حقًا إن العقل السليم في الجسم السليم، هذه مقولة تصلح في كل زمان ومكان؛ فالرياضة اليوم لم تعد كما كانت في الماضي - ولا تزال - وسيلة لبناء الجسد السليم فقط، بل أصبحت مجالًا هامًّا من مجالات الاستثمار البشري، والتجاري والصناعي والسياحي؛ بل والثقافي والحضاري أيضًا، وكلنا اليوم نسمع عن الأموال الطائلة التي تدفع في شراء اللاعبين، والأموال الطائلة التي تدفع في مجال الدعاية عن الشركات المستثمرة في مجال الملابس والأدوات التي تستعملها الألعاب الرياضية على تنوعها واختلافها.
وهناك فئة من الشباب تعتقد أن ممارسة الرياضة جزء من باب ملء وقت الفراغ، وفئة أخرى تعتقد أن ممارستها إشباع لهواية، وبعض منهم من يمارسها من باب اللهو والترفيه والترويح عن النفس، وبعض آخر يعتقد أن ممارستها يأتي من باب تحسين المظهر الخارجي لجسمه، وبعض يمارسها من باب أنها ترفع من روحه المعنوية، وبعض آخر يمارسها بغرض إنقاص وزنه بأمر طبيب للمساعدة على الشفاء من مرض ما، ومن الشباب من يمارسها ليكتسب اللياقة البدنية التي تؤهله للالتحاق ببعض الكليات، أو لتمكنه من الالتحاق بأي نادٍ رياضي إن كان لديه موهبة في لعبة رياضية ما، فالموهبة بمفردها - دون لياقة بدنية عالية - لا تمكنه من الالتحاق بأي ناد، وتختلف أسباب ممارسة الرياضة بين الشباب وهذا أمر طبيعي، فممارسة الشباب للرياضة تحت أي سبب مما ذكرت من أسباب - أو مما لم أذكر - أفضل بكثير من تركهم ممارسة الرياضة كلية.
الرياضة ضرورة لبناء وتقوية الجسم وتغذية العقل:
فالشاب الذكي يتعامل مع ممـارسة الرياضة تحت مسمى «العقل السليم في الجسم السليم».. ونجده يسعى إلى ممارسة الرياضة، ويجتهد في هذه الممارسة، ويتعامل معها على أنها وسيلة تمكّنه من اكتساب جسم سليم يوفر له أرضًا خصبة لاكتساب عقل سليم، فهو على يقين بأن العقل السليم هو أداة التميز بين إنسان عن إنسان آخر، وأن اكتساب عقل سليم أمر هام يسعى إليه كل إنسان يريد أن يرى نفسه في مكانة متميزة مرموقة، فما من أحد - شابًا كان أم رجلًا أم شيخًا أم فتاة أم امرأة - لا يريد لنفسه عقلًا سليمًا راجحًا يتميز به عن الآخرين، مع الأخذ في الحسبان أن هذا التميز لن يأتي فقط بوجود العقل السليم ولكن يتأتى بإعمال هذا العقل، فوجود العقل مع عدم إعماله يتساوى مع عدم وجوده، هذا من جانب، ومن جانب آخر يوقن هذا الشاب الذكي أن ممارسة الرياضة تكسبه جسمًا قويًا، يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، حيث يعينه على تحمل أداء العبادات من صلاة، وصيام، وحج.. وغيرها، فضلًا عن قدرته على السعي في إعمار الأرض، والتي تعد من الواجبات الضرورية الملقاة على عاتق كل مسلم خاصة الشباب الذي يجب عليه السعي لامتلاك أسباب القوة والقدرة على هذا الإعمار، من عقل سليم يمكنه من التخطيط الصحيح، وجسم معافى سليم - تساهم الممارسة الرياضية في بنائه وتقويته - يجعله قادرًا على تحمل مشاق التنفيذ والمتابعة والاستمرارية في إعمار الأرض بكل ما هو مفيد، ولذلك حثنا الإسلام على ممارسة الرياضة والتقوّي بها، ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير». فالجسم القوي أقدر على أداء التكاليف الدينية والدنيوية من الجسم الضعيف.
والرياضة إذ تساعد الجسم على التخلص من رواسب وفضلات الطعام بشكل طبيعي، وتكسب البدن لياقة بدنية عالية، تملؤه بالحيوية والنشاط، وتشعر الرياضة ممارسها باعتدال المزاج، حيث ترفع من روحه المعنوية، مما يشعره براحة نفسية تدفعه للإقبال على عمله أيًا كان بهمة عالية، تنعكس على إنتاجيته، وبالتالي تنعكس على دخله، وتقدمه في وظيفته أو تجارته أو صناعته، وهذا ينعكس بدوره على رفاهية المجتمع الممارس للرياضة كجزء من برنامجه اليومي، وينعكس في الأخير على تقدم الوطن ورفعته.
والشاب الذكي يعلم تمامًا أن أي أمر - أو عمل- مباح من أمور الدنيا إن اقترنت به نية سليمة خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى يثاب عليه في الدنيا والآخرة، حتى ولو كان ذلك العمل هو ممارسة الرياضة، يقول الإمام النووي في أهمية النية في ممارسة الرياضة: إن الأمر المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة.
هل هناك علاقة وثيقة بين الأخلاق والتميز الرياضي؟
اتسعت دائرة الاهتمام العالمي والإقليمي والمحلي داخل الدول بالرياضة، وكان لابد لمواكبة هذا الاهتمام من اهتمام موازٍ لأهمية وجود الأخلاق في الحقل الرياضي، فالرياضة الآن أصبحت محل اهتمام شرائح كبيرة من المجتمع وخاصة شريحة الشباب، ولم تعد الرياضة نوعًا من أنواع الترفيه واللهو واكتساب اللياقة البدنية والمظهر اللائق... إلخ بل أصبحت الرياضة صناعة كبيرة يستثمر فيها المليارات من الأموال، وأصبحت أحد المؤثرات في الحياة الاجتماعية أيضًا بتأثيرها غير المباشر على الأخلاق، ونظرًا لتزايد عدد الممارسين لها، وعدد المشاهدين لها، وعدد المهتمين بتسجيل وتحطيم الأرقام القياسية في المسابقات المتنوعة التي تعتمد على الألعاب الفردية والجماعية، وزيادة اهتمام الدول بالإنجازات الرياضية والتميز فيها، كان لابد من الاهتمام بوجود الأخلاق في الرياضة لتكون الرياضة عاملًا مساعدًا لنشر الأخلاق خاصة بين فئات الشباب المتابعين والممارسين للنشاط الرياضي، ومن ثم تعمل الرياضة على تنمية الشباب من الناحية الأخلاقية من خلال إكسابهم الروح الرياضية التي تدفعهم إلى تفضيل التسامح على التناحر في تعاملاتهم المختلفة بين بعضه البعض، وبينهم وبين الآخرين ممن يكبرونهم أو يصغرونهم في الأعمار.
ومما لا شك فيه أن ممارسة الشاب للرياضة تكسبه المزيد من الأخلاق الحسنة، وتكسبه أيضًا الكثير من الخصال والصفات الحميدة، وأن الأخلاق بدورها تؤثر فيه بالإيجاب وتدفعه إلى التميز الرياضي، فالشاب الرياضي صاحب الخلق الرفيع تجده متميزًا في أدائه الرياضي، فتجد لاعب كرة القدم - أو أي لعبة أخرى - صاحب الأخلاق الحميدة متميزًا في مجهوده داخل الملعب - بسبب محافظته على صحته - وتجده أيضًا متعاونًا مع زملائه، محبوبًا منهم ومن جمهور المشجعين سواء المنتمين لناديه أو للأندية الأخرى، وهناك أمثلة عديدة على ذلك.
وقد أثبتت العديد من البحوث أن هناك علاقة وثيقة ومتوافقة بين ممارسة الرياضة والتحلي بالأخلاق الحسنة، ومن هذه الدراسات ما ذكره الباحثان ويست، وبوتشر في دراسة لهما عن بعض الإسهامات التربوية التي يمكن أن تعبر بوضوح عن طبيعة العلاقة بين ممارسة الرياضة أو التربية البدنية والنظام التربوي، منها:
• تسهم التربية البدنية في زيادة التحصيل الدراسي.
• النشاط الحركي وثيق الصلة بالعمليات العقلية العليا.




• تسهم التربية البدنية في المعرفة المتصلة بالصحة واللياقة.
• تسهم التربية البدنية في فهم جسم الإنسان.
• تسهم التربية البدنية في فهم دور الرياضة في الثقافة العالمية.
• توجه التربية البدنية حياة الفرد نحو أهداف نافعة مفيدة.
• تسهم التربية البدنية في الاستهلاك المتعقل للبضائع والخدمات.
• تسهم التربية البدنية في تأكيد الذات وتقدير النفس والاتجاه الإيجابي نحو النشاط البدني بشكل عام.
• تسهم التربية البدنية في تقدير الجمال.
• تسهم التربية البدنية في تنمية الاعتبارات الإنسانية والتأكيد عليها.
• تسهم التربية البدنية في تنمية قيمة التعاون.
• تسهم التربية البدنية في نشر مفاهيم اللعب الشريف والروح الرياضية.
• تنمية المهارات الحركية النافعة سواء في الرياضة أو غيرها.
• تنمية المهارات الحركية التي يمكن أن تفيد في الترويح وأوقات الفراغ.
• تنمية المهارات الأساسية في المحافظة على البيئة الطبيعية.
دور فعال للرياضة في المحافظة على الشباب وتنميته وتطوير ذاته:
تؤدي الرياضة دورًا هامًا في شغل أوقات الفراغ لدى الشباب، فهي وسيلة هامة من وسائل الترويح عن النفس.
وتساهم الرياضة بفعالية بجانب الأنشطة الاجتماعية والثقافية والتعليمية والتدريبية التي توفرها وتقدمها الأندية للشباب - تنفيذًا لسياسات المسؤولين عن رعاية الشباب وتنميتهـم - في بناء شخصية هؤلاء الشباب، فبرامج التربية البدنية الموضوعة على أسس علمية وخبرات وتجارب تساعد الشباب على بناء أجسامهم بناء قويًا سليمًَا، والأنشطة الاجتماعية البناءة تساعد الشباب على الاندماج الفعّال في المجتمع، وكذلك الأنشطة والبرامج الثقافية التي تعمل على تعريف الشاب بحضارة وتاريخ وحاضر ومستقبل وطنهـم، وإشعار هؤلاء الشباب بأهميتهم الكبيرة لوطنهم وبأنهم جزء لا يتجزأ منه، وبأنهم عماد هذا الوطن ونصف حاضره وكل مستقبله، وأن كل ما ينفق على الاستثمار في تنمية الوطن إنما هو إنفاق يهدف إلى إيجاد مستقبل مشرق لهم، مما يؤدي إلى زيادة روح الانتماء الوطني لديهم، ويدفعهـم إلى بذل كل الطاقات لرفعة شأن وطنهم، فضلاً عن برامج التوعية التي تحذر الشباب من مخاطر الجريمة، وتحذرهم من الآثار الخطيرة المترتبة على الوقوع في براثن الإدمان، وبيان خطورة ذلك على مستقبلهم ومستقبل وطنهم.
إن ممارسة الرياضة تساعد كذلك في الحد من الآثار السلبية الناتجة من المشكلات التي تعترض كثيرًا من الشباب، وتحول بينهم وبين بناء وتنمية شخصياتهم، ومن أهم هذه المشكلات مشكلة الفراغ، وضعف الحس بالمسؤولية، وضعف الانتماء، وضعف الثقة بالنفس والقدرات الشخصية وغيرها من المشكلات التي تؤثر تأثيرًا مباشرًا في العوامل المشكلة لسلوكيات الشباب.
فممارسة أي نشاط رياضي وليكن اللعب ضمن فريق لكرة القدم يكسب الشباب عادات رياضية مفيدة تساعدهم على ترشيد سلوكهم مثل: التخطيط السليم، والتدريب الجاد لاكتساب اللياقة البدنية التي تمكنهم من إكمال المباراة بنفس قوة بدايتها، ويكونون ندًا قويًا من الناحية البدنية لمنافسيهم، فضلًا عن اكتسابهم المهارات الخططية والتكتيكية، وتنفيذ تعليمات المدير الفني قبل وأثناء المباراة، والعمل بروح الفريق، والتعاون لبلوغ الهدف، والمنافسة الشريفة، واحترام نظام وقوانين اللعبة، وبذل الجهد لتحقيق الفوز، واتباع نظام خاص خارج الملعب يحافظون به على صحتهم وذلك بالابتعاد عن السهر، والأمور الأخرى المؤثرة بشكل مباشر أو غير مباشر على صحتهم ولياقتهم البدنية، كل هذه العادات الرياضية تؤثر تأثيرًا مباشرًا في تكوين وبناء شخصيات هؤلاء الشباب، فترى الشاب الملتزم بهذه العادات في ممارسة رياضته ملتزمًا بها في كل شؤونه الأخرى، فنجده متفوقًا في دراسته، محترمًا لأوقاته، متعاونًا مع أسرته وأصدقائه، منفذًا لتعليمات والديه وأساتذته، محترمًا للقوانين، مشحونًا دومًا بروح الفوز والتميز... إلخ.
وأخيرًا.. إن الرياضة تعتبر - بلا شك - أحد معايير التقدم والتنمية لأي أمة، فهي تساهم في توفير فرص النمو المتكامل والنهوض بالمستوي الثقافي والاجتماعي والرياضي للشباب أي تساهم في تطوير الذات بشكل مباشر وفعال، ومن ثم يجب على جميع فئات المجتمع ممثلة في الجهات المسؤولة عن رعاية الشباب، والإعلام، والمدرسة، والجامعة، والأسرة وغيرها من الفئات أن يتكاتفوا ويتعاونوا في غرس ثقافة الرياضة وأهمية ممارستها في عقول كافة أفراد المجتمع وليس الشباب فقط، فالأفراد سليمو الجسم سليمو العقل يُكَوِّنون مجتمعًا قادرًا على البناء والتقدم، ومن ثم وطنًا ذا شأن بين الأمم.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب أن يتحلى الشباب الممارس والمشجع للرياضة بالروح الرياضية، ويعلم أن الرياضة ليست هدفًا بل وسيلة للوصول إلى جسم سليم، وخلق قويم، وأن التنافس لابد وأن يكون شريفًا، وأن يبتعدوا - أي الشباب - عن كل فعل لا يتسم ولا يتوافق مع هذه الروح الرياضية.. حقًا إن ممارسة الرياضة أمر مهم وضروري لبناء جسم سليم، ومن ثم عقل سليم، وأيضًا اكتساب نفس سوية راضية، وروح هادئة.

بقلم: فاطمة موسى