دار حديث (خيالي) بيني وبين صديقة وزميلة لي في العمل، ولكنها في قسم غير القسم الذي أعمل به، بعدما رأيت الحزن باديًا على وجهها..
قلت لها: ما لي أراكِ على غير عادتك؟
قالت لي: أُقِلتُ من عملي.
قلت وقد أخذتني الدهشة: كيف هذا؟ فأنت من أكفأ الموظفات في الشركة، ومتى علمت بهذا القرار؟ وما السبب في صدوره؟
قالت: علمت به منذ قليل.. وأعتقد أن السبب يرجع إلى شدة الحوار الذي دار بيني وبين المشرفة المباشرة لي.
قلت: كم من مرة أسديت لك النصيحة أن تتحكمي في انفعالاتك مع من تتعاملين معهم من الناس بصفة عامة، ومع رؤسائك في العمل بصفة خاصة، وكان ردك الفوري: «أنا هكذا، والتي لا تقبلني على وضعي هذا فأنا غير مسؤولة عن قرارها»، وللأسف الشديد تأصلت فيك صفة مذمومة تؤدي بصاحبها إلى التهلكة، ألا وهي عدم التحكم في انفعالاتك أو بمسمى آخر سرعة الغضب، وما ينتج عنها ردة فعل سريعة ومتهورة، وذات عواقب وخيمة.
قالت بانفعال معهود: أنا هكذا، لا أستطيع أن أتحكم في أعصابي..! فأنا أعبر عن رأيي بالأسلوب الذي يريحني، أي إنسان - أو إنسانة - يتعرض لما تعرضت له كان سينفعل مثلما انفعلت..!
قلت: لا، هذه مغالطة.. فهناك الإنسان – أو الإنسانة - الحليم الهادئ المسيطر على أعصابه وتصرفاته، الذي يدرك عاقبة تهوره، ويوصِل ما يريد بكل هدوء.
قالت ساخرة: هذه مثالية، وأنا لم أر هذه الإنسانة أو هذا الإنسان بعد..!
قلت: لأنك لا تنظرين للناس إلا من خلال منظورك الشخصي الانفعالي، حتى لو تعاملتِ مع الحليم – أو الحليمة - الهادئ الطبع، كثرة انفعالاتك وسرعة غضبك لا تمكِّنك من التعرف عليها كما ينبغي.
قالت: أمعقول ما تقولين؟
قلت: نعم.
وواصلت: ولقد رأيت نتيجة سرعة الغضب، أُقِلْت من عملك الذي منّ الله به عليك بعد طول انتظار ومشقة في البحث، وما أن بدأت في تحقيق جزء يسير من طموحاتك العملية داخل الشركة من مكانة مادية ومعنوية، وبدأت تلفتين الأنظار إلى ما تحملينه من كفاءة علمية وعملية، جاءت انفعالاتك وسرعة غضبك لتهدم كل ما بنيت.
قالت: أنا تعودت على الغضب والانفعال السريع، وأشعر الآن بمدى تأثيرهمــــــا على مستقبلي، وعلى علاقاتي الاجتماعية وعلاقاتي في العمل.. فماذا أفعل؟ وهل من سبيل للتخلص من الغضب والانفعال السريع؟
قلت: نعم، وأؤكد لك بدايةً أنك سوف تتخلصين – بإذن الله - من هذه الآفة الخطيرة التي تدمر أول ما تدمر صاحبها، لما لها من آثار سلبية على أعضاء جسمه المادية، ولما لها من آثار سلبية أيضًا على نفسيته وروحه المعنوية، وهذا التقرير بل والتأكيد ناتج من يقيني بأن من يتبع أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويسير على نهجه فسوف يصل إلى طريق الحق والفلاح.
ولقد وضح رسول الله – صلى الله عليه وسلم - الطريق إلى التخلص من الغضب باكتساب صفة الحلم.. روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: «إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا، من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة».
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي سأله الوصية بألا يغضب، كما جاء في الحديث.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أوصني»، فردّد، قال : «لا تغضب» رواه البخاري.
ما الغضب؟
تعريف الغضب: الغضب هو حالة انفعالية تصيب الإنسان من الداخل، وتتفاعل هذه الحالة بدرجات معينة، تبدأ بما يسمى بالغضب البسيط الناتج عن الاستثارة والضجر وغيرها من المسببات، ثم تكبر نتيجة التفاعل الداخلي إلى أن تنتهي بالغضب الشديد الذي تظهر معالمه بالانفعال الشديد وأحمرار الوجه وعلو الصوت والتلفظ بألفاظ غير متوقعة، والأخطــــــر من كل ذلك اتخاذ قرار ما قد يترتب عليه نتائج خطيرة يلمسها الغاضب بعد ذلك، ويندم على اتخاذها ساعة لا ينفع الندم.
ما أنواع الغضب ؟
أنواع الغضب:
الغضب الإيجابي: وأهـم ما فيه الغضب عندما تنتهـــــــك حرمات الله سبحانه وتعالى، وكذلك الغضب من النفس عند تقصيرها وتفريطها في حقوق الله سبحانه، والغضب منها أيضًا عند تقصيرها في حق صاحبها، وذلك بعدم مساعدته على إنجاز عمله، وأدائه بكفاءة عالية، وعدم مساعدته كذلك على اكتساب العلم والمهارات التي تساعده على الوصول إلى مكانة مرموقـة يسعى إليها. ويغضب من نفسه أيضًا – ويكون غضبًا إيجابيًا – عند تقصيرها في حق ذويه، ومجتمعه الصغير المحيط به، فضلًا عن تقصيرها تجاه مجتمعه الكبير ووطنه الذي يحيا بين جنباته.
الغضب السلبي: وهو الغضب الذي تظهر نتائجه في انتصار صاحبه لنفسه سواء كانت على حق أم على باطل، منتهجًا أساليب وطرقًا تحتوى على العنف في القول أو العمل.
ما آثار الغضب؟
آثار الغضب:
• فقدان التوازن: إن الغضب يفقد صاحبه التحكم في نفسه عندما يقع، ويؤدي به إلى فقدان التوازن: أي عدم قدرة العقل على التفكير بشكل صحيح حيث ينشغل بظواهر الأسباب التي أدت إلى الغضب، وينصرف عن التفكير في كيفية التعامل مع جوهر هذه الأسباب بتؤدة وحكمة، وتكون النتيجة عدم اتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب، وهذا بلا شك في غير صالح سريع الغضب الذي تتأصل فيه هذه الآفة المرضية الخطيرة.
• فقدان العمل: فالغضب قد يدفع صاحبه إلى قول رأيه بشكل غير ملائم خاصة إن كـــــــــان في وجه من يرأسه في العمل، وقد يدفع صاحبه أيضًا إلى عدم تحمل ضغوط العمل، وقد يدفعه أيضًا إلى عدم تحمل هفوات وزلات زملائه في العمل، وكل ذلك قد يدفعه إلى الاستقالة أو الإقالة من عمله وفي كلا الحالتين فقده للعمل ومصدر رزقه، وفي ذلك خسران كبير له، قد يؤدي به إلى سؤال الناس، أو إلى إتيان أفعال مشينة ومدمرة لمستقبله كله.
• ضياع المكانة والهيبة بين الناس: إن الغضب لا يفقد العقل التفكير الصحيح فقط، بل قد يسلب من صاحبه، حيث يراه الناس وقت الغضب وشدة الانفعال في شكل غير شكله المعتاد وكأنه أصابه شيء من الجنون، فترى انتفاخ أوداجه وأحمرار أذنيه وامتلاء عينيه بالشر، وإتيانه أفعالًا وأقوالًا لا تليق، مما يفقده مكانته الاجتماعية – حال وجودها – وهيبته بين الناس. وفي ذلك يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنـه: «أول الغضب جنون، وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب». وقال أحد الحكماء لابنه: «يا بني، لا يثبت العقل عند الغضب، كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل الناس غضبًا أعقلهم»، وقـال آخر: «ما تكلمت في غضبي قط، بما أندم عليه إذا رضيت».
• نقصان الحكمة، والرأي السديد: فسريع الانفعال والغضب تنقصه الحكمة، والرأي السديد، بسبب نقص التريث وإعمال التفكير والسيطرة على أعصابـه، ولذلك لا يستشار ممن هم على شاكلته، حيث لا يجيد مهارة الإنصات والاستماع للآخر فضلًا عمن يستشيره لتتضح له معالم ما يستشار فيه، فهو لا طاقة له على الصبر حتى يفرغ طالب الاستشارة من توضيح كل ما يريد، حيث تتحكم فيه الأهواء والعواطف، وتثيره الكلمات وينفعل معها. وهو بذلك قليل التجارب، ومن ثم قليل الخبرة، يفتقد البصيرة، وهي من المكونات الأساسية لبناء الحكمة، والرأي السديد.
• ضياع الحق: فسريع الغضب قد يضيع حقه بانفعاله الشديد وسرعة غضبه، فالثائر لا يجيد بالقطع الدفاع عن حقه، فهو مغيب عن التفكير الراشد، وقد تخرج كلمات من فيهِ لا تعبر عن الحقيقة، ولهذا كان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا».
ما طرق ووسائل علاج والتخلص من الغضب ؟
1- الاستعانة بالله واللجوء إليه: إن صفة الغضب من صفات النفس البشرية، ومن رحمة الله بعباده أن جعلها من الصفات المكتسبة، ومن أهم سبل التغلب عليها اللجوء إلى الله سبحانه بالدعاء والاستجارة به أن يخلصنا من هذه الصفة الذميمة، فالله هو الخالق لهـذه النفس، وهو القادر سبحانه على كل شيء، ومن رحمته سبحانه بخلقه أن جعل الدعاء المستجاب سببًا في تغيير كل شيء حتى القدر يقـول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القدر إلا الدعاء» أخرجه الحاكم.. وقد أمرنا الله سبحانه بالدعاء مع الوعد الحق بالإجابة في قوله: }وقال ربكم ادعوني أستجب لكم{ سورة: غافر.. الآية: 60.
2- قهر الشيطان: من المسلم به أن الشيطان لا يريد لك الخير، واعلم أن وقت غضبك وعدم سيطرتك على أعصابك هو وقت جوهري بالنسبة له. فالشيطان يوقد جمرة الغضب ويؤججها في قلبك، ويصور لك النتائج السلبية التي قد تدفعك إلى ارتكاب حماقات قد تصل إلى الجرائم في حق نفسك أو في حق الآخرين، والحل يكمن في الاستعاذة بالله منه كما أمرنا الله سبحانه في قوله:}وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم{ سورة: الأعراف.. الآية: 200.
3- تدريب النفس على الحلم والأناة والسكينة والهدوء: إن التدريب على اكتساب صفة من الصفات، أمر ليس بالسهل وليس بالصعب معًا في آن، فالذي يدرك العواقب الوخيمة، والمخاطر الأليمة التي يجلبها الغضب السلبي.. عليه أن يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى اقتلاع هذه الصفة الذميمة من نفسه، وذلك عن طريق اكتساب صفة الحلم والهدوء والتروي، وتجنب ردود الأفعال غير المتصورة النتائج، والتفكر في عاقبة القرار قبل اتخاذه، وكل ذلك يأتي بالتدريب مع مراعاة التدرج.
4- التدريب الحركي: في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاج الفعّال.. حيث وصف العلاج الحركي لعلاج الغضب في قوله: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليَجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فَليضطَجِع» رواه أحمد وأبو داود وأبن حِبَّان، وقد ذهب العلم الحديث إلى أن الهرومونات التي يفرزها الجسم وتساعد وتؤجج عملية الغضب تنخفض عند الاستلقاء.
ومن التطبيقات العملية التي تفيدك في عملية إزالة مسببات الغضب أن تخلو بنفسك، وتسترخي على مقعد، وتأمر ذهنك بطرد الأفكار السلبية، والذكريات الأليمة، والأقوال التي أزعجتك طوال يومك، وتنظر للمواقف التي أثـارت غضبك من علٍ، وأن تتأمل العواقب الوخيمة التي كانت ستحدث جراء رد فعــــلك المتهــور، والعاقبة والآثـار الإيجابية لضبطك أعصابك، ولجمك نفسك، وكظمك غيظك، سترى أن البون شاسع بين العاقبتين، وأن في الحلم والأناة وعدم الغضب الفوز والنجاح الذي تتمناه لنفسك في جميع شؤونك العملية والاجتماعية.
5- كظم الغيط: إن كظم الغيظ من الوسائل المجدية للتحكم في الأعصاب، وعدم التهور في اتخاذ القرارات، وهذا يجنبك بلا شك ردود الأفعال الانفعالية غير المدروسة، والتي في غالبها لا تأتي بخير، بل تستجلب الندم في وقت لا ينفع فيه ندم.. وسبحان الله الخالق العظيم في أمره.. حيث يقول: }والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين{ سورة: آل عمران.. الآية: 134. وأجر كظم الغيظ عظيم عند الله إذ يدخل صاحبه في دائرة المحسنين الذين يحبهم الله، وفي ذلك أيضًا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من أي الحور شاء» رواه أبو داود.

بقلم: فاطمة موسى