من الأشياء الملحوظة اهتمام كثير من الناس خاصة في مرحلة الشباب والمراهقة بالشكل على حساب الأصل، أو بمعنى آخر بالمظهر على حساب المخبر أو الجوهر، أو بمعنى ثالث بالظاهر على حساب الباطن..! وقد اعتاد البعض على قبول ذلك، خاصة من الشباب أو المراهقين؛ نظرًا لما يمرون به في هذه المرحلة العمرية من تغيرات مادية ونفسية، فالجسم في هذه المرحلة يأخذ شكلاً مغايرًا للجسم في مرحلة الطفولة المتأخرة، إذ يطول الشاب أو الفتاة، ويبدأ ظهور علامات أخرى لأجسامهم، وكذلك يتغير المزاج الشخصي، ويميل نحو تنفيذ ما يراه، وعدم تنفيذ أو معاندة ما يملى عليه حتى وإن كان من أقرب الناس إليه..
ويبدأ الشاب أو الفتاة في الشعور بالأنا، أو الشعور بالذات.. وكل هذه التغيرات وغيرها من الأمور الطبيعية المتعارف عليها بين الناس.. ولكن لكل شيء حدود يجب التوقف عندها.. وكما يقال: إذا زاد الشيء عن حده انقلب ضده.. بمعنى أن الوسطية في كل شيء أمر مطلوب.. والوسطية تحمي الشاب أو الفتاة من الشطط أو الغلو، أو الميل كل الميل نحو أشياء قد تضرهم على المدى البعيد.. ومن هذه الأشياء تفضيل الشكل أو المظهر على الجوهر أو المخبر على طول الوقت.. لما في ذلك من أضرار بالغة تعود على من يتبع ذلك في حاضره ومستقبله.. فعلى سبيل المثال من يقضي (أو تقضي) جل وقته في الاهتمام والعناية بشكله وهندامه وغيرها من الأمور الشكلية، ولا يوجه إلا القليل من الوقت نحو عمله أو مذاكرته أو ثقافته العامة، ويستمر على ذلك لن يجني إلا الجهل وضياع المستقبل، فالاهتمام بالشكل أو المظهر مطلوب ولكن في حدوده، والاهتمام بالجوهر مطلوب وفي حدوده أيضًا..
وللعجب هناك من الشباب (والفتيات) من يعتقدون أن الشكل أو المظهر هو كل شيء بالنسبة لهم (ولهن).. ويبررون ذلك بأن الناس يهتمون دومًا بالشكل والمظهر الخارجي.. ويقولون: انظر كيف يتعاملون مع أصحاب المظهر الأنيق ذوي الملابس المرتفعة الثمن..! فهم يقدرونهم ويعملون لهم حساب، ويضعونهم في مكانة عالية..! وعلى العكس من ذلك لا يهتمون بصاحب المظهر العادي حتى ولو كان يحمل الكثير من العلم والثقافة.
هذا مفهوم خاطئ.. كيف ترسَّخَ في ذهن هؤلاء؟! فجوهر الإنسان ومخبره هو الأصل وليس شكله ومظهره الخارجي فقط.
ومن العجيب أيضًا أن تجد بعض الشباب يتهم من ينادي بأن الجوهر مقدم على المظهر بأنه يحمل مفاهيم تقليدية قديمة عفا عليها الزمن.. ويستدل على ذلك بأن الناس في زماننا الحالي لا يتعاملون مع الجوهر ولا يهمهم هذا الجوهر من الأساس، فهم يريدون التعامل السريع، ويهابون الشخص صاحب الشكل أو المظهر الأنيق الجذاب، فهم يعتقدون فيه فورًا إما أنه ذو مالٍ أو ذو جاه، ويبدؤون في التقرب إليه، والتزلف له طمعًا في عطية ما، أو قضاء مصلحة معينة لهم..! ويؤكدون أن هذا هو الواقع الحقيقي والفعلي.. فالشكل الخارجي هو الذي يدل على شخصية الإنسان..! ويستشهدون بالمثل القائل: «الجواب يبان من عنوانه» فصاحب المظهر الأنيق والشكل الجذاب هو المقدم والمفضل بين الناس وليس العكس.
إن هذا المفهوم بكل تأكيد مفهوم خاطئ لأنه لا يستقيم مع الفطرة السوية للناس، ولا مع العقل الراجح البصير.. فهناك قيم دينية ومبادئ إنسانية وأصول موروثة بين العقلاء من الناس تقرُّ بأن جوهر الإنسان هو الحكم الأصيل على شخصيته، والمحدد الناجع لطبيعة هذه الشخصية، ويستطيع العقلاء من الناس؛ ومن خلال ما يحمله الفرد من قيم دينية ومبادئ إنسانية أن يقرروا طبيعة التعامل مع هذا الفرد، لا من خلال شكله ومظهره الخارجي، وإن كان يلبس ما يلبس من ملابس غالية الثمن، أو يتشدق بكلمات من وجهة نظره تدل على ثقافة ما..
إن الإنسان صاحب الفطرة السوية تراه محافظًا ومتمسكًا بأن يكون المظهر والشكل الخارجي نظيفًا أنيقًا في غير إسراف ولا كبر ولا خيلاء، ويعتقد هذا الإنسان أن المظهر أو الشكل يدل بنسبة معينة على شخصية صاحبه، وذلك عند العقلاء المثقفين فعلًا، وأصحاب البصيرة من الناس.
إن المظهر الخارجي يجذب الناس إليك ويجعلهم يتقربون منك إن كان حسنًا.. أو ينفرهم منك ويبعدهم عنك إن كان غير حسن.. وهذه طبيعة بشرية.. وإن كان كثير من الناس ينخدعون في المظهر ويحكمون على صاحبه حكمًا مطلقًا من دون النظر إلى جوهره، ويصنفونه في فئة معينة أو يضعونه في مكانة عالية لا يستحقها فهذه مشكلة كبرى تبرهن على خلل في تفكيرهم، وخلل في حكمهم على الناس، وعدم بصيرة في الأصل.
إن أصحاب العقل الراجح والبصيرة النافذة لا ينخدعون بالمظهر والشكل الخارجي ويحكمون عليك من خلاله وينسون أو يتناسون الجوهر، وهم يعلمون أن الشكل الخارجي هو جزء من مكونات الشخصية وأمر مطلوب وضرورة من ضرورات الحياة، فالأصل أن الإنسان يظهر في صورة طيبة وجميلة، وهذا مما دعا إليه ديننا الحنيف.. عن أبى هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه، ويكره البؤس والتباؤس ويبغض السائل الملحف ويحب الحيي العفيف المتعفف‏».‏
وروي عن رسول الله صلى الله عليه أنه قال: «أحسنوا لباسكم وأصلحوا رحالكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس‏‏».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها» رواه جابر‏.‏
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال، سخي يحب السخاء، ونظيف يحب النظافة» رواه ابن عمر‏.‏
وقـد رأى بعض الناس عبدالله بن عباس وعليه حلة جميلة، فأنكروا عليه ذلك وقالوا: ما هذه الثياب التي عليك يا بن عباس؟ قال: فوالله، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه حلة ليس أحد أحسن منه، ثم تلا عليهم قوله تعالى: }قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَات منَ الرِّزْق قُلْ هِيَ للَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالصَةً يَوْمَ الْقيَامَةِ). قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني لأحب أن أتزيَّن لامرأتي كما أحبُّ أن تتزيَّن لي؛ لأن الله تعالى يقول:}وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ{.
عيوب تفضيل الشكل على الأصل (أو المظهر على الجوهر):
• بذل المال والوقت والجهد في غير محله: فالشاب (أو الفتاة) الذي يهتم بالمظهر ويفضله على الجوهر، تراه يضيع وقته فيما لا طائل من ورائه إلا كلمات ثناء من أشباهه من المظهريين أو الشكليين – إن جاز التعبير-، وتراه أيضًا يضيع ماله كي يحافظ على تميزه الشكلي، وهو بذلك يضع نفسه في دائرة الأخسرين أعمالا، ويضع نسفه في دائرة المسرفين والمبذرين.
• خـداع الشاب (أو الفتاة) نفسه: فليعلم الشاب (الفتاة) الذي يختار ويفضل المظهر على الجوهر أن أول المنخدعين باختياره وتفضيله هذا هو نفسه (نفسها)، فهو الخاسر الأكبر من جراء هذا التفضيل، إذ في الغالب يصرفه الانشغال بالشكل والمظهر الخارجي عن بناء ذاته من الداخل، سواء من الناحية العلمية، أو من الناحية الثقافية، فوقته مصروف نحو الظهور بشكل معين، وفكره مشغول حول كيفية المحافظة على هذا الشكل وما يلزمه من ملابس، وتصفيف شعر...إلخ، فهو دائم التفكير في الحفاظ على الشكل. وانصرافه هذا يؤدي إلى خواء جوهره الثقافي والعلمي، ومن يحتك به من المثقفين سرعان ما يكتشف خواءه هذا حتى وإن تظاهر بكلمات حفظها، ويرددها ظنًا منه أنها دليل على ثقافته.. ولو كان الدليل بهذه البساطة أو السذاجة لعدّ كل الناس مثقفين. وحقًا قد ينخدع الآخر بشكلك وقتًا ما – قل أم كثر – ولكنه لن ينخدع بشكلك كل الوقت، وفي حال اكتشافك على حقيقتك التي تغاير شكلك فلن يكون الأمر في صالحك كما كان، وستتغير معاملة الآخر لك، وقد ينصرف عنك.. وفي هذا خسارة اجتماعية لا يعوضها الاهتمام بالشكل.. إذ لا يستطيع إنسان سوي أن يحيا بمفرده، أو يحيا منبوذًا من الآخرين، أو يحيا ممثلًا على الناس طوال الوقت؛ فهذا أمر يستحيل الحدوث.
• التعرض لمخاطر وآثام الكبر والعجب بالنفس: إن الشاب (أو الفتاة) الذي يفضل المظهر على الجوهر ويختال بنفسه، ويعجب بشكله، ويظن أن ليس هناك من هو أفضل منه شكلًا، يعرض نفسه لمخاطر وآثام الكبر والعجب بالنفس. فالاهتمام الزائد عن الحد - والمغالى فيه - بالشكل..باب أصيل من أبواب العجب والكبر.. وهما من الذنوب العظيمة التي تحرم صاحبها من دخول الجنة.. عن عبدالله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس «أخرجه مسلم. وهل هناك خسران وضياع أكثر من هذا الجزاء؟!.. فضلًا عن عقاب الدنيا من بعد الناس عن المغرور، وكرههم له.
مزايا التوازن في الاهتمام بالأصل (الجوهر - المخبر – الباطن) والشكل (المظهر) الخارجي:
• الرضا والقرب من الله سبحانه وتعالى: إن الشاب (الفتاة) الذي يهتم بجوهره، بأن تكون سريرته نقية، قربة إلى الله تعالى هو الفائز من دون شك.. وإن كان اهتمامه بالشكل نابعًا من نية صادقة تدفع صاحبها لأن يظهر نعمة الله عليه دون كبر ولا عجب ولا خيلاء، فهو في عبادة يؤجر عليها إن شاء الله، وهو في الوقت نفسه يشبع شعورًا طبيعيًا ذاتيًا فطريًا يتمثل في حب الظهور في شكل طيب حسن. فالدنيا خلقت للمؤمن يتمتع بما أنعم الله عليه فيها بشرط ألا يداخله كبر ولا خيلاء، وأن يشكر الله سبحانه على هذه النعم بالقول والعمل، ويستشعر فضل الله سبحانه عليه حين ينظر لمن حرم هذه النعم لحكمة يعلمها الله.. إن الشعور بالرضا والقرب من الله سبحانه وتعالى لا يقارن أبدًا بأي شعور آخر. صاحب الجوهر الأصيل تراه دومًا يغذي روحه عن طريق الإيمان الذي يعتقد أنه الركن القوي الرشيـد الذي يستند إليه كي يحافظ على جوهره، ويعتقد أن الإيمان الحق الذي يستقر في القلب ويصدقه العمل هو أساس وجود الجوهر الأصيل، والذي يحث أيضًا على أن يكون الشكل مقبولًا، محببًا لا منفرًا.
• الاهتمام بالمظهر في حدوده: المؤمن المتوكل على الله مأمور شرعًا بالتجمل المحمود.. في المظهر الحسن والملبس النظيف الأنيق، فإذا كان يشغل منصبًا مرموقًا يجب عليه أن يظهر بما يناسب هذا المنصب، وإن كان يسعى للحصول على وظيفة ما يجب عليه أن يستعد لها بالشكل والمظهر المناسب، وإن فعل غير ذلك مفضلًا الجوهر وما يحويه من علم وخبرة وثقافة ومهارة، ومهملًا للشكل والمظهر الخارجي فهو مقصر بكل تأكيد، فالتوازن أمر مهم جدًا بين الجوهر والشكل.
• الاهتمام بالجوهر استثمار رابح: من دون شك.. إن اهتمام الشاب (الفتاة – الرجل – المرأة) بالجوهر يعد استثمارًا رابحًا، إذ إن الجمال الحقيقي هو جمال الجوهر، فكم من أناس يتمتعون بجمال الشكل والملبس ولكنهم لا يتمتعون بجمال الجوهر ولا يتمتعون في الوقت ذاته بحب الناس بل ينفرون منهم ويبتعدون عنهم؟! والعكس صحيح كم من أناس مقبولي الشكل بسيطي المظهر ولكنهم يتمتعون بجمال الروح، وجمال الجوهر.. نجدهـم يتمتعون بحب الناس وإقبالهم عليهم؟! وهذا أمر لا ينكره عاقل.
• صاحب الجوهر المتميز يجلب احترام الناس وثقتهم فيه: لا شك في أن الشاب (الفتاة.. وغيرهم) صاحب الجوهر الأصيل، النبيل، النقي، المثقف، المتعلم، المتميز.. يحظى باحترام وثقة الآخر لما يحمله من خلق وثقافة وعلم ورقي وإنسانية.
• الحث على طلب العلم: إن الشاب (الفتاة) صاحب الجوهر الأصيل تراه دومًا في حالة طلب للعلم في أي مكان وتحت أية ظروف؛ فهو يعلم أن غذاء العقل لا يقل أبدًا عن غذاء البدن، فإن كان مأكله ومشربه لتقوية بدنه والظهور به في أحسن شكل أمر ضروري، فمن الضروري أيضًا أن يغذي عقله بالعلم النافع، والثقافة المفيدة، سواء كانت في مجال تخصصه، أو الثقافة بشكل عام التي لا تقف عند التخصص المحدود.
• حب الناس: ليعلم الشاب أن الناس يحبون الجمال بالفطرة، ويحبون التعامل والنظر إلى الوجه الجميل، والمظهر الأنيق، ويأنسون لذلك.. وهذا يحتم على كل إنسان أن يهتم بذلك انطلاقًا من باب الحفاظ على الأواصر الاجتماعية وزيادتها، ومن باب التواصل والتفاعل مع المجتمع المحيط به، وفي ذلك فائدة له وللمجتمع، مع الحذر من المغالاة في الاهتمام بالمظهر الخارجي، وألا يكون على حساب الجوهر بأي نسبة كانت، أو بأي شكل من الأشكال.

بقلم: فاطمة موسى