كانت ولادته في عام 1964 ولم يكن له من شيء مميز في شخصيته، فمن رأى ملامح ذلك الطفل الهادئة البريئة لن يثيره أي شيء فيه، فقد كان طفلًا عاديًا تمامًا، غير أن ما كان يستثير الحماس فيه عيناه اللتان تحملان من البريق والطموح الشيء الكثير غير أنهما لم تبصرا الطريق بعد، كانت ميول ذلك الفتى الصغير متمثلة في التركيبات المنطقية، فحينما عاش فترة من عمره في الريف، كان جل ما يشغله هو كيف تعمل الآلات الميكانيكية في الحقل، وكان يومًا ما قد قام بفك سريره قطعة قطعة، وأعاد تركيبه مرة أخرى، مما دفع المخالطين له أن يتهموه بالحمق والغباء ويحذروا الآخرين من شقاوته ومشكلاته، ذلك على الرغم من أن دكتور (سبوك) الخبير التربوي العالمي يؤكد أن هذه العلامة من علامات النبوغ والعبقرية لدى الأطفال.
كان هذا الفتى الصغير يكره مسائل الفيزياء للغاية إلى درجة أن دفعه ذلك إلى ترك المدرسة والتوجه إلى دراسة ما يُحب، ولعل ذلك تأسيًا بما فعله مؤسس شركة أبل العبقري ستيف جوبز حينما ترك الدراسة المملة واتجه إلى دراسة الخطوط التي كان يحبها، لذا توجه ذلك الفتى إلى دراسة علوم الحاسب، وبالفعل تمكن من الحصول على بكالوريوس العلوم في الهندسة الإلكترونية وعلوم الكمبيوتر من جامعة برنستون عام 1986.
ولحبه للمغامرة والطموح فقد انطلق إلى وول ستريت ليعمل كمهندس كمبيوتر وإنشاء شبكات كمبيوتر في مجال التجارة الدولية لدى شركة Fital، وفي هذه الشركة بدأت الأحلام تراوده في إنشاء شركته الخاصة، لذلك لم يستمر فيها طويلًا فقد تركها ثم انطلق لينال خبرة أكبر في مجال الاستثمار بالتوظف لدى شركة BankersTrust، وترقى فيها ونال منصبًا لم ينله من هو في سنه أبدًا من قبل، حيث أصبح أصغر نائب رئيس للشركة وقتها، وعلى الرغم من علو منصبه فقد تركه، وبدأ البحث عن خبرة تجارية أكبر فعمل بعدها في شركة D.E. Shaw& Co. وفيها بدأ حلمه يظهر إلى الوجود، ويلح عليه في أن يبدأ في بيع الكتب من خلال الإنترنت، ومع هذه الفكرة شديدة الإلحاح عليه إضافة إلى الملل الذي أصابه جراء العمل في أكثر من وظيفة بدأ في تحقيق حلمه، فتقدم باستقالته من عمله مصارحًا لرئيسه برغبته في عمل موقع على الإنترنت لبيع الكتب، ويومها اتهمه رئيسه بالحمق والغباء, غير أن تلك التهمة لم تثني حماسه في تحقيق حلمه.
ذلك المغامر الذكي هو جيف بيزوس مالك ومؤسس شركة Amazon.comوقد أعطاه هذا الاسم تيمنًا بنهر أمريكا العظيم نهر الأمازون الذي يلقب بملك الأنهار، ويعد أعرض أنهار الدنيا وأكثرها غزارة وتدفقًا، وفي جراج منزله بدأ الحلم في الظهور، حصل بيزوس على تمويل من والده بمبلغ مائة ألف دولار ليبدأ بها مشروعه، ثم حصل على مائتي ألف دولار من أهل زوجته كقرض ليكمل هذا المشروع الحالم، ومن طريف ما يذكر حول قصة تمويل المشروع هو ذلك الاجتماع الذي قام به مع مجموعة من المستثمرين بغرض عرض فكرة إنشاء موقع على الإنترنت يبيع الكتب للعالم أجمع، وكان يطلب وقتها منهم خمسين ألف دولار فقط وذلك ليصبح مجموع رأس مال المشروع مليون دولار، غير أن المستثمرين أحجموا ورأوا عدم جدوى فكرة كهذه، وأن مآلها حتمًا إلى الفشل، وهم هم نفس المستثمرين الذين جاءوا إليه بعد انطلاقة أمازون بأقل من عام يطلبون منه أخذ أموالهم ليسمح لهم بالاشتراك في هذا المشروع الرائع الذي لم يقدروه قدره.
أمازون تحول الآن إلى أكبر مخزن على الإطلاق على سطح الأرض لبيع المنتجات عبر الإنترنت، وقُدرت إيراداته للعام المالي 2011 بـ 48 مليار دولار، ودخل مؤسسه (جيف بيزوس) بهذا كواحد من مليارديرات الإنترنت العشرة الأكثر شهرة حول العالم، وأمازون من الشركات التي لديها الجرأة لحساب دخلها بالثانية والذي يبلغ بما متوسطه ألف دولار في الثانية.
ما زلت أتذكر أول علاقة لي مع موقع Amazonعام 2006 عندما اشتريت منه كتابًا في مجال دراستي العليا آنذاك، والذي وصل لي في ظرف ثلاثة أيام من الشراء، وبعد ذلك جاءتني رسالة مهذبة على بريدي تطلب تقييم الخدمة وتسأل عن المشاكل والمعوقات، ومن خلال تأملي لسيرة وحياة مؤسس هذا المشروع الرائع جيف بيزوس تبين لي قيمة الخروج عن المعتاد وخوض المغامرة الجريئة التي نحبها رغم ما حققنا من منزلة أو مكانة، وذلك أسوة بكل من حققوا لأنفسهم ومجتمعهم نجاحًا وسموًا، فعلى الرغم من أن أكثر الناس يحبون الاستقرار والدعة والهدوء والثبات وليس من ضمن حساباتهم أن يخوضوا أي مغامرة لهم في حياتهم، فالإنسان كما تقول الحكمة عدو ما يجهل، غير أن التاريخ قد علمنا أن كل من تخلوا عن الروتين وخاضوا المغامرة كان لهم في حياتهم أوفر الحظ والنصيب من النجاح والسمو والتقدم والمال والشهرة.

بقلم: م. عبدالله عسيري