إن التمني من دون عمل لا يصنع حقيقة على أرض الواقع، فالتمني سهل ويسير لكل إنسان، والتحدي أو الصعوبة تبدأ وتستمر في التزام العمل الجاد الذي يجعل هذا التمني شيئًا ماديًا ملموسًا على أرض الواقع.
وتتوافق طبيعة العقلاء من الناس في أنهم يتمنون لأنفسهم مكانة اجتماعية محترمة، أو وظيفة مرموقة، أو عملًا حرًا ناجحًا، أو وضعًا ماليًا مريحًا، وللأسف هذا التوافق في التمني لا يصاحبه في كثير من الأحوال توافق في العمل، فيظهر التفاوت بين هؤلاء الناس في المكانة، والوظيفة، والنجاح في التجارة، والبروز العلمي... إلخ.
ومن الحقائق التي لا جدال فيها أن دوام الحال من المحال، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه، يقول تعالى: }... وتلك الأيام نداولها بين الناس{ (سورة: آل عمران: 140)، فالذي يظن في نفسه أن الحياة واقفة به فهو غافل..! فالحقيقة أن فقير اليوم قد يكون غني الغد، وضعيف اليوم قد يكون قوي الغد، وتعيس اليوم قد يكون سعيدًا في الغد، وهذه الحقيقة لا تقف عند الأفراد فقط، ولكنها تنسحب على الأمم والدول، والحضارات. والتاريخ البشري خير شاهد على ذلك، فكم من إمبراطوريات سادت العالم ثم زالت، وكم من حضارات ارتفعت ثم هوت. وكم من كيانات قامت ثم انتهت.
ومن الحقائق التي لا جدال فيها أيضًا أن التغيير لا ينطلق إلا من خلال التغيير الذاتي الداخلي، فالذي يريد أن يغير مقامه أو مكانته، أو أوضاعًا خارجية تدور حوله لابد له أن يبدأ هذا التغيير من داخل نفسه أولًا.. والذي يريد الوصول إلى تحقيق هدف ما عليه الأخذ بحسن التوكل على الله سبحانه – وليس التواكل والتمني – وأخذ نفسه بالعزم، ثم ينطلق بالعمل الجاد والمتواصل نحو تحقيق هذا الهدف، وقد أبان الله سبحانه وتعالى لنا في كتابه الحكيم.. أن أي تغيير لحالنا يتوقف على تغيير ما بأنفسنا نحو ما نريد.. يقول تعـالى: }إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم{ (سورة: الرعد: الآية 11).
- تعريف التغيير:
التغيير هو تحويل حال الإنسان (الذي يريد التغيير) إلى حال آخر ينشده، وذلك انطلاقًا من إرادة ذاتية.
وليس من الحتمي أن يكون التغيير من أجل إصلاح انحراف ما، بل قد يكون التغيير بهدف تطوير وتنمية الذات، وقد يكون من أجل التخلص من آفات سلبية معيقة، أو من أجل اكتساب صفات نفسية إيجابية دافعة.
فالتغيير للأفضل أمر مهم ومطلوب في كل زمان ومكان، فركون المرء إلى وضعه الحالي، واستسلامه إلى الأمر الواقع، كركون الماء حتى يأسن، والماء الآسن يتحول من ماء نافع يحيي به الله كل شيء.. إلى ماء ضار سام يهلك من يتجرعه.
والتغيير منبته النفس البشرية، ولابد لمن يسعى إلى التغيير من تغيير لحالته النفسية، وكما قالوا: «التخلية قبل التحلية» أي يخلي الساعي إلى التغيير نفسه من السلبيات الراسخة، والرواسب المتأصلة، والشوائب المتعلقة، قبل أن يسعى إلى تحليتها وجعلها في الصورة التي ينشدها.. فلكي تنمو نبتة التغيير لابد لها من أرض صالحة لاحتضانها – أي نفس سوية تحتوي هذا التغيير، وترعاه وتعمل على نجاحه ، ولابد لها من إرادة صلبة، وجهد وعمل شاق، ومهارات متميزة ومتنوعة، ومقدرة على التفاعل مع المتغيرات الداخلية والخارجية.
- وسائل معينة ليهيأ المرء حالته النفسية لتقبل التغيير:
تتم هـذه التهيئة من خلال هذه الوسائل:
1- المواجهة الصريحة مع النفس: كل إنسان عاقل يعرف نفسه حق المعرفة، ويعرف حين يصيب أنه أصاب، وحين يخطأ أنه أخطأ.. والإنسان الغافل المعاند لنفسه هو من يجادل حين يخطأ في محاولة يسعى من خلالها إلى إقناع نفسه والآخرين بأنه لم يخطئ..! والأحرى به ولصالحه أن يعترف بخطئه بينه وبين نفسه قبل اعترافه به أمام الآخرين، فهذا الاعتراف يحميه من الاستمرار في الخطأ ومجانبة الصواب – وتعريض نفسه لشر محدق - ويرفع من شأنه أمام الآخرين، ويجعلـه في مصالحة مع نفسه.
ومن ناحية أخرى يصاحب الاعتراف بالخطأ شعور بالألم والندم على الوقوع في مثل هذا الخطأ، يحول المرء العاقل هذا الاعتراف إلى طاقة روحية دافعة إلى فعل الصواب، ولا يحوله إلى طاقة روحية سلبية تدفعه نحو اليأس والإحباط والقعود.
2- أنت المسؤول: كل إنسان مسؤول عن أفكاره، وأقواله، وأفعاله.. فأنت مسؤول عما تتبنى وتحمل من أفكار تترجم إلى أقوال وأفعال.. وليس غيرك.. فانظر إلى أفكارك وما تحمله لتتعرف على واقعك..! فإن كنت تفكر في أمور جالبة للسعادة فستشعر بها، وتراها في كل شيء حولك.. وإن كنت تفكر في أمور جالبة للتعاسة فستشعر بالضيق والألم، وتحمل الهم الجالب للمرض، والمدمر للنفس.
فسر قوتك الحقيقية تنبع من استعانتك وتوكلك على الله سبحانه وتعالى، ثم من أفكارك، وعميق كيانك، وهذه القوة تمنحك القدرة على اكتشاف دائك ودوائك، فكن مصرًا على امتلاك هذه القوة الذاتية، ورسخ في نفسك أن لا سلطان لأحد عليك، وأنك قادر – بإذن الله – على التغيير للأفضل.
3- تجنب الأعذار والتبريرات: إن اللجوء إلى اختلاق الأعذار، والبحث عن تبريرات تبرر بها ركونك للدعة، وإيثار الراحة، من أكبر الأوهام التي تشغل بل وتشل تفكيرك، وتجعلك غير قادر على فعل شيء. وعندما توهم نفسك بأنك لا تملك القدرة على فعل شيء ما، أو حالتك النفسية المتردية لا تساعدك على إنجاز عمل ما، أو مجرد التفكير في أمر مهم، فاعلم أنك على خطر عظيم قد يدمر حياتك كلها. فالأصل هو التعامل مع المشاكل والمصاعب التي تواجهك في حياتك، بتحديد وتعريف واضح لهذه المشاكل، ثم دراسة الحلول الممكنة لحلها، ثم اختيار أنسب الحلول لتواجهها وتقضي عليها، وبهذا لا تجعل هذه المشاكل تمثل عائقًا في طريق نجاحك وتقدمك. ولن يتحقق لك هذا إلا بتهيئة نفسك وتدريبها على مواجهة المشاكل، وتحمل الصعاب.
4- التزام التفكير الإيجابي: إن النفس تتعود على ما تعودها عليه، فالمرء الذي يعود نفسه على العقلانية والتفكير الإيجابي الصحيح في كل أمور حياته، لا يجد مقاومة شديدة من نفسه تعوق هذه العقلانية وذاك التفكير الإيجابي.. وعلى النقيض من ذلك فالمرء الذي لا يعتمد على العقلانية والتفكير الصحيح ويستبدلهما بالاندفاع والتهور والفوضى في اتخاذ قراراته، يجد نفسه تقاومه بشدة حال قرر اللجوء إلى العقلانية والتفكير الصحيح في اتخاذ قرار في موقف ما، لأنها تعودت على الاندفاع والتهور والفوضى، ولتصحيح مسارها لابد من وقت كافٍ تتدرب فيه على اكتساب مهارة العقلانية والتفكير الإيجابي.
- وسائل معينة على إحداث حالة التغيير إلى الأفضل:
هناك العديد من الوسائل التي تمكّن المرء من إحداث التغيير المطلوب.. من أهما:
1- مفتاح التغيير في يدك: لا تذهب بعيدًا مع الأماني، وانظر إلى ما أنت عليه الآن، فإن أردت تغييره فالجأ إلى الله بالدعاء، واستعن به سبحانه في كل شيء، وغير ما بنفسك، وابتعد عن الأحلام والطموحات التي لا تتناسب مع قدراتك وإمكاناتك، وابدأ بالعمل فهو مفتاح التغيير الحقيقي.
2- رسخ في نفسك أنك قادر على صنع التغيير: ردد دائمًا «أنا قادر على صنع التغيير»، بل اكتبها وضعها أمامك، فسوف يحفظها العقل الباطن، وتنشغل بها حواسك، مما يساعدك على صنع التغيير المأمول، ولا تتوان في تحديد غاياتك وأهدافك، ورسم خططك وبرامجك التنفيذية، ثم انطلق نحو تحقيقها على أرض الواقع.
3- الإيمان بضرورة التغيير: فالإيمان بأهمية وضرورة التغيير يعد من العوامل الرئيسية التي تدفع نحو نجاح عملية التغيير، فالإيمان العميق، يولد قناعة كاملة، وإرادة صلبة، وعزيمة قوية، وإصرار دائم على السير في اتجاه التغيير حتى يتحقق.. فالتغيير هو التزام وسلوك، وليس كلامًا وخيالًا، وهذا السلوك لن يتحقق في أرض الواقع إلا من خلال إيمان عميق بفكرة التغيير.
4- الاستعداد لتحمل تبعات التغيير: فمن أراد جني الثمار عليه تحمل مشاق الزراعة، ومشاق العناية والرعاية، فالتغيير له مشاكله ومصاعبه، فإن كنت ترغب في تغيير حالك المادي فابحث عن عمل آخر يدر عليك عائدًا ماديًا أفضل، ومن المؤكد أن العمل الجديد يتطلب علمًا ودراية ومهارة أكثر من العمل القديم، تحتم عليك الدراسة، والالتحاق بالمراكز التدريبية كي تؤهل نفسك لمواجهة أعباء العمل الجديد.
5- لا تقل: ماذا أفعل؟: أنت صاحب فكرة تغيير نفسك إلى الأفضل، وليس غيرك، وبالتالي فأنت المسؤول عن نجاح هذه الفكرة.. فإيمانك بالتغيير هو التزام ذاتي تلزم به نفسك، ولا يعفيك من المسؤولية الذاتية تخلي الآخرين عن مساعدتك، أو كانت هناك ضغوط حولك تعمل على إخفاق ما تسعى إليه من تغيير.. ولا تنتظر مساعدة الآخرين في نجاح فكرتك، ولا تعول عليهم كثيرًا فقد لا يقدمون هذه المساعدة، واعتمد دائمًا على نفسك في الوصول إلى تحقيق أهدافك من وراء التغيير.. فإن كنت تسعى إلى تغيير وضعك الوظيفي بالترقي داخل مؤسستك فلا تنتظر أن تأتيك تكليفات غير روتينية من رؤسائك تظهر من خلالها مواهبك وإبداعاتك – فقد لا تأتي هذه التكليفات غير الروتينيـة – بل بادر إلى إظهار مواهبك وإبداعاتك من خلال تقديمها وعرضها على رؤسائك.
6- انشغل بالأصل: إن من القيود الخطيرة التي قد تعرض عملية التغيير إلى الإخفاق هو الانشغال بالجزئيات أو الفرعيات عن الأصول، فهذا الانشغال يؤدي إلى إهدار الوقت والجهد فيما لا طائل من ورائه.
ولتجنب الوقوع في أسر هذا القيد الخطير.. عليك تحديد أهدافك الأساسية من وراء عملية التغيير بوضوح تام، ثم السعي إلى تحقيق هذه الأهداف، وتأكد أن الفرعيات سوف تتحقق بشكل تلقائي أثناء سعيك هذا.
7- تعامل بذكاء مع التغيير: كثيرًا ما نصحنا أساتذتنا: أن نبدأ بحل السؤال الأقل صعوبة ثم الذي يليه صعوبة.. أثناء الاختبارات، كي لا نضيع الوقت في التفكير في إجابة السؤال الصعب، ومن ثم لا نجد الوقت الكافي للإجابة على الأسئلة الأقل صعوبة، وبالتـالي تذهب الدرجات بعيدًا عنا، ولا نحصد إلى الإخفاق أو النجاح بدرجات متدنية.. وهذا يرشدك أن تبدأ – أثناء سيرك في عملية التغيير – بالذي تستطيع تنفيذه الآن، ولا تصعب الأمر على نفسك باختيار عمل لا تستطيع تنفيذه. وعليك أن تبدأ بالمتاح لك من إمكانيات التغيير أولًا، ولا تنتظر حتى تتوفر لك كل الإمكانيات حتى تنطلق نحو التغيير.. فهذه مثالية غير مطلوبـة.. فرتب أولوياتك طبقـًا لإمكانيـات ثم ابدأ في عمليـة التغيير.. وكما يقولون – طريق الألف ميـل يبدأ بخطوة – وشجع نفسك، وبث الثقة فيها بأنك ستصل إلى ما تصبو إليه ما دمت ملتزمًا التغيير، وما يتطلبـه من حركة ونشاط، وعمل واجتهاد، وبذل وتضحية بالوقت والجهد والمال، وإياك والمثبطـات من الأفكار و الأقوال، والأفعال.
8- التزم طريق التغيير: إن طريق التغيير يقوم على العلم والمعرفة، فالذي يريد أن يغير حاله إلى حال أخرى لابد له من علم ودراية ومعرفة بالحال الجديد الذي يريد أن يقوم فيه.. وهذا أمر منطقي.
ولكـي تؤتي عمليـة التغيير ثمارها لابد للساعي إليه من فطنة وكياسة في التعامل معها.
9- أمسك بالفكرة: إن الأفكار تأتي في لحظة على الذهن، والأريب من يمسك بها ولا يتركها تفوته.
فمن المنطقي وأنت ترغب في تغيير حالك – أيًا كان هذا الحال.. وأيًا كانت وجهته.. من حزن إلى فرح.. أو من تعاسة إلى سعادة.. أو من كسل وركون إلى نشاط وانطلاق.. أو من وضع علمي متدن إلى تفوق علمي.. أو من وضع عملي ومادي دون المأمول إلى مكانة عملية ورفاهية مادية – أن تحشد كل طاقاتك الروحية والمعنوية والحسية وتجعلها منشغلة بما أنت قادم عليه من تغيير، ومن المنطقي أيضًا أن تتسع دائرة خيالك، وأن تسبح بالأماني في الفضاء الواسع، وأن تهطل عليك الأفكار كالمطر.. ومن المنطقي كذلك أن تسعى للاستفادة من كل هذه الطاقات وذاك الخيال، مع الرشد في إدارتهم، فلا تنطلق نحو الخيال الذي لا يمكنك تحقيقه والنزول به على أرض الواقع، ولا يجرفك سيل الأفكار فيتشتت ذهنك، وتفقد تركيزك، وتختلط الأفكار النافعة مع زبد الأفكار غير النافعة.. وتجد نفسك في النهاية أبعد ما تكون عن التغيير.
إن التغيير إلى الأفضل يجب أن يسعى إليه كل إنسان يريد لنفسه حياة كريمة، سواء من الناحية المعنوية أو من الناحية المادية، فالذي يريد أن يرى نفسه في مكانة مرموقة لا يقف عند هذه الأمنية بل يسعى بكل ما أوتي من قوة وجهد لتحقيق هذه الأمنية، وهكذا الذي يريد أن يحقق لنفسه ثروة مالية كبيرة عليه أن يسعى في الأرض بالعمل الحلال، والسعي الدؤوب.. فمن أراد التغيير عليه أن يخطط له بشكل واقعي ومدروس، وعليه أن ينفذ هذا التخطيط بالعمل الشاق، والصبر والمثابرة حتى يصل إلى تحقيق أهدافه المنشودة، فطلب المعالي لابد أن يتوافر له العمل الجاد.

بقلم: فاطمة موسى