدان أصغر حجمًا، مثل بنغلاديش وتونس ورواندا وشيلي وغانا وموريشيوس.
ونهضة الجنوب حدثت بسرعة وعلى نطاق لم يسبق لهما مثيل. فالازدهار الاقتصادي في الصين والهند مثلاً، بدأ في بلدين يبلغ عدد سكان كل منهما مليار نسمة، وفي أقل من ثلاثين عامًا تمكن البلدان من مضاعفة نصيب الفرد من الإنتاج، وكان لهذه القوة الاقتصادية أثر على عدد من السكان يفوق بكثير دائرة تأثير الثورة الصناعية. وبحلول عام 2050م، من المتوقع أن يبلغ مجموع الإنتاج في البرازيل والصين والهند فقط نسبة 40 في المائة من الإنتاج العالمي بمعادل القوة الشرائية.
وفي زمن عدم اليقين، تقود بلدان الجنوب النمو الاقتصادي العالمي، وتسهم في نهوض الاقتصاد في بلدان نامية أخرى، وفي الحد من الفقر، وفي زيادة الثروة. غير أن هذه البلدان لا تزال تواجه تحديات كبيرة، وهي موطن للكثير من فقراء العالم. وقد أثبتت قدرتها على الاستفادة من العولمة، واعتماد سياسات عملية، فاستطاعت بتوجيه الاهتمام نحو التنمية البشرية أن تطلق الفرص الكامنة في اقتصاداتها.
عالم يتغير: الجنوب في قلب العالم
يبدو العالم للناظر إليه من الخارج منقسمًا إلى عالمين: جنوب يعيش زمن نهضة، تتجلى مظاهرها في الصين والهند حيث التقدم في التنمية البشرية والنمو القوي وآفاق مشجعة للحد من الفقر؛ وشمال يعيش زمن أزمة، حيث اللجوء إلى سياسات التقشف، وغياب النمو الاقتصادي يسبب ضائقة على ملايين العاطلين عن العمل والمحرومين من الفوائد بسبب الضغوط الجسيمة التي يفرضها هذا الوضع على العقود الاجتماعية.
وفي العالم اليوم العديد من المشاكل المتأصلة التي لا تميز بين بلدان الجنوب وبلدان الشمال، وأهمها اتساع الفوارق في الكثير من البلدان المتقدمة منها والنامية، وهذه المشاكل تهدد بإعاقة النهوض الشامل وبتقويض استدامة التقدم في المستقبل، وتضعف جهود الحد من الفقر، وتطرح تحديات كبيرة على صعيد البيئة.
وتقرير التنمية البشرية لعام 2013م، إذ يركز على نهضة الجنوب وتأثيرها على التنمية البشرية، يتناول أيضًا التغير الذي يشهده العالم، ومعظمه نتيجة لهذه النهضة. ويتطرق التقرير إلى الإنجازات المحققة والتحديات الناشئة، وبعضها نتيجة لهذا النجاح، وما يتيحه من فرص لبناء نظام للحكم العالمي والإقليمي يمثل الجميع.
وقصة نهضة الجنوب قصة تحمل على الأمل، وتدعو إلى الحذر في آن. فبلدان الجنوب لا تستغني عن بلدان الشمال، والعكس صحيح أيضًا، ولاسيما في ظل الترابط المتزايد بين مختلف أنحاء العالم. وقد شهدت الأعوام الماضية، توجهًا جديدًا في الإنتاج العالمي، مع زيادة الإنتاج المخصص للتجارة الدولية، وبلغت نسبته في عام 2011م حوالي 60 في المائة من مجموع الإنتاج العالمي. وكان للبلدان النامية في ذلك دور هام بين عامي 1980 و2010م إذ عمدت إلى زيادة حصتها من المبادلات التجارية بالبضائع من 25 إلى 47 في المائة، وحصتها من الإنتاج العالمي من 33 إلى 45 في المائة. وتعمل البلدان النامية على توثيق العلاقات فيما بينها. وبين عامي 1980 و2011م ازدادت نسبة المبادلات التجارية بالبضائع بين بلدان الجنوب من 8 إلى 26 في المائة من مجموع المبادلات العالمية.
غير أن اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية يبقى أكبر اقتصاد في العالم، وسيبقى كذلك في المستقبل القريب من حيث حجم الكتلة النقدية. وإذا تعثر انتعاش اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تتمكن أوروبا من النهوض من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، فلن ينجو العالم النامي من آثار هذا التعثر. وتتطلب التحديات التي يواجهها العالم، ومنها تغير المناخ وإجهاد النظم الإيكولوجية، مزيدًا من التعاون بين البلدان. ومع أن نهضة الجنوب تعيد تشكيل علاقات القوة على أكثر من صعيد، فلن يكون من السهل حماية المكاسب التي تحققت نتيجة لجهود مضنية، ما دام التعاون متأخرًا واتخاذ القرارات الصعبة مؤجلاً.
وفي الواقع ما قد يدفع إلى المضي إلى أبعد من ذلك، إلى حيث القول إن في الشمال جزءًا من الجنوب وفي الجنوب جزءًا من الشمال. فالنخب سواء أكانت من الشمال أم من الجنوب هي اليوم نُخب عالمية تربط بينها علاقات وثيقة، وقد استفادت من توليد الثروات الضخمة على مدى العقد الماضي، بفعل عوامل منها تسارع العولمة، وحصّلت العلم في الجامعات نفسها، وتعيش أسلوب الحياة نفسه، وربما تتشارك القيم نفسها.
ويضع تغير الاقتصاد العالمي في متناول التقدم في التنمية البشرية فرصًا ويضعه أمام تحديات لم يسبق لها مثيل. فالهياكل الاقتصادية والسياسية العالمية في حالة تغير، بينما يواجه العالم مزيدًا من الأزمات المالية المتتالية وتغير المناخ والاضطراب الاجتماعي. وتبدو المؤسسات العالمية عاجزة عن التكيف مع تغير موازين النفوذ، وتقديم الحلول العالمية العامة لمواجهة التحديات الإقليمية والعالمية، والاستجابة لضرورة تحقيق المساواة والاستدامة.
وفي هذه الظاهرة، مع المسارات الإنمائية المتنوعة التي اتبعتها بلدان الجنوب، فرصة لإعادة النظر، فالمبادئ التي بُنيت عليها المؤسسات واسترشد بها صانعو السياسات في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، باتت تحتاج إلى تعديل، لا بل إلى إعادة بناء، وذلك بهدف استيعاب التنوع في الأصوات ومصادر النفوذ، وإدامة التقدم في التنمية البشرية على المدى البعيد. وهذه المبادئ تتطلب إعادة نظر، والمؤسسات العالمية تحتاج إلى المزيد من المرونة لإرساء اتجاهات تضع الإنسان في صدارة الاهتمامات، وتسعى إلى بناء عالم تسوده العدالة والمساواة. وفي ظل تنوع المسارات الإنمائية يتسع المجال للحوار، ويزداد الطلب عليه وعلى عملية إعادة هيكلة المؤسسات العالمية. وفي متناول العالم اليوم فرصة لابتكار أطر عالمية وإقليمية ووطنية للحكم قوامها مبادئ الديمقراطية والمساواة والاستدامة.
وتسهم مسارات التنمية في البرازيل والصين والهند وكذلك في بلدان لم تعرف المستوى نفسه من النجاح مثل بنغلاديش وتركيا وموريشيوس، في إعادة صياغة الأفكار حول كيفية تحقيق التنمية البشرية. فنجاح هذه البلدان يدعو إلى إعادة النظر في مفهوم السياسات «الصحيحة»، ولكنه يحمل أيضًا دروسًا قيمة يمكن استقاؤها من تجربة البلدان الناجحة. ومن المسارات الإنمائية المتنوعة يمكن استخلاص بعض المحركات والمبادئ الرئيسية، كتعميق دور الدولة في التنمية، وبذل جهود من أجل التنمية البشرية والرعاية الاجتماعية، والانفتاح على التجارة والابتكار. وبينما يتضمن التقرير إقرارًا بالآثار الإيجابية لنهضة الجنوب، يؤكد أيضًا على ضرورة تكريس الاستدامة والمساواة في السياسات والاستراتيجيات الإنمائية للمستقبل. وقد شدد تقرير التنمية البشرية لعام 2011م على أن استمرار التقدم في التنمية سيكون صعبًا ما لم تُدرج شروط المساواة ومعالجة التدهور البيئي في مناقشات السياسة العامة. وفي أسوأ الأحوال، قد يؤدي الاستمرار في النسق الذي درج عليه المسار الإنمائي في ظل الأزمات البيئية إلى تبديد المكاسب التي حققتها بلدان الجنوب في التنمية البشرية أو إلى تعثر استدامتها.
والقلق بشأن المستقبل لا يقتصر على الجنوب فحسب بل يشغل الشمال أيضًا، حيث انخفاض النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، واللجوء إلى تدابير التقشف، تنذر بإضعاف القدرة على المضي في مستويات التنمية البشرية المرتفعة. ولم يعد بوسع النخب الحاكمة سواء أكان في بلدان الجنوب أم في بلدان الشمال تجاهل هذه المخاطر التي تهدد الرفاه الاجتماعي، في ظل ارتفاع أصوات المواطنين والمجتمعات المحلية ومنظمات المجتمع المدني في الداخل وفي الخارج وعبر شبكات التواصل الاجتماعي مطالبة بالعدالة والمساءلة.
ولمعالجة هذه الوقائع الحالية والطارئة على العالم بأبحاث وافية وسياسات صائبة، لابد من اتخاذ تدابير وإجراء تحاليل تؤدي إلى توسيع مفهوم التنمية البشرية. وتقرير التنمية البشرية بمجموعة الأدلة التي يتضمنها يجب أن يواجه الواقع الجديد، فلا يتوقف فقط عند قياس إمكانات الأفراد، بل يذهب إلى أبعد من ذلك نحو قياس الإمكانات والمشاغل والمواقف على مستوى المجتمع ككل. فالإنجازات الفردية في الصحة والتعليم والدخل على أهميتها لن تضمن التقدم في التنمية البشرية إذا أعاقت الظروف الاجتماعية إنجازات الأفراد، واختلفت المواقف بشأن التقدم. وما تشهده الدول العربية من اضطرابات هو تذكير بأن الشعوب، ولاسيما الشباب الذين يفوقون الأجيال السابقة في التحصيل العلمي والوضع الصحي، باتوا الآن يصرون على أن يكون لهم فرص للعمل الكريم، وصوت في الشؤون التي تؤثر على حياتهم، ومعاملة لائقة ملؤها الاحترام في مجتمعاتهم.
وترتكز فكرة التماسك الاجتماعي والاندماج الاجتماعي التي هي هدف معلن في استراتيجيات التنمية في بلدان مثل البرازيل، على وقائع كثيرة تدل على ما يمكن أن يحققه المجتمع المتماسك في التنمية البشرية. والمجتمعات التي تنعم بالمساواة تفوق المجتمعات التي تعاني من عدم المساواة في أدائها في جميع مقاييس التنمية البشرية، من معدلات حمل المراهقات إلى معدلات الانتحار. وهذه النتيجة هي خلاصة دراسات أجريت على بلدان متقدمة وبلدان نامية. وهذه الأوجه الإنمائية التي تعني المجتمع بأسره لم تنل حقها من الاهتمام في المسارات الإنمائية السابقة، ولكنها عناصر أساسية لاستمرار أي مسار إنمائي ونجاحه على المدى الطويل.
مساعدة بلدان أخرى للحاق
بركب التقدم
لم تعم نهضة الجنوب بعد جميع البلدان النامية، فبعض البلدان لا تزال خارج إطار المشاركة الكاملة فيها. فقد بقيت حركة التغيير بطيئة في ما لا يقل عن 49 بلدًا من أقل البلدان نموًا، ولاسيما في البلدان غير الساحلية أو البعيدة عن الأسواق العالمية. غير أن بلدانًا كثيرة بدأت تستفيد من حركة التجارة والاستثمار ورأس المال ونقل التكنولوجيا بين بلدان الجنوب. وتسربت آثار النمو الإيجابية، مثلاً، من الصين إلى بلدان أخرى، ولاسيما البلدان الشريكة في التجارة، فعوضت بعض الشيء عن ضعف الطلب من البلدان المتقدمة. وتشير التقديرات إلى أن النمو في البلدان المنخفضة الدخل لم يكن ليسجل المعدل نفسه في الفترة 2007 -2010م، بل أقل بحوالي 0٫3 إلى 1٫1 نقطة مئوية لو شهدت الصين والهند تراجعًا في النمو على غرار ما حدث في البلدان المتقدمة.
وقد استفادت بلدان كثيرة من الآثار الإيجابية التي تسربت إليها من النمو لدفع عجلة التنمية البشرية في قطاعات هامة، ولاسيما في التعليم والصحة. وتقوم شركات من الهند، مثلاً، بتأمين الأدوية والمعدات الطبية ومنتجات وخدمات معقولة لبلدان في إفريقيا. وتقوم شركات من البرازيل وجنوب إفريقيا أيضًا بدور مماثل مع بلدان أخرى.
الضغوط التنافسية متزايدة
غير أن الصادرات التي تأتي من بلدان كبيرة هي مصدر آثار سلبية أيضًا. فالبلدان الكبيرة هي مصدر ضغوط تنافسية حادة قد تؤدي إلى تقويض عملية التنوع الاقتصادي والتطوير الصناعي في البلدان الصغيرة، لكن الواقع لا يخلو من أمثلة عن انتعاش صناعي جاء على أثر منافسة شديدة تعرض لها الاقتصاد. فعلاقة المنافسة اليوم يمكن أن تتحول إلى علاقة تكامل في المستقبل. ويتوقف الانتقال من المنافسة إلى التعاون على اعتماد سياسات تمكن الجهات المحلية من جني أفضل النتائج من الوضع الجديد.
وتزداد أهمية السوق المحلية في تحريك النمو في بلدان الجنوب. ويزداد حجم الطبقة الوسطى والدخل الوسطي. وتشير التقديرات إلى أن قيمة الاستهلاك السنوي في الأسواق الناشئة ستصل إلى 30 تريليون دولار بحلول عام 2025. وفي ذلك الحين ستبلغ حصة الجنوب ثلاثة أخماس من مليار أسرة تتقاضى أكثر من 20٫000 دولار في السنة. غير أن هذا الانتعاش لن يكون شاملاً بل سيتعثر باستمرار بؤر كبيرة من الحرمان. واستمرار هذه الفوارق هو عقبة، ليس فقط أمام تعميم فوائد النمو، بل أمام استدامة التقدم، إذ توفر أرضًا خصبة للاضطراب السياسي والاجتماعي.
وتؤدي هذه الاتجاهات إلى بناء عالم أكثر توازنًا، ينعم ببيئة أكثر تداخلاً ونشاطًا، فلا يعود مركزه من البلدان الصناعية وأطرافه من البلدان الأقل نموًا.
وعلى المستوى العالمي والإقليمي، لم تعد المرحلة الانتقالية التي يمر بها العالم خفية على أحد. غير أن مهمة القادة الأكاديميين هي في صياغة مبادئ وبناء مؤسسات ووضع توصيات تضمن ثبات الخطوات المقبلة نحو عالم أكثر عدالة واستدامة، هي على ما يبدو مهمة صعبة. وقد يكون من أسباب ذلك التغير الذي يبلغ من السرعة حدًا يبدو معه كل تقييم مشترك مهمة مستحيلة وكل عمل جماعي مجرد وهم. ويتضمن تقرير التنمية البشرية لعام 2013م مساهمة في المناقشات الدائرة، إذ يقدم تقييمًا موضوعيًا للظروف العالمية الحالية، ويقترح مبادئ ومفاهيم تساعد في الانتقال بعالم متنوع نحو استراتيجيات للتنمية البشرية ترتقي إلى مستوى تحديات القرن الحادي والعشرين، وتصلح للحد من الفقر أو القضاء عليه، وتحقق تقدمًا يستفيد منه الجميع.
السياسات والشراكات والمبادئ
كيف استطاعت بلدان كثيرة في الجنوب تحويل آفاق التنمية البشرية؟ يُلاحظ أن معظم هذه البلدان التقت على ثلاثة محركات هامة للتنمية البشرية هي: الدولة الإنمائية الفاعلة، واختراق الأسواق العالمية، والابتكار في السياسة الاجتماعية. وهذه المحركات لا تستمد من تصورات نظرية حول كيفية تفعيل عملية التنمية، لكنها كانت ثمرة التحول الملموس في التجارب الإنمائية في بلدان كثيرة. والواقع أن هذه البلدان كثيرًا ما تخلت عن النهج المحددة مسبقًا وإملاءات النهج المتبعة، ونأت بنفسها عن الوصفات العمومية المفروضة من مصدر واحد، وابتعدت عن نهج رفع الضوابط المطلق الذي ينادي به مؤيدو آراء واشنطن.
المحرك الأول: الدولة الإنمائية الفاعلة
تتولى الدولة الفاعلة والمسؤولة وضع السياسات للقطاعين العام والخاص مستندة إلى رؤية ثاقبة وقيادة قوية ومعايير مشتركة، وقوانين ومؤسسات تبني الثقة والتماسك للمستقبل. ويتطلب تحقيق التحول بخطى ثابتة من الأمم العمل على وضع نهج منسق ومتوازن للتنمية. والدول التي نجحت في تحقيق نمو مطرد في الدخل وتحسن ثابت في التنمية البشرية لم تتبع الوصفة نفسها، بل وضعت سياسات مختلفة تناولت ما تواجهه من تحديات تنظيم السوق، وتشجيع الصادرات، والتنمية الصناعية، والتقدم التكنولوجي. ومن الضروري التركيز على الإنسان في تحديد الأولويات وتأمين الفرص مع الحرص على حماية الأفراد من مخاطر التراجع. فباستطاعة الحكومات أن تدعم القطاعات التي لم تكن لتنهض بدون هذا الدعم في ظل العوائق الموجودة في الأسواق. ومع أن من مخاطر هذا الاتجاه تشجيع السعي إلى الأرباح والمحاباة، فقد مكن بلدانًا عديدة في الجنوب من تحويل صناعات كانت تفتقر إلى الكفاءة إلى محركات مهدت لنهضة الاقتصاد من خلال الصادرات عندما قررت البلدان التوجه إلى مزيد من الانفتاح.
وفي المجتمعات الكبيرة والمعقدة ما من سياسة تضمن نتائج مؤكدة. لذلك، من الضروري أن تأخذ منحى عمليًا وتعمد إلى اختبار مجموعة من النهج قبل أن تقرر اتباع نهج معين. ومن النماذج البارزة في هذا السياق تركيز الدولة التي ترعى الإنسان على توسيع نطاق الخدمات الاجتماعية الأساسية. فالاستثمار في إمكانات البشر، من خلال الصحة والتعليم وغيرهما من الخدمات العامة، ليس ملحقًا بعملية النمو بل هو جزء أصيل منها. والزيادة السريعة في فرص العمل اللائق هي عنصر أساسي من عناصر النمو، لكنها أيضًا ركيزة هامة من ركائز التنمية البشرية.
المحرك الثاني: اختراق الأسواق العالمية
أدت الأسواق العالمية دورًا هامًا في حفز التقدم، فقد اعتمدت البلدان الحديثة العهد في التصنيع استراتيجية تقضي «باستيراد ما للعالم خبرة به وتصدير ما يحتاج إليه». ويبقى الأهم هو شروط التعامل مع هذه الأسواق، إذ تبقى العائدات المحققة منها محدودة ما لم يكن أساسها الاستثمار في الأفراد. فالنجاح ليس نتيجة لانفتاح مفاجئ على الأسواق، بقدر ما هو ثمرة اندماج تدريجي في الاقتصاد العالمي يجري على مراحل، ويرافقه استثمار في الأفراد والمؤسسات والبنية التحتية حسب الظروف المحلية. وقد نجحت الاقتصادات الصغيرة في التركيز على المنتجات التي تتميز بها، لكن هذا النجاح كثيرًا ما يكون ثمرة أعوام من الدعم تقدمه الدولة للكفاءات المتوفرة أو لخلق مؤهلات جديدة.
المحرك الثالث: الابتكار في السياسات الاجتماعية
قليلة هي البلدان التي تمكنت من الحفاظ على النمو السريع المطرد من غير استثمارات عامة كبيرة، ليس فقط في البنية التحتية، بل في التعليم والصحة. ويجب أن يكون الهدف خلق علاقة من التآزر بين النمو والسياسة الاجتماعية. فالبلدان التي لا تعاني من فوارق كبيرة في الدخل تستفيد من النمو بفعالية في الحد من الفقر أكثر من البلدان التي تشهد فوارق كبيرة. وتحقيق المساواة بين المجموعات الدينية والإثنية والعرقية المختلفة يسهم أيضًا في القضاء على الكثير من أسباب الصراعات الاجتماعية.
ويسهم التعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية والتمكين القانوني والتنظيم الاجتماعي في تمكين الأفراد من المشاركة في النمو. والتوازن بين القطاعات، ولاسيما الاعتناء بالقطاع الريفي، والسرعة في زيادة فرص العمل وطبيعتها، من العوامل الأساسية في تحديد مدى مساهمة النمو في توزيع الدخل. غير أن الأدوات الأساسية للسياسة الاجتماعية قد لا تنجح في تمكين المجموعات المحرومة، فينتفض الفقراء للتعبير عن همومهم، بينما لا تضمن الحكومات دائمًا وصول الخدمات إلى كل فرد. فالسياسة الاجتماعية يجب أن تكون سياسة شاملة للجميع، لأن عدم التمييز والتساوي في المعاملة من أهم عوامل الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويستلزم ذلك تأمين الخدمات الاجتماعية الأساسية للجميع لأن هذه الخدمات هي أساس للنمو الاقتصادي على المدى الطويل، إذ تؤدي إلى تكوين قوى عاملة تتمتع بالصحة الجيدة وبالتحصيل العلمي. وليس من الضروري أن يتولى القطاع العام تأمين جميع هذه الخدمات لكن مسؤولية الدولة هي ضمان حصول كل مواطن على المقومات الأساسية للتنمية البشرية.
وخطة التنمية التي تحقق التغيير هي خطة متعددة الأوجه، فهي تسهم في زيادة الأصول لصالح الفقراء من خلال زيادة الإنفاق العام على الخدمات الأساسية، وهي تحسن عمل مؤسسات الدولة والمؤسسات الاجتماعية بهدف تحقيق النمو والمساواة على حد سواء، وهي تزيل الحواجز الاجتماعية والبيروقراطية التي تعوق المشاركة في النشاط الاقتصادي والحراك الاجتماعي، وهي تضمن مساءلة القادة، ومشاركة المجتمعات في تحديد أولويات الميزانية وتعميمها.
مزيد من الزخم
لقد حققت بلدان عديدة من الجنوب نجاحًا كبيرًا. لكن هذا النجاح ليس مضمونًا في المستقبل حتى للبلدان التي حققت أفضل أداء في الماضي. فكيف لبلدان الجنوب أن تستمر في التقدم في التنمية البشرية؟ وكيف لهذا التقدم أن يشمل بلدانًا أخرى؟ وفي محاولة للإجابة، يقترح هذا التقرير أربعة مجالات للعمل هي: تحقيق المساواة، وإعلاء الصوت وضمان حق المشاركة للجميع والمساءلة، ومواجهة التحديات البيئية، ومعالجة التغيرات الديمغرافية. ويشير هذا التقرير إلى خطورة التأخر في اتخاذ إجراءات حاسمة على صعيد السياسة العامة ويدعو إلى مزيد من الطموح في السياسات المعتمدة.
مزيد من المساواة
المساواة بين المرأة والرجل وكذلك بين سائر المجموعات هي بحد ذاتها هدف هام، ولكنها أيضًا ضرورة لتحقيق مختلف أبعاد التنمية البشرية. ومن الأدوات الفاعلة لتحقيق هذه الغاية التعليم الذي يزود الأفراد بالثقة في النفس، ويتيح لهم فرص عمل أفضل، ويمكنهم من المشاركة في المناقشات العامة ومطالبة الحكومات بالرعاية الصحية، والأمن الاجتماعي وسائر الحقوق.
وللتعليم أيضًا آثار على الصحة ومعدل الوفيات. وتظهر الأبحاث التي أجريت لأغراض هذا التقرير أن تحسين تعليم المرأة أكثر أهمية لحياة الطفل من رفع دخل الأسرة. وتشير الإسقاطات إلى أن الإجراءات التي تتخذ على مستوى السياسة العامة تحدث مفعولاً أقوى في البلدان والمناطق حيث ضعف التعليم. ولعل من انعكاسات هذا الواقع على السياسة العامة، تحويل الجهود التي تبذل لرفع مستوى دخل الأسر إلى تدابير لرفع مستوى تعليم الفتيات.
ويدعو هذا التقرير إلى مزيد من الطموح في وضع السياسات، فسيناريو التقدم السريع يظهر أن بإمكان البلدان التي تحل في مرتبة منخفضة حسب دليل التنمية البشرية أن تقترب من البلدان التي تحل في مجموعة التنمية البشرية المرتفعة والمرتفعة جدًا. وبحلول عام 2050م قد يرتفع دليل التنمية البشرية بنسبة 52 في المائة في جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى (من 0٫402 إلى 0٫612) وبنسبة 36 في المائة في جنوب آسيا (من 0٫527 إلى 0٫714). وللإجراءات التي تتخذ على مستوى السياسة العامة أثر إيجابي أيضًا على مكافحة الفقر، الذي يرجح أن يزداد في حال التأخر في اتخاذ مثل هذه الإجراءات، ولاسيما في البلدان التي تحل في مراتب منخفضة حسب دليل التنمية البشرية والمعرضة للفقر. وأي إخفاق في اعتماد سياسات طموحة لتعميم التعليم الابتدائي سيؤثر سلبًا على الأبعاد الرئيسية للتنمية البشرية للأجيال المقبلة.
مواجهة التحديات البيئية
المخاطر البيئية، ومنها تغير المناخ ونزع الغابات وتلوث المياه والهواء والكوارث الطبيعية، هي مخاطر تحدق بكل إنسان، لكن أشد عواقبها تصيب البلدان والمجتمعات الفقيرة. وفي ظل ما يشهده الكوكب من تغير في المناخ، تتزايد المخاطر البيئية حدة، وتتفاقم الخسائر في النظم الإيكولوجية، فتؤثر على سبل العيش، ولاسيما سبل عيش الفقراء.
ومع أن البلدان التي تحل في مرتبة منخفضة من حيث دليل التنمية البشرية هي أقل البلدان مساهمة في تغير المناخ، تتعرض لأشد الأضرار في الإنتاج الزراعي وفي سبل معيشة السكان من جراء انخفاض معدل الأمطار السنوي وتفاوته. وليس حجم هذه الأضرار سوى دليل على ضرورة اتخاذ تدابير للتكيف مع تغير المناخ. وأي تأخر عن اتخاذ الإجراءات اللازمة سيرتب على العالم تكاليف باهظة، تزداد كلما طال التأخير. ويتطلب تحقيق الاستدامة في الاقتصادات والمجتمعات سياسات جديدة وتغييرات في الأنظمة توفق بين أهداف التنمية البشرية وما يستلزمه تغير المناخ من تدابير لتخفيض الانبعاثات واستراتيجيات لتحصين المناعة، وآليات مبتكرة للتمويل في إطار من الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
معالجة التغيرات الديمغرافية
بين عامي 1970 و2011م، ازداد عدد سكان العالم من 3٫6 مليارات إلى سبعة مليارات نسمة. ومع ارتفاع مستوى التحصيل العلمي، سيتباطأ معدل النمو السكاني تدريجيًا. ولا تتأثر آفاق التنمية بعدد السكان فحسب، بل بتركيبتهم العمرية أيضًا. ومن الشواغل الهامة التي تطرح على مستوى البلد معدل الإعالة، ويحسب بقسمة عدد الصغار وعدد المسنين على مجموع السكان في سن العمل، أي في الفئة العمرية من 15 إلى 64 سنة.
وحتى تستفيد البلدان في المناطق الفقيرة من «العائد الديمغرافي» مع ارتفاع عدد السكان في سن العمل، عليها أن تتخذ إجراءات فاعلة لتحقيق هذه الغاية على مستوى السياسة العامة. فتعليم الفتيات هو وسيلة هامة للاستفادة من العائد الديمغرافي. فالمرأة المتعلمة تنجب عددًا أقل من الأطفال، وأطفالها يحظون بالرعاية الصحية الجيدة وبالتحصيل العلمي. وفي العديد من البلدان تتقاضى المرأة المتعلمة أجرًا يفوق ما يحصل عليه العمال غير المتعلمين.
أما المناطق الغنية في الجنوب فتواجه مشكلة مختلفة، لأن نسبة المسنين فيها تزداد بينما تنخفض نسبة السكان الذين هم في سن العمل. وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل أهمية معدل شيخوخة السكان، لأن البلدان النامية إذا بقيت في حالة الفقر، لن يكون من السهل عليها تلبية حاجات سكانها من المسنين. وأمام العديد من البلدان النامية اليوم فرصة للاستفادة من العائد الديمغرافي.
غير أن الاتجاهات الديمغرافية ليست صنيعة القدر وحسب. فهي اتجاهات يمكن تعديلها، ولاسيما بواسطة سياسات التعليم. ويطرح هذا التقرير سيناريوهين للفترة 2010 - 2050، هما سيناريو الحالة المرجعية، ويفترض أن تستمر الاتجاهات الحالية في التعليم، وسيناريو المسار السريع، ويفترض أن تضع البلدان التي تنطلق من أدنى المستويات أهدافًا طموحة في التعليم. ففي البلدان التي تحل في مرتبة منخفضة من حيث دليل التنمية البشرية، يفترض في إطار سيناريو المسار السريع أن يسجل معدل الإعالة انخفاضًا يفوق بمرتين الانخفاض المفترض في ظل سيناريو الحالة المرجعية. ومن شأن السياسات الطموحة في التعليم أن تسمح للبلدان ذات التنمية البشرية المرتفعة والمتوسطة بتخفيض الارتفاع المتوقع في معدل الإعالة لديها، وذلك تحضيرًا لتيسير الانتقال إلى مرحلة شيخوخة السكان.
وتتطلب مواجهة التحديات الديمغرافية رفع مستويات التحصيل العلمي، وتيسير فرص العمل المنتج، والحد من البطالة، وتعزيز إنتاجية سوق العمل، وزيادة المشاركة في القوى العاملة، ولاسيما مشاركة النساء والمسنين.
أولويات العصر الجديد
وسط هذه التغيرات، تبقى المبادئ الأساسية للتنمية البشرية هي الأساس. والهدف هو دائمًا نفسه، توسيع خيارات كل إنسان وإمكاناته أينما وجد. وقد أظهرت بلدان كثيرة من الجنوب حتى الآن ما بالإمكان تحقيقه، ولكن الطريق أمامها لا تزال طويلة. ويقترح التقرير خمسة استنتاجات رئيسية للأعوام المقبلة:
القوة الاقتصادية في الجنوب
الصاعد يجب أن يرافقها التزام تام بالتنمية البشرية
الاستثمار في التنمية البشرية ليس ضرورة أخلاقية فحسب، بل هو خيار مبرر لأن الصحة والتعليم والرفاه الاجتماعي هي عوامل أساسية للنجاح في ظل اقتصاد عالمي سريع التغير تسوده المنافسة. والاستثمار في التنمية البشرية يجب أن يكون موجهًا لصالح الفقراء، فيفسح لهم المجال لدخول الأسواق ويتيح لهم مزيدًا من فرص العيش اللائق. فالفقر هو حالة تتعارض مع أبسط مبادئ العدالة، ومكافحته بإجراءات حازمة هي مهمة ممكنة وواجبة على حد سواء.
ويتطلب صنع السياسات الفعالة تركيزًا على إمكانات المجتمع أيضًا، وليس فقط على إمكانات الأفراد. فالأفراد يعيشون في مؤسسات اجتماعية، قد تعزز طاقاتهم أو تكبحها. والسياسات التي تغير الممارسات الاجتماعية التي تكبح طاقة الفرد كالتمييز بين الجنسين والزواج المبكر وشرط المهر، تضع في متناول الأفراد فرصًا لتنمية طاقاتهم وإثرائها.
البلدان الأقل تقدمًا يمكن أن تتعلم وتستفيد من نجاح الاقتصادات الناشئة من الجنوب
يتيح تراكم الاحتياطي المالي والثروة السيادية بمبالغ غير مسبوقة في الشمال وفي الجنوب فرصة للإسراع في التقدم وتيسيره للجميع. وينبغي تخصيص جزء من هذه الأموال لتعزيز التنمية البشرية والحد من الفقر. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تستفيد حركة التجارة والاستثمار بين بلدان الجنوب من الأسواق الخارجية بطرق جديدة تعزز فرص التنمية، كالمشاركة في سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية.
وازدهار التجارة بين بلدان الجنوب يمكن أن يضع الأسس اللازمة لنقل القدرات الصناعية إلى بلدان ومناطق أخرى أقل نموًا. وقد نُفذت مؤخرًا مشاريع مشتركة بين الصين والهند، وأطلقت استثمارات صناعية في إفريقيا هي بمثابة البداية لقوة آخذة في التوسع. وتؤمن الشبكات الدولية للإنتاج فرصًا للإسراع في التنمية إذ تزود البلدان بحوافز قوية للانتقال إلى طرق أكثر تطورًا في الإنتاج.
مؤسسات جديدة للتكامل الإقليمي وتعزيز العلاقات بين بلدان الجنوب
يمكن للمؤسسات والشركات الجديدة أن تساعد البلدان في تبادل المعارف والتجارب ونقل التكنولوجيا. كما يمكن بناء مؤسسات جديدة تُعنى بتعزيز التجارة والاستثمار، وتسهيل تبادل التجارب بين بلدان الجنوب. ومن الإجراءات الممكنة تشكيل لجنة للجنوب تأتي برؤية جديدة حول كيفية تحويل التنوع في الجنوب إلى قوة للتضامن.
تمثيل الجنوب والمجتمع المدني قوة لمواجهة التحديات العالمية
تؤدي نهضة الجنوب إلى مزيد من التنوع في الأصوات على الساحة العالمية. وفي ذلك فرصة لبناء مؤسسات للحكم تمثل الجميع وتستفيد من التنوع لإيجاد حلول عالمية لمشاكل يواجهها العالم بأسره.
ومن الضروري وضع مبادئ توجيهية للمنظمات الدولية تأخذ بتجارب بلدان الجنوب. وإنشاء مجموعة العشرين هو خطوة هامة في هذا الاتجاه، غير أن المساواة في التمثيل لصالح بلدان الجنوب لا تزال ضرورية في مؤسسات بريتون وودز، ومنظمة الأمم المتحدة، وسائر الهيئات الدولية.
وتستعين المنظمات والحركات الناشطة في المجتمع المدني بوسائل الإعلام لنشر نداءاتها من أجل العدالة والإنصاف في الحكم. وانتشار هذه الحركات ونشاطها دفاعًا عن حقوق ومطالب أساسية إنما هو دعوة ملحة لمؤسسات الحكم إلى اعتماد مبادئ أكثر ديمقراطية لتمثيل الجميع. فلبناء عالم ينعم بالعدالة ويخلو من عدم المساواة لابد من إفساح المجال أمام التنوع في الأصوات واعتماد نظام للمداولات العامة.
نهضة الجنوب مزيد من الفرص لتأمين السلع العامة
تستلزم الاستدامة في العالم استمرارًا في تأمين الإمدادات الكافية من السلع العالمية العامة. ومن أهم ما يواجهه العالم اليوم تعدد القضايا الطارئة، مثل ضرورة التخفيف من آثار تغير المناخ، ومواجهة حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والمالي، ومكافحة الإرهاب، وانتشار الأسلحة النووية. وفي ظل هذه القضايا التي تتطلب حلولاً عالمية، لا يزال التعاون الدولي في مجالات كثيرة يتراوح بين البطء والتعثر. وتتيح نهضة الجنوب فرصًا جديدة لمزيد من الفعالية في تأمين السلع العامة ولحل القضايا الكثيرة التي يتخبط فيها العالم اليوم.
والطابع العام أو الخاص للسلعة ليس صفة ملازمة لها، بل صفة تكتسبها بفعل التركيبات الاجتماعية، فتصبح خيارًا على صعيد السياسة العامة. ومن مسؤوليات الحكومة التدخل عند التقصير في تأمين السلع العامة على الصعيد الوطني، ولكن عندما تحدث مشكلة ذات بُعد عالمي يصبح التعاون الدولي ضرورة، ولا يتحقق إلا بفعل إرادة مشتركة بين العديد من الحكومات. وإزاء التحديات الكثيرة الملحة، يتطلب تحديد ما هو عام وما هو خاص حسًا قويًا وملتزمًا في القيادة على صعيد الأفراد والمؤسسات.
وتقرير التنمية البشرية لعام 2013م يتناول الظروف العالمية الحالية ويرسم مسارًا يسلكه صانعو السياسات والمواطنون للعيش في عالم يزداد ترابطًا ويواجه تحديات ملحة. كما يتناول التقرير التغيرات في موازين النفوذ والصوت والثروة في العالم، ويحدد السياسات والمؤسسات الجديدة اللازمة لمعالجة الوقائع التي يشهدها القرن الحادي والعشرون، وتحقيق التنمية البشرية في إطار من المساواة والاستدامة والاندماج الاجتماعي. فالتقدم في التنمية البشرية يستلزم إجراءات ومؤسسات على الصعيدين العالمي والوطني. فعلى الصعيد العالمي لابد من تجديد الأطر المؤسسية وإصلاحها لحماية إمدادات السلع العالمية العامة. وعلى الصعيد الوطني لابد من التزام الحكومات بالعدالة الاجتماعية، والتخلي عن السياسات التكنوقراطية التي تنطلق من «مبدأ تطبيق النهج الواحد على الجميع»، لأنها بعيدة عن الواقع وتفتقر إلى الفعالية، وتتعارض مع تنوع الخصوصيات والثقافات والمؤسسات بين بلد وآخر. غير أن المبادئ العامة التي يشمل تأثيرها الجميع كالتماسك الاجتماعي، والتزام الدولة بتأمين التعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية، والانفتاح على التكامل التجاري، هي اليوم على ما يتضح وسائل فعالة لتحقيق الاستدامة والمساواة في التنمية البشرية.
محركات التحول في التنمية
كيف استطاع العديد من البلدان في الجنوب تحويل آفاق التنمية البشرية؟ ففي ظل التنوع الاجتماعي والسياسي الذي تزخر به هذه البلدان، والتباين فيما تمتلكه من ثروات طبيعية، سلكت مسارات متباعدة في الكثير من الأحيان، ولكنها التقت على مواضيع أساسية ثابتة. ويتناول هذا الفصل تجربة بعض البلدان التي حققت نجاحًا لافتًا بفعل ثلاثة محركات: الدولة الإنمائية الفاعلة، والقدرة على اختراق الأسواق العالمية، والتركيز على الابتكار في السياسات الاجتماعية.
على مدى العقدين الماضيين، حققت بلدان كثيرة تقدمًا كبيرًا، في نهضة واسعة الآفاق. غير أن مجموعة هذه البلدان تفوقت في إنجازاتها، إذ لم تكتف برفع مستوى الدخل القومي فحسب، بل حققت تحسنًا في الأداء في المؤشرات الاجتماعية كالصحة والتعليم. ومن طرق قياس المستويات المرتفعة في الأداء تحديد البلدان التي سجلت نموًا في الدخل وأداء جيدًا في مقاييس الصحة والتعليم نسبة إلى بلدان أخرى انطلقت من مستويات إنمائية مماثلة. ومن البلدان التي تفوقت في أدائها بعض أكبر البلدان، أي البرازيل والصين والهند، إضافة إلى بلدان أخرى صغيرة مثل إندونيسيا وأوغندا وبنغلاديش وتايلندا وتركيا وتونس وشيلي وغانا وفيتنام وجمهورية كوريا وماليزيا والمكسيك وموريشيوس.
ويتناول هذا الفصل أداء مجموعة من البلدان التي حققت تحسنًا كبيرًا منذ عام 1990م من حيث نمو الدخل ومن حيث أبعاد التنمية البشرية غير المرتبطة بالدخل، أي الصحة والتعليم. وقد تفاوتت الإنجازات بين البلدان في الأبعاد المختلفة، فتفوقت البرازيل وتركيا في عناصر دليل التنمية البشرية غير المرتبطة بالدخل في حين غلب نمو الدخل على أداء الصين طوال الفترة من 1990 إلى 2010، وذلك لأسباب منها ارتفاع مستوى الصحة والتعليم في الصين عند بدء الإصلاحات في أواخر السبعينيات.
وكما ذكر في الفصل الأول، تشمل مجموعة البلدان التي حققت تحسنًا في دليل التنمية البشرية فاق أقرانها في الفترة من 1990 إلى 2012 بعضًا من أقل البلدان نموًا، مثل أوغندا ورواندا وجمهورية لاو الديمقراطية الشعبية ومالي وموزبيق.
والطريقة الأخرى لقياس التفوق في الأداء في التنمية البشرية هي تحديد البلدان التي حققت نجاحًا في سد «فجوة التنمية البشرية»، ويقاس بخفض العجز في دليل التنمية البشرية (أي تقليص الفارق بين قيمة الدليل في هذه البلدان والقيمة القصوى لدليل التنمية البشرية). وترد في الجدول 1. قائمة من 26 بلدًا كانت إما من بين 15 بلدًا ناميًا سجلت أقصى تخفيض في عجز دليل التنمية البشرية على مدى الفترة من 1990 إلى 2012 أو بين 15 بلدًا سجلت أعلى معدلات النمو السنوي في نصيب الفرد من الدخل في الفترة نفسها.
ونجحت المجموعة الأولى من البلدان في استكمال النمو الاقتصادي السريع بسياسات اجتماعية تعود بالفائدة على المجتمع بأسره، وخصوصًا الفقراء. فقد تفوقت الصين مثلاً في تخفيض العجز في دليل التنمية البشرية على البلدان الأخرى باستثناء إيران وجمهورية كوريا، ومع أن معدلات النمو الاقتصادي في جمهورية كوريا كانت أدنى من المعدلات التي سجلتها الصين، حققت جمهورية كوريا أكبر المكاسب في قيمة دليل التنمية البشرية. وكان أداء فيتنام حسنًا أيضًا، إذ حلت في المركز الثالث في نمو الدخل، وكانت بين 20 بلدًا حلت في المراتب الأولى من حيث التحسن في دليل التنمية البشرية. وحققت سريلانكا أيضًا، على الرغم من سنوات النزاع الداخلي، نموًا مرتفعًا في الدخل، وكذلك انخفاضًا ملحوظًا في العجز في دليل التنمية البشرية.
وسجلت الهند أداءً اقتصاديًا متميزًا، إذ بلغ متوسط نمو الدخل على مدى الفترة من 1990 إلى 2012 حوالي 5 في المائة سنويًا. غير أن دخل الفرد في الهند لا يزال منخفضًا إذ استقر في عام 2012 عند 3٫400 دولار. ولتحسين مستويات المعيشة، ستحتاج الهند إلى المزيد من النمو، لأن من الصعب تحقيق إنجازات كبيرة في الحد من الفقر من خلال إعادة التوزيع فقط في ظل انخفاض الدخل. أما أداء الهند في الإسراع في التنمية البشرية فكان أقل تميزًا من أدائها في النمو. والواقع أن بنغلاديش حيث النمو الاقتصادي أبطأ ونصيب الفرد من الدخل لا يتجاوز نصف مثيله في الهند، تفوقت على الهند في بعض المؤشرات.
وكانت البرازيل والجزائر والمكسيك بين 15 بلدًا حلت في المراتب العليا في خفض عجز دليل التنمية البشرية، مع أن نصيب الفرد من الدخل في تلك البلدان نما في المتوسط بمعدل تراوح بين 1 و2 في المائة فقط سنويًا في الفترة من 1990 إلى 2012. وفي تجربة هذه البلدان تأكيد على فعالية الاستراتيجية التابعة التي عادت بفوائد على التنمية البشرية، ومن عناصرها إعطاء الأولوية لاستثمارات الدولة في إمكانات السكان، وخاصة في الصحة والتعليم والتغذية، ولتحصين المجتمعات إزاء المخاطر الاقتصادية والبيئية وغيرها من الصدمات.
وخلاصة ذلك أن البلدان لا تستطيع أن تعتمد على النمو وحده. فكما أشار تقرير التنمية البشرية لعامي 1993 و1996، ليس الرابط بين النمو والتنمية البشرية رابطًا تلقائيًا. فهو ينشأ نتيجة لسياسات داعمة للفقراء، تقوم على الاستثمار في الصحة والتعليم، وتأمين فرص العمل اللائق، والحد من استنزاف الموارد الطبيعية والإفراط في استغلالها، وتحقيق التوازن بين الجنسين، والإنصاف في توزيع الدخل، وتجنب تشريد المجتمعات المحلية لأسباب واهية.
وهذا لا يعني أن النمو الاقتصادي غير مهم. فالبلدان الفقيرة التي تضم سكانًا فقراء تحتاج إلى مزيد من الدخل. وعلى المستوى الوطني، يمكن أن يساعد نمو الدخل البلدان على تخفيف الديون وتقليص العجز وتوليد إيرادات عامة إضافية لزيادة الاستثمار في السلع والخدمات الأساسية، وخاصة في الصحة والتعليم. وعلى مستوى الأسرة المعيشية، يساعد نمو الدخل على تلبية الحاجات الأساسية وتحسين مستويات المعيشة والارتقاء بنوعية الحياة.
ومع ذلك، لا ينتج ارتفاع الدخل بالضرورة تحسنًا مماثلاً في رفاه الإنسان. ففي المدن الكبيرة، مثلاً يكون متوسط دخل الفرد مرتفعًا، ولكن مستويات الجريمة والتلوث وازدحام المرور تكون مرتفعة أيضًا. وفي المناطق الريفية قد ينمو دخل الأسر المعيشية الزراعية، بينما تفتقر إلى مدرسة أو مركز صحي في القرية. وللظروف الأساسية التي تنطلق منها البلدان تأثير كبير على سرعة التنمية في الحاضر وفي المستقبل. وإنما هذه الظروف هي عنصر هام وليست كل ما يهم.
والواقع أن علاقة الترابط بين النمو الاقتصادي والتنمية البشرية انكسرت مرات عدة. وقد حدد تقرير التنمية البشرية لعام 1996 ستة أنواع من النمو غير المجدي، هي نمو البطالة الذي لا يولد فرص العمل؛ والنمو المتوحش الذي يسهم في تعميق عدم المساواة؛ والنمو الذي لا صوت له، أي الذي يحرم المجتمعات المحلية الأكثر تعرضًا للمخاطر من المشاركة، والنمو الذي لا جذور له الذي يرتكز على نماذج منقولة من مكان إلى آخر لا جذور لها في الاقتصاد المحلي؛ والنمو الذي لا مستقبل له الذي يقوم على الاستغلال المفرط للموارد البيئية دون أي اعتبار للمستقبل.
ما الذي يؤدي إلى التفوق في النمو وتحويله إلى تنمية بشرية؟ ما هي الدروس التي يمكن استقاؤها من تجارب التنمية البشرية المتنوعة في هذه البلدان لوضع السياسات؟ باختصار، ما هي محركات التحول؟ يتناول هذا الفصل ثلاثة محركات:
• الدولة الإنمائية الفاعلة.
• اختراق الأسواق العالمية.
• الابتكار والحزم في السياسات الاجتماعية.
وليست هذه المحركات مستمدة من مفاهيم مجردة حول كيفية دفع عملية التنمية. فهي في الواقع مستمدة من تجارب العديد من بلدان الجنوب في التحول في التنمية. وهي تناقض مفهوم النهج الموضوعة مسبقًا والقائمة على الإرشادات، فهي تطرح جانبًا عددًا من الوصفات المصممة مركزيًا لتطبق على الجميع، وتختلف عن نهج التحرر من أي قيود الذي ينادي به إجماع واشنطن.
وتشير هذه المحركات إلى اتجاه نحو نهج جديد. نهج تكون فيه الدولة حافزًا لا غنى عنه، إذ تسلك مسارًا عمليًا، وتكيف سياساتها وإجراءاتها، حسبما تمليه متطلبات الواقع الجديد وتحديات الأسواق العالمية.
ووفقًا لهذا النهج الجديد، لا تتحقق التنمية تلقائيًا، ولا يمكن ترك مهمة التحول لقوى السوق وحدها. فلابد من أن يكون للدولة دور ناشط في تعبئة المجتمع عن طريق سياسات ومؤسسات يمكن أن تنهض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. غير أن ذلك لا يعني إملاء وصفة واحدة على الجميع. فطريقة تحويل هذه المحركات الثلاثة إلى سياسات تتوقف على الظروف المحلية، وتعتمد على خصائص البلد وقدرات الحكومة والعلاقات مع سائر العالم.
التنمية هي تغيير في المجتمع لتحقيق رفاه الفرد من جيل إلى جيل، من أجل توسيع خياراته في الصحة والتعليم والدخل، وتوسيع حرياته وفرص مشاركته الفعالة في المجتمع.
والسمة المشتركة بين البلدان التي حققت مثل هذا التغيير هي وجود دولة قوية مبادرة، يشار إليها أيضًا بمصطلح «الدولة الإنمائية». ويقصد بهذا المصطلح الدولة ذات الحكومة الناشطة أو في الكثير من الأحيان النخبة غير السياسية التي تتخذ من التنمية الاقتصادية السريعة هدفًا رئيسيًا لها. ويذهب البعض أبعد من ذلك ليضيف ميزة أخرى، إذ تمنح الدولة أجهزتها الإدارية النفوذ والسلطة لتخطيط السياسات وتنفيذها، ومع ارتفاع معدلات النمو وتحسن مستويات المعيشة تكتسب أجهزة الدولة والنخب الحاكمة الشرعية.
وفي بعض الحالات الجديرة بالذكر، يسترشد التقدم الإنمائي برؤية طويلة الأجل، ومعايير وقيم مشتركة، وقواعد ومؤسسات تبني الثقة وتعزز التماسك. ولكي تكون التنمية قوة للتحول، يجب التركيز على العوامل غير الملموسة، وفهم كيفية تأثير هذه العوامل على تنظيم المجتمع وكيفية تفاعلها مع سياسات وإصلاحات تطبق في كل حالة على حدة.
ومن العناصر الأساسية في عملية التحول في أي بلد، وجود استراتيجية إنمائية تكون موضوع إجماع والتزام، وتوفر القدرات البيروقراطية القوية، والعمل بالسياسات المناسبة. وينبغي أن تهدف السياسات إلى تيسير التحول عن طريق تحديد العوائق التي تحول دون التغيير، وكذلك الحوافز التي تساعد على تحقيقه. وفي هذه العملية، من الضروري أن تتخذ المؤسسات والمجتمعات كما الأفراد أهدافًا خاصة، وأن تحدد استراتيجيات وسياسات لتحقيق هذه الأهداف. ومشاركة الأفراد، وإحساسهم بأن لهم صوتًا يُسمع، ورأيًا يؤخذ به في عملية صنع القرار، ودورًا فاعلاً في وضع الخطط، عنصر هام وإن لم يكن نافذًا في كل مكان، في تحقيق التنمية المستدامة على المدى الطويل. ومن المستحسن وجود قيادة سياسية فاعلة تدعمها فرق تكنوقراطية قوية قادرة على حماية الذاكرة المؤسسية وضمان الاستمرارية في السياسات.
وما من وصفة بسيطة لربط التنمية البشرية بالنمو الاقتصادي أو للإسراع في النمو. وقد خلصت إحدى الدراسات، بالاستناد إلى بيانات مقارنة عن عدة بلدان للفترة من 1950 إلى 2005، إلى انطلاق النمو لم يكن في معظم الحالات وليد إصلاحات اقتصادية جذرية، وأن الاصلاحات الاقتصادية الجذرية لا تحقق «انطلاقات» في النمو. فالبلدان التي حققت نموًا سريعًا نجحت في ذلك بالعمل التدريجي على إزالة القيود التي تكبح التقدم، وليس بتنفيذ قائمة طويلة من السياسات والإصلاحات. وللدولة دور حاسم في ذلك. والبلدان التي نجحت في إطلاق النمو المطرد، اعتمدت في مواجهة مجموعات مختلفة من التحديات، بسياسات مختلفة تعنى بفرض ضوابط على السوق وتشجيع الصادرات والتنمية الصناعية والاستفادة من التكنولوجيا والتقدم. وعندما يكون البلد على مسار النمو، يبقى التحدي في إزالة أو استباق القيود التي تعوق النمو أو يحتمل أن تكبحه في المستقبل. ويمكن أن تساعد ظروف الصدمات التجارية الإيجابية، مثل ارتفاع أسعار السلع الخام نتيجة لنهضة الجنوب، على انطلاقة السرعة في النمو، ولكن ليس على استمرارها. وللاصلاحات الاقتصادية والمؤسسية المركزة تأثير بالغ من الناحية الإحصائية والكمية على مدى استمرار سرعة النمو.
وفي العديد من البلدان النامية ذات الأداء المتميز، تضطلع الدولة بدور مختلف عن دور دول الرعاية التقليدية، التي تكتفي بتصحيح اخفاقات السوق وبناء شبكات أمان اجتماعي بينما تشجع النمو بفعل قوى السوق. أما الدولة الإنمائية الفاعلة، فهي المعنية بإطلاق عملية التحول في حياة المواطنين وبرصدها. وبدلاً من أن تكون هذه الدولة صديقة للسوق فحسب، تكون صديقة للتنمية. والبلدان التي لديها برامج اجتماعية مبتكرة وقوية، تكون في أحيان كثيرة صديقة للمواطن أيضًا. وهذا التطور ضروري في الواقع للانتقال من التركيز على النمو إلى التركيز على التنمية البشرية.
ومن سمات الدولة الإنمائية أيضًا السعي إلى وضع سياسات صناعية تعالج مشاكل التنسيق والعوامل الخارجية عن طريق «إدارة» الميزة النسبية، فهذه الدولة قد تعمد إلى تشجيع الصناعات التي يعتقد أن لديها ميزة نسبية كامنة، أو تسعى إلى دفع الصناعات التي تستقر عند ميزة نسبية راكدة. ونتيجة لذلك، نجحت بضع صناعات في اختراق الأسواق العالمية، بعد أن استفادت من الحماية الجمركية. إلا أن نجاح صناعة معينة أو فشلها يصعب حصر مصدره في سياسات تجارية محدودة، لأن التدخلات الحكومية توجهها دوافع متعددة، من توليد الإيرادات إلى حماية المصالح الخاصة.
وليس في الدراسات التي أجريت على صناعات متعددة ما يوضح فوائد حماية الصناعة. فالواضح هو التمييز بين السياسات الصناعية «المحايدة»، مثل تحسين البيئة التحتية واعتماد التكنولوجيا، والسياسات الصناعية «المتحيزة»، مثل فرض الضرائب المباشرة والتدخلات لصالح دعم صناعات محددة، والتي تعتمد فعالياتها على ظروف كل بلد. وما من وصفة عامة تنطبق على الجميع، فما نجح في شرق آسيا قد لا ينجح في أمريكا اللاتينية.
• اليابان: أدى اليابان لفترة طويلة دور الدولة الإنمائية، فبحلول السبعينيات كانت في هذا البلد مجموعة من «رجال الأعمال والتجار من ذوي التحصيل العلمي الجيد وحكومة تركز على التحديث الاقتصادي». وعلى أثر سلسلة من الإصلاحات المتتالية أرسيت مقومات الدولة الحديثة، بما في ذلك العملة الموحدة، والسكك الحديدية والتعليم العام والقوانين المصرفية، وقد بنت الحكومة وشغلت مصانع وصناعات مملوكة للدولة في قطاعات متنوعة من القطن إلى بناء السفن. وشجعت الإنتاج المحلي عن طريق زيادة الرسوم الجمركية على الواردات من العديد من المنتجات الصناعية. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحول اليابان من بلد متلق للمساعدات إلى بلد مانح.
• جمهورية كوريا: نجحت كوريا في الفترة من 1960 إلى 1980 نجاحًا باهرًا، فبعد عام 1961، حققت الحكومة موقعًا مسيطرًا على طبقة رجال الأعمال من خلال سلسلة من الإصلاحات من ضمنها إجراءات عززت التماسك في مؤسسات الدولة، مثل إنشاء مجلس التخطيط الاقتصادي، إلا أنها ركزت على ضبط التمويل. وتجنبت أيضًا حصر سياسات الدولة بتقديم الدعم. وفيما بعد اكتسبت الدولة القدرة على توجيه التحول من سياسة إحلال الواردات إلى سياسة ترويج الصادرات.
واتبعت دول صاعدة أخرى من الجنوب سياسات مماثلة فقد تشاركت الحكومات مع القطاع الخاص لتطوير الميزة النسبية في معظم القطاعات التي تبشر بالازدهار، مع ضمان فعالية إدارة الاقتصاد الكلي وتشجيع الابتكار، وأولت هذه الدول اهتمامًا خاصًا لتوسيع الفرص الاجتماعية عن طريق تحديد أولويات السياسات ورعاية صناعات محددة، وتعزيز التكامل بين الدولة والسوق، والالتزام بإصلاحات طويلة المدى وتوفير سياسية قوية، والتعلم بالعمل، وتشجيع الاستثمار العام.
تحديد أولويات السياسات
من أولى مهام الدولة الإنمائية تصحيح أولويات السياسات الذي يفوق في الأهمية تصحيح الأسعار. فالسياسات يجب أن يكون محورها الإنسان، وأن تسعى إلى توسيع الفرص، وتأمين الحماية من الانتكاسات ولوضع السياسات والأولويات الصحيحة، لابد من أن تكون عملية صنع السياسات صحيحة أيضًا. فالمؤسسات الحاكمة والسياسات ترتبط ارتباطًا عميقًا لا ينفصم؛ إذ لا يمكن أن ينجح أي منهما دون الآخر. ومن المهم أن يدير عمليات وضع السياسات أشخاص ملتزمون يعملون في إطار هياكل حكومية متجاوبة وفعالة، وتتغير السياسات أيضًا في مختلف مراحل التنمية، ففي المراحل الأولى مثلاً يعطي العديد من البلدان الأولوية لتوفير فرص العمل والحد من الفقر.
تعزيز الاستثمار العام
ركز فكر السياسة الاقتصادية والاجتماعية التقليدي، كما أكده «إجماع واشنطن» على وضع الأسس الاقتصادية الصحيحة كشرط مسبق للنمو الاقتصادي، بحجة أن التحسن في التنمية البشرية يأتي نتيجة للنمو الاقتصادي غير أن نهج التنمية البشرية لا يجيز تأجيل التحسن في حياة الفقراء. وهكذا تكون الدولة الإنمائية التي ترعى الإنسان هي الدولة التي تعمل على توسيع نطاق عدد من الخدمات الاجتماعية الأساسية.
من وجهة النظر هذه لا يكون الاستثمار في قدرات الأفراد، من خلال الصحة والتعليم والخدمات العامة الأخرى، ملحقًا بعملية النمو، بل هو جزء لا يتجزأ منها.
ولا تتوقف فعالية الإنفاق العام على مستويات هذا الانفاق بل لأوجه الإنفاق العام وكفاءة تخصيصه تأثير بالغ على فعالية تقديم الخدمات العامة وتوسيع الإمكانات. وتختلف فعالية الإنفاق العام بين البلدان. ويبين تحليل شامل للعديد من البلدان وجود علاقة ترابط إيجابي بين نصيب الفرد من نفقات القطاع العام في الماضي في الصحة والتعليم وإنجازات التنمية البشرية في الحاضر. فنصيب الفرد من الإنفاق العام في الماضي على الصحة يؤثر على معدلات بقاء الأطفال على قيد الحياة ومعدلات وفاة الأطفال دون سن الخامسة.
وتتوقف طبيعة هذه النتائج على مرحلة التنمية في البلد، وأيضًا على إنفاق المال في المكان الصحيح، ولذلك ينبغي للبلدان وضع ضوابط لمنع وفورات التهور في الاقتراض والإسراف في الإنفاق.
ودار الكثير من النقاش حول ما إذا كان الاستثمار العام يجذب الاستثمار الخاص أم يزاحمه. والواقع أن كلاً من هاتين الحالتين ممكن، وذلك بسبب اختلاف وجهات استخدام رأس المال العام في البلدان النامية. ومع انخفاض مستويات التعليم والصحة وضعف البنية التحتية في جنوب آسيا والصحراء الإفريقية الكبرى مقارنة بما هي عليه في بلدان شرق وجنوب شرق آسيا ذات المستوى المرتفع في الأداء من المنطقي القول إن الاستثمار العام وتركيبته يؤديان دورًا حاسمًا.
- بنغلاديش: تمكنت بنغلاديش من تحقيق نمو مطرد، بتدابير منها زيادة معدل الاستثمار العام تدريجيًا، مع تجنب العجز المالي الذي ألم بسائر بلدان المنطقة.
- الهند: زادت الهند الإنفاق الحكومي المركزي على الخدمات الاجتماعية والتنمية الريفية من 13٫4 في المائة في 2006 -2007 إلى 18٫5 في المائة في 2011 -2012م. وارتفعت حصة الخدمات الاجتماعية من مجموع الإنفاق من 21٫6 في المائة في 2006-2007 إلى 24٫1 في المائة في 2009-2010 إلى 25 في المائة في 2011-2012م.
احتضان صناعات معينة
يمكن للحكومات أن تُشجع القطاع الخاص الملتزم بقواعد السوق فتطبق مبدأ الميزة النسبية ببعض من المرونة. وتحتضن القطاعات التي لا تزدهر بدون رعايتها بسبب شوائب السوق. ومع أن هذا التوجه لا يخلو من المخاطر السياسية، إذ يعزز نزعة السعي إلى الريع والمحاباة، فقد مكن بضعة بلدان من الجنوب من تحويل صناعات عرفت في الماضي بعدم فعاليتها وعدم قدرتها على الصمود أمام المنافسة الأجنبية إلى قطاعات مهدت الطريق للنجاح في التصدير ما إن سارت اقتصادات هذه البلدان إلى المزيد من الانفتاح.
• الهند: اتبعت الهند بعد الاستقلال في عام 1947 ولعقود تلت استراتيجية للتصنيع بهدف إحلال الواردات بقيادة الدولة، وهذه الاستراتيجية كبحت القطاع الخاص بينما منحت صلاحيات واسعة للتكنوقراط الذين سيطروا على التجارة والاستثمار فخلقت بذلك نظامًا أصبح مع الوقت مثقلاً بالتعقيدات البيروقراطية (ملوك الرخص). وخلال هذه الأعوام انتهجت الدولة سياسة لبناء القدرات البشرية والاستثمار في التعليم العالي على المستوى العالمي، وربما على حساب إهمال التعليم الابتدائي. وبعد إصلاحات التسعينيات أثمرت هذه الاستثمارات، إذ أثبتت الهند بمستوى فاق التوقعات قدرتها على الاستفادة من مخزونها من العمال المهرة في صناعات ناشئة في تكنولوجيا المعلومات، وأصبحت بحلول عام 2011-2012 مصدر 70 مليار دولار من مجموع عائدات التصدير. وبنت الهند أثناء أعوام الانغلاق صناعة أخرى، هي صناعة المستحضرات الصيدلانية ولم تمنح الهند براءات اختراع للمنتجات فحسب بل لعمليات التصنيع ما شجع الشركات على الهندسة العكسية لتصبح رائدة في العالم في الأدوية التي لا تحمل اسمًا تجاريًا. وتكثر القصص المماثلة عن نجاح الهند في بناء القدرات في صناعات عديدة، منها صناعة السيارات والصناعات الكيميائية والخدمات، التي تخترق اليوم بقوة الأسواق العالمية.
- البرازيل: اختبرت البرازيل أيضًا لفترات طويلة استراتيجيات اقتصادية ذات توجه داخلي. وفي هذه الفترات استفادت الشركات الفردية من أسواق محلية كبيرة ولم تُشجع على التصدير والمنافسة في الأسواق العالمية. وعندما شجعت على ذلك كان بوسعها الاعتماد على قدرات بنتها طوال عقود من الزمن. فقد أصبحت شركة إمبراير (Embraer) مثلاً الآن أكبر منتج في العالم للطائرات التجارية الإقليمية التي يصل عدد مقاعدها إلى 120 مقعدًا. كما نمت أيضًا في كنف الملكية العامة صناعات البلاد من الصلب والأحذية، ورافق هذا النمو أنشطة في البحث والتطوير دعمت قدرات الابتكار المحلي.
إعطاء الأولوية لخلق فرص العمل
يمكن للسياسات العملية التي تهدف إلى خلق فرص عمل آمنة ومجزية أن تعزز الرابط بين النمو الاقتصادي والتنمية البشرية. وتشير أدلة من آسيا إلى أن البلدان التي سجلت معدلات نمو مرتفعة وإنجازات في مكافحة الفقر في آن معًا حققت أيضًا تحسنًا سريعًا في التشغيل. وينطبق ذلك على تايلندا وماليزيا في السبعينيات، وإندونيسيا والصين في الثمانينيات، وفيتنام والهند في التسعينيات. وفي الواقع تمكن الجيل الأول من الاقتصادات السريعة النمو الآسيوية في مقاطعة تايوان الصينية وسنغافورة وجمهورية كوريا وهونغ كونغ، الصين (منطقة إدارية خاصة) من زيادة فرص التشغيل بنسبة تترواح بين 2 في المائة و6 في المائة سنويًا قبل فترة التسعينيات في ظل ارتفاع في الإنتاجية والأجور. وفي الكثير من الحالات تكرس هذا النمط من النمو بفعل المشاريع الزراعية الصغيرة، كما في مقاطعة تايوان الصينية، وبفعل القطاعات الصناعية الموجهة نحو التصدير التي تعتمد على كثافة الأيدي العاملة في سنغافورة وجمهورية كوريا وهونغ كونغ الصين (منطقة إدارية خاصة).
وفي نجاح بعض البلدان الآسيوية، مثل جمهورية كوريا ولاحقًا تايلندا، دروس للاقتصادات الأقل نموًا خاصة في جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى. فالبلدان الآسيوية تمكنت من استحداث فرص العمل بمعدل أسرع بمرتين إلى ثلاث مرات عندما كانت على مستوى إنمائي مماثل لمستوى البلدان الإفريقية اليوم. وبينما ازدادت القوى العاملة في إفريقيا على الأعوام العشرة الماضية بمعدل 91 مليون نسمة، لم تدخل إلى القطاعات المدفوعة الأجر أكثر 37 مليون فرصة عمل. باعتماد سياسات حكومية فاعلة في القطاعات الفرعية التي تستوعب أعدادًا كبيرة من القوى العاملة في التصنيع والزراعة، وكذلك في تجارة التجزئة وقطاع الفنادق والبناء، ومن المتوقع أن تستحدث إفريقيا نحو 72 مليون فرصة بحلول عام 2020، أي ما معدله 18 مليون فرصة إضافية على مستويات الزيادة الحالية. وتتطلب مثل هذه السياسات استثمارات في تعليم الشباب وتدريبهم، وأيضًا استثمارات في البنية التحتية تدعم عملية التنويع الاقتصادي وتؤدي إلى إزالة العقبات التي تعترض زيادة المشاريع في القطاع الخاص، مثل النقص في التمويل وعدم المرونة في الأنظمة.
- موريشيوس: تحظى البلدان التي لا تزال في مستوى متدن نسبيًا في التصنيع بإمكانيات أكبر لتحقيق النمو الذي يعتمد على كثافة الأيدي العاملة. وفي تحليل لأداء موريشيوس على مدى عقدين من الزمن، خلصت دراسة إلى أن فرص العمل الجديدة وتراكم رأس المال شكلت 80 في المائة من النمو الاقتصادي السنوي خلال العقد الأول (1982-1990). وانخفض معدل البطالة من 20 في المائة إلى أقل من 3 في المائة، مع تزايد فرص العمل بنسبة 5٫2 في المائة سنويًا. غير أن النمو الاقتصادي في العقد الثاني (1991-1999) لم يكن يحركه تراكم رأس المال بقدر ما يحركه نمو إنتاجية العمال نتيجة للاستثمار في القدرات البشرية.
- بنغلاديش: يعزى الإسراع في الحد من الفقر في التسعينيات مقارنة بالثمانينيات إلى زيادة الصادرات من القطاعات التي تستوعب أعدادًا كبيرة من القوى العاملة (مثل الملابس ومصائد الأسماك) وزيادة التشغيل في القطاع الريفي غير الزراعي (الصناعات الصغيرة والمنزلية والإنشاءات وغيرها من الخدمات غير القابلة للتداول التجاري). غير أن الحافز لم يأتِ من تحسين الإنتاجية في هذا القطاع بل من ارتفاع الطلب بفعل زيادة إنتاج المحاصيل وتدفق التحويلات المالية ونمو الصادرات.
- رواندا: لا تأتي زيادة فرص العمل دائمًا من الصناعات التحويلية الموجهة إلى التصدير، فقد كان قطاع الخدمات السياحية مصدر الزيادة في فرص العمل في رواندا على مدى العقد الماضي. إذ تجاوزت عائدات هذا القطاع، الذي يوظف قرابة 75٫000 شخص، عائدات تصدير البن والشاي.
- أوغندا: أسهم ارتفاع النمو في أوغندا في التسعينيات في الحد من الفقر، وذلك على أثر نمو الدخل في الزراعة التي استوعبت أعدادًا كبيرة من القوى العاملة، وخصوصًا في قطاع المحاصيل النقدية التي أنعشتها الأسعار العالمية وتحسن الظروف التجارية للزراعة.
- تايلندا: تستطيع البلدان النامية التي تنعم بأراض صالحة للزراعة استحداث فرص عمل مستقرة في الزراعة، على الرغم من انخفاض حصة هذا القطاع من مجموع الناتج مع الوقت. هذا هو الحال في تايلندا حيث كان نمط التشغيل في الستينيات شبيهًا بنمط التشغيل في الكثير من بلدان جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى اليوم. ومع أن تايلندا أصبحت قوة صناعية فيما بعد، فلاتزال تستحدث ملايين فرص العمل في قطاعات غير صناعية، مثل تجارة التجزئة وقطاع الفنادق والبناء وكذلك في الزراعة التجارية، حيث ازداد عدد فرص العمل المستقرة من 519٫000 في عام 1960 إلى حوالي 3 ملايين فرصة في عام 2008، وفي التسعينيات فقط تمكنت تايلندا من زيادة مجموع فرص العمل المستقرة بنسبة 11 نقطة مئوية (كما فعلت البرازيل بين عامي 1970 و1988).
- إندونيسيا: برزت إندونيسيا قبل الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997 بالقدرة على تحقيق نمو تميز بكثافة فرص العمل. وقد ازدادت الأجور الحقيقية لعقدين من الزمن قبل الأزمة بمعدل سنوي بلغ 5 في المائة. وبين عامي 1990 و1996 ازداد التشغيل في القطاعات غير الزراعية النظامية وحدها من 28٫1 إلى 37٫9 في المائة من مجموع القوى العاملة، وانخفضت حصة القوى العاملة في الزراعة من 55٫1 إلى 43٫5 في المائة. وفي مرحلة ما بعد الأزمة عندما تبددت بعض مكاسب التنمية، بقيت الزيادة التناسبية في الفقر عند المستوى الأدنى بين العمال الزراعيين.
وفي الأمثلة المذكورة دليل على أن البلدان نادرًا ما تشهد أنماط نمو تكون لصالح الفقراء على مدى عقود متتالية. ومن أسباب ذلك أن التحول في التنمية هو مرادف للتغير في هيكل الإنتاج، وأن القدرة على توليد فرص العمل تختلف بين قطاع وآخر. فالوظائف الماهرة والوظائف غير الماهرة، مثلاً تتطلب مزيجًا مختلفًا من العناصر المتكاملة، مثل التعليم النظامي والتدريب الخاص بصناعات محدودة. والنقطة الأهم هي أن السياسات الموجهة نحو التنمية البشرية تتطلب نموًا وزيادة الفرص. ولذلك ينبغي للدول الإنمائية أن تنتبه إلى أن طبيعة النمو (وكثافة استخدام القوى العاملة في قطاعات تحرك النمو) تتغير مع تحول الاقتصاد، والمطلوب هو مواكبة هذا التغير باستثمارات مجدية في مهارات الأفراد.
أوجه التكامل ما بين الدولة والسوق
الإخفاق يمكن أن يصيب الأسواق كما الحكومات، لكن يمكن الاستعاضة عن هذا الإنفاق بالتكامل إذا عملت الحكومة والأسواق معًا. فمهمة التقدم الإنمائي لا يمكن تركها للأسواق وحدها، لأن الأسواق قد تخفق في هذه المهمة، بل قد لا تكون موجودة على الإطلاق في المراحل الأولى للتنمية.
وقد اعتمدت معظم الدول الإنمائية الناجحة سياسات صناعية تعزز إمكانات مساهمة القطاع الخاص في التنمية البشرية، وخاصة من خلال توليد فرص العمل في قطاعات جديدة.
- تركيا: أتاحت الدولة في تركيا ظروفًا اقتصادية شجعت قطاع البناء وصناعة الأثاث والمنسوجات والأغذية والسيارات، وجميعها قطاعات ذات قدرة عالية على استيعاب القوى العاملة. وهكذا تحولت سلة الصادرات التركية إلى المنتجات التي تتطلب قدرًا أكبر من التصنيع ومستوى أعلى في التكنولوجيا، وتستوعب أعدادًا كبيرة من القوى العاملة الماهرة.
- تونس: منذ أوائل السبعينيات، اعتمدت تونس على الحوافز المالية والضريبية لجذب رؤوس الأموال الأجنبية المحلية إلى الصناعات الموجهة نحو التصدير، وخاصة إنتاج الملابس. وأدت أشكال مختلفة من العلاقات بين قطاع الأعمال والحكومة إلى تطوير مستوى الصناعة وإنشاء تجمعات صناعية، فأصبحت تونس اليوم من البلدان الخمسة الأولى التي تصدر ملابس إلى الاتحاد الأوروبي، وهي تتمتع بالقدرة على تصدير خدمات صحية من خلال توفير العلاج لزوار من بلدان مجاورة بقيمة تعادل ربع إنتاج القطاع الخاص في الصحة في تونس.
- شيلي: بعد العودة إلى الديقمراطية في التسعينيات شجعت شيلي الاستثمار والتطوير التكنولوجي في قطاعات تملك فيها ميزة نسبية. وقدمت الدعم المادي لتشكيل اتحادات بين شركات خاصة وجامعات لتشجيع الابتكار، وعملت في أنشطة أخرى تعزز الابتكار.
الالتزام بالتنمية والإصلاح على
المدى الطويل
التحول الدائم والمستمر هو عملية طويلة الأمد تتطلب من البلدان العمل على وضع نهج ثابت ومتوازن في التنمية. وقد تبدو بعض الحلول التقنية أو الإدارية حلولاً سريعة مناسبة، لكنها تبقى حلولاً غير كافية بحد ذاتها.
- الصين: شهدت الصين منذ الإصلاحات الموجهة نحو السوق في آواخر السبعينيات مجموعة معقدة ومتشابكة من التغيرات من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، ومن الريفي إلى الحضري، ومن الزراعة إلى الصناعة التحويلية والخدمات؛ ومن أنشطة اقتصادية غير نظامية إلى أنشطة اقتصادية نظامية، ومن مجموعة مجزأة من الاقتصادات القروية التي تتمتع بمستوى من الاكتفاء الذاتي إلى اقتصاد أكثر تكاملاً، ومن الاقتصاد المنعزل عن العالم إلى قوة تجارية دولية. وقد تطلب حجم هذه التغييرات الجذرية دولة ملتزمة تنطلق من رؤية طويلة الأمد لبناء المؤسسات والقدرات اللازمة. وقد عمدت القيادة إلى الاستعاضة عن الحرس القديم، الذي كان يتوقع أن يقاوم التغيير، بأجهزة حكومية أصغر سنًا وأكثر انفتاحًا وأفضل تعليمًا. وبحلول عام 1988، كان 90 في المائة من المسؤولين على مستويات فوق مستوى المقاطعات معينين منذ عام 1982. ولا يزال بناء القدرات من الأولويات، ومستوى تعليم المسؤولين يرتفع باستمرار. وأعدت الأجهزة الحكومية الصينية انطلاقًا من التوجه نحو تحقيق النتائج الفعلية، بحيث ترتبط إمكانات الارتقاء في المهنة بتحقيق الأهداف الرئيسية للتقدم والتحديث الاقتصادي على مستوى البلد.
والقيادة الفعالة تصوب أهداف واضعي السياسات على المدى الطويل، وتتيح لعموم السكان تقدير عمل الدولة في تعزيز القدرات الفردية والاندماج الاجتماعي من أجل التنمية البشرية. ويتطلب ذلك اتباع نهج متوازن في التنمية واكتساب القدرة على تحويل الأزمات إلى فرص يُستفاد منها لتنفيذ إصلاحات اقتصادية جذرية.
- البرازيل: في بداية تحول البرازيل إلى دولة إنمائية (عام 1994) كانت الحكومة قد نفذت إصلاحات على مستوى الاقتصاد الكلي لكبح التضخم من خلال «خطة ريال»، وأتمت تحرير التجارة الذي بدأته في عام 1988 بتخفيض التعريفات الجمركية وإزالة القيود الأخرى. وتبع ذلك انفتاح تجاري وسياسة نقدية ومالية حكيمة، وكذلك برامج اجتماعية مبتكرة أدت إلى الحد من الفقر وتقليص الفوارق في الدخل. وفي المجتمعات الكبيرة والمعقدة من البديهي أن تكون نتائج أي سياسة غير مؤكدة، لذلك تحتاج الدول الإنمائية إلى توجه عملي يمكنها من اختبار مجموعة من النهج المختلفة.
- الصين: كان الإصلاح والانفتاح في الصين نتيجة لاختيار حكيم، في أواخر السبعينيات لتخفيف القيود على مشاركة السكان في القرارات الاقتصادية. لكن الابتكارات المؤسسية التي أجريت لدعم التحول في الصين كانت أشبه بنهج دنغ شياو بينغ التدريجي الحذر الذي عبر عنه بمقولته الشهيرة «كمن يعبر النهر بتلمس الحجارة». فبين عامي 1979 و1989، كان ما لا يقل عن 40 في المائة من القوانين والأنظمة الوطنية في الصين ساريًا على سبيل الاختبار. وسمحت المجموعة الأولى من الإصلاحات الزراعية للمزارعين باستئجار أراض وتقديم حصة من الإنتاج بأسعار ثابتة إلى الدولة وبيع الفائض. وبعد ذلك جاء التوسع في مشاريع البلدات والقرى. ويتصف النهج التدرجي في الصين بتوجه عملي اتبعته القيادة. وربما من دوافع هذا التوجه العملي أيضًا إدراكهم استحالة التخطيط للتحول، وخيبة الأمل من نظام التخطيط برمته.