تتفاوت درجات الاستفادة من البرامج التدريبية التي تعقدها الشركات والمؤسسات والهيئات لأفرادها من فرد لآخر، فهناك من يستفيد من هذه البرامج أقصى استفادة، وتترجم هذه الاستفادة على أدائه لأعماله في شركته أو مؤسسته، وهناك من يستفيد بدرجة أقل، وهناك من لا يستفيد من هذه الدورات، ويعتبرها مجرد تغيير وكسر لروتين العمل اليومي، ولمكان العمل - إذا كانت الدورة خارج مكان العمل - وبالطبع لن يتأثر أداؤه في عمله، إذ كيف يتغير وهو لم يستفد شيئًا من هذه الدورات. ومعيار الاستفادة يعود في المقام الأول لمدى قناعة الفرد بأهمية التدريب، وبمدى رغبة الفرد في تغيير أدائه في عمله، ومدى رغبة الفرد في اكتساب مهارات وخبرات جديدة تضيفها إليه المادة التدريبية، ويكتسبها من خبراء التدريب. وتتفاوت درجات الاستفادة أيضًا بطبيعة الإتقان في نفس الفرد، فإن كانت هذه الطبيعة راسخة في داخل الفرد، ويتقن العمل الذي يؤديه أيًا كان حجمه، وأيًا كانت طبيعته، فإن هذا الفرد سيستفيد من البرامج التدريبية التي يحضرها، وسيترجم هذه الاستفادة على أدائه في عمله.
وهناك مقولة متداولة بين كثير من الناس.. فحواها: «إن الوصول إلى القمة أمر صعب، والمحافظة عليها أمر أصعب»، ويقال أيضًا: «ما اكتمل شيء قط إلا أتبعه النقصان «وهذه حقيقة يلمسها جل إن لم يكن كل الناجحين الذين حققوا النجاح بوصولهم إلى القمة، وهذه من سنن الله سبحانه وتعالى في الكون، والحقيقة أن هذا النقصان نسبي بين ناجح وآخر، فالنـاجح الذي يغتر بنجاحه، ويعتقد – خطأً- أنه قد وصل إلى القمة ولن ينازعه فيها أحد، ويعتقد – خطأً أيضًا - أنه لن يشاركه فيهـا أحد، أو يزحزحه عنها آخر، ومن ثم يُقْعِدُهُ هذا الاعتقاد عن الأخذ بأسباب ووسائل الحفاظ على هذه القمة، فتكون النتيجة الانهيار السريع لهذا النجاح، والسقوط المدوي من قمة هذا النجاح.

لقد سبقك إليها الناجحون!!
الناجح المغتر بنجاحه فاته أن الوصول إلى هذه القمة سبقه إليها ناجحون آخرون استطاع هو بعمله وعلمه أن يزحزحهم عنها وينفرد بها، ومن الطبيعي ألا يترك منفردًا بهـا، فهنـاك من يعملون على الوصول إليها، وإزاحته عنها – كما فعل هو-، فالعلم والعمل ليسا حكرًا على أحد بعينه، وإنما يذهبان لمن يعمل على الأخذ بأسبابهما، ويعمل على الاستفادة منهما.
وعلى النقيض من ذلك نرى العالم الحق الذي يحقق النجاح الباهر في علمه، ويصل إلى قمة هذا العلم، نراه أكثر تواضعًا، ونراه يترجم ما أصَّله في نفسه أنه مازال طالبًا للعلم، وأن ما عَلِمَهُ ما هو إلا نقطة في محيط ما يجهله، فنراه يطلع ويعمل بدأب للوصول إلى مزيد من الحقائق العلمية، مرسخًا في نفسه ومصرحًا: بأن ذلك لن يتم إلا من خلال التعاون البناء مع نظرائه من العلماء، ومن خلال فرق العمل المساعدة التي لها دور كبير في الوصول إلى الحقائق والنتائج العلمية المرجوة، والأهم حرصه الدائم على الأخذ بأسباب الحفاظ على ما وصل إليه من مكانة علمية مرموقة، أهلته إلى الوصول إلى اعتلاء قمة المتخصصين في علمه.
من المهم المحافظة على إتقان العمل
الإتقان هو: الكيفية التي يحبها الله ويرضاها في أداء الأعمال، وذلك ينطبق على كل عمل من الأعمال التي يقوم بها المؤمن المتقن لعمله سواء تعلقت هذه الأعمال بأعمال الدنيا أم بأعمال الآخرة، فالمؤمن يحرص على جودة العمل وإتقانه، ويبذل جهده لتحسينه وتطويره منطلقًا من إحساسه العميق أن الله سبحانه يراقبه في عمله، وأنه تعالى – كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتب الإحسان على كل شيء» رواه مسلم. والله لا يرضى من المؤمن إلا أن يقوم بعمله في صورة كاملة متقنة، وهذا ما يؤكده الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» رواه البخاري، وهذا يشمل الأعمال كلها، أعمال الدنيا وأعمال الآخرة.
الغرور من أشد أعداء النجاح
فالغرور من أشد أعداء النجاح، فهو يفتك بصاحبه، ويدمره، وهو رزيلة من الرزائل، فيه مهلكة لنفس صاحبه، فهو يدفعه دومًا إلى تزكية نفسه، اعتقادًا منه أنه الأفضل دومًا، ورأيه الأصوب على طول الخط، وهو أحق بالمناصب، أو القيادة، أو القمة ... إلخ، وقد نهانا الله عن تزكية النفس في قوله سبحانه: }فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى{ سـورة النجم : الآية : 32، ويقول سبحانه وتعالى: }ألَم تر إلى الذين يزكـون أنفسهـم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلَمون فتيلاً{ سورة النسـاء: الآية 49.
فالغرور عدو صاحبه، حيث يدفعه إلى عدم المزيد من النجاح والتقدم، ولا يحث صاحبه على طلب المزيد من العلم والمعرفة، فالمغرور يعتقد أنه قد أوتي الحكمة، وأنه صاحب الرأي السديد، والفكر المستنير، ومن ثم فهو أولى بالحكمة من غيره، وأن الحكمة سوف تسعى إليه، وهو قاعد راكن إلى الأرض، وسرعان ما يكتشف – إن تيسر له ذلك – مدى خطأ اعتقاده، ولكن في كثير من الأحوال هذا الاكتشاف يكون بعد فوات الأوان.
فكثير من الناس يقعون فريسة الغرور الواهم، ونراهم وقد تقهقروا إلى الخلف- عكس الواثقين بأنفسهم وقدراتهم، العاملين على طلب المزيد من العلم والمعرفة، نراهم في المقدمة، ومن نجاح إلى نجاح – فاقدين الثقة بأنفسهم وقدراتهم، ولا يستطيعون أن يغادروا أماكنهم المتقهقرة.
وإن الإنسان المغرور الواهم يقوده غروره – بلا ريب - إلى هلاكه، فهو يدَّعي الثقة بنفسه، ويعتقد أن ما عنده من مـال أو علم إنما هو من عمله، وذكائه، ومن ثم فهو أحق الناس به، فها هو ذا (فرعون) قاده غروره إلى هلاكه يقول الله سبحـانـه: }وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون{ سـورة البقـرة: الآية 50، وها هو ذا (قارون) الذي ادَّعى أن ماله أؤتيه على علم عنده فكان مصيره أن خسف به وبداره وماله الأرض، يقول الله سبحانه وتعالى: }فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين{ سـورة القصص: الآية 81 .

أهمية الجانب الإيماني في النجاح

إن العمل حقيقة هامة من حقائق الكون، فلابد للإنسان – الشاب وغيره – أن يعمل لكي يحصل على رزقه، وهذه السنة الكونية ليست مقصورة على الإنسان فقط، وإنما تشمل الكثير من مخلوقات الله سبحانه وتعالى..! فالكل مأمور بالعمل لكي يحصل على رزقه.. فالطير يترك عشه كل صباح غير عابئ بحرارة شمس أو برودة طقس، ليبحث عن رزقه، ورزق صغاره..! فهو يخرج جائعًا، ويعمل بجد واجتهاد حتى يأكل ويعود لصغاره بأكلهم.. فهو يخرج خماصًا ويعود بطانًا..!.
وقد فرض الله سبحانه العمل على البشر أجمعين، ولم يستثن منهم خير عباده، وهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.. فقد كان منهم راعي الغنم، والنجار، والحداد... وغيرها من المهن التي يعمل فيها الرجال، فقد كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، يقول الله سبحانه وتعالى: }وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون، وكان ربك بصيرًا{ الفرقان : 20 .
والعمل ليس بنقمة، أو عقاب للإنسان يصيبه بالتعب والنصب، بل هو نعمة من الله سبحانه..! لا يقدرها حقها إلا كل ذي لب، وفهم لحقيقة الكون..! فحياة أي إنسان بدون عمل لا تطاق.. فالعمل يقي المؤمن من شرٍ الوحدة والفراغ.. التي تورث في النفس الكثير من المهلكات، ومن أهم هذه المهلكات الكسل، وهو نقيض من نقائض العمل، وليس لبيان خطورته على الإنسان المسلم أكثر من تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه في أذكار اليوم والليلة، حيث يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» .. فالعمل يصنع الأمجاد، ويحقق الذات، ويوصل للآمال، والكسل يورث العجز في نفوس أصحابه الذين لا يتطلعون إلى المعالي، ويركنون إلى الدعة..!
ومن أجل العمل جعل الله سبحانه النهار للناس معايش، يقول سبحانه: }وهو الذي جعل لكم الليل لباسًا والنوم سباتًا وجعل النهار نشورًا{ الفرقان: 27، ويقول سبحانه: }ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيمًا{ الإسراء: 66 .
وقد فرض الله سبحانه وتعالى العمل على كل مسلم، وأمره أن يتحرى الحلال الطيب من الرزق، يقول سبحانه: }فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون{ الجمعة: 10.
فالعمل عبادة لله سبحانه، والذي يعمل، ويتقن العمل، يستحق النجاح والتميز، فضلًا عن استحقاق الثواب العظيم من الله سبحانه في الدنيا والآخرة، يقول سبحانه: }وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين{ القصص: 77. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من الذنوب ذنوبًا لا يكفرها صلاة ولا صدقة .. قيل يا رسول الله فما يكفرها؟ قال: الهموم في طلب المعيشة» ..وفي هذا حث على العمل، وبيان للثواب العظيم الذي ينتظر العاملين.

ما هي الوسائل المساعدة في امتلاك صفة الإتقان؟
هناك عدد من الوسائل المساعدة في امتلاك صفة الإتقان من ذلك:
• امتلاك صفة الإتقان:
إن الإتقان صفة أو مهارة مكتسبة، فكل منَّا يستطيع التدرب على اكتسابها، وتفاوت درجة اكتساب الفرد – الشاب أو الفتاة أو الرجل أو المرأة أو الطفل – يعود في المقام الأول على رغبة كل منهم في اكتساب هذه الصفة أو المهارة، فالرغبة القوية في امتلاك صفة الإتقان تولد إرادة قوية، والإرادة القوية تولد عزمًا على امتلاك هذه الصفة، والعزم يساعد على مجابهة الصعاب، وتخطي الحواجز التي قد تقف في طريق امتلاك هذه الصفة.
• المحافظة على صفة الإتقان:
إن الذائق لحلاوة النجاح يعلم تمامًا أن الإتقان كان أهم أسبابه، فبدون الإتقان لن يأتي النجاح، ولذلك نجد الناجحين والمتميزين أكثر الناس شغفًا ومحافظةً على إتقان العمل، ونجدهم أيضًا يبتكرون الوسائل التي تساعدهم على المحافظة على مستوى الإتقان في أعمالهم، ومن أهم هذه الوسائل:
1- المحافظة على الأسباب المؤدية إلى الإتقان: فالناجحون قد امتلكوا صفة الإتقان، ويشهد لهم نجاحهم وتميزهم بذلك، ومن المعروف أن الوصول للقمة يكون أسهل بكثير من المحافظة عليها، وهذه المحافظة تتطلب منهم اليقظة الدائمة، والنية الصادقة في الاستمرارية في إتقان عملهم، والتخطيط السليم لما ينوون القيام به من مهام وأعمال سواء كانت علمية أو عملية، والأهم من ذلك الإرادة القوية، والهمة العالية التي تساعدهم على تجاوز صعوبات وعقبات الطريق الذي يسلكونه نحو النجاح، والتقييم المستمر أثناء التنفيذ مع تحديد الانحرافات عن الخطة الموضوعة للوصول إلى الهدف بأقصر الطرق.
2 – المحافظة على التعلم والاطلاع، والتدريب المستمر:إن من أهم العوامل المعينة على الوصول إلى تحقيق الأهداف بنجاح وتميز، هي الاطلاع المستمر على كل ما هو جديد في مجال التخصص، والتدريب المتواصل يزيد من الخبرات والكفاءة العملية، وقد أيقن الناجحون هذه الحقائق فنراهم أحرص الناس عليها، وأكثر الناس إتقانًا لوسائل اكتساب المعرفة النظرية، والتدريب العملي، للوصول إلى درجات الاحتراف المهني الذي يجعلهم دومًا في الصدارة.
3 – عدم الوقوف عند الفشل: إن العمل المستمر والمتواصل، والسير المنهجي على الطريق المحدد سلفًا عند التخطيط، هو سبيل الناجحين لتحقيق أهدافهم والوصول إلى ما يصبون إليه، فالناجح لا يحبطه فشل عارض، فهو وطَّن نفسه على أن النجاح هو الغاية، وإن تعرض إلى فشل وهو في طريقه لتحقيق النجاح، فهو يتخذ منه دافعًا أكبر للوصول إلى النجاح المنشود، فالناجح يعلم أيضًا أن الرياح لا تأتي دومًا بما تشتهيه السفن، فهناك عقبات، وهناك فشل قد يتعرض له في وقت ما، أو في مكان ما، ومن ثم لا ينبغي الوقوف عند هذا الفشل، وألا يفقده الثقة بنفسه، وأن الفشل ما هو إلا محاولة من محاولات الوصول إلى النجاح. ولذلك فمن أراد الثبات والمحافظة على صفة الإتقان فعليه ألا يتوقف عن العمل المستمر والمتواصل.
وأخيرًا إن الإتقان إذا حل في أي عمل تقوم به، كان النجاح حليفك، وإن تأخر بعض الوقت، فالإتقان يجعلك يقظًا في طلب التوفيق والنجاح فيما تقوم وتؤديه من أعمال، ويشعرك بسعادة نفسية غامرة، حتى لو أخفقت في تحقيق ما تهدف إليه من وراء هذه الأعمال، أو تأخر نجاحها، إذ يشعرك الإتقان بأنك لم تقصر، وأنك أديت كل المطلوب منك في حدود إمكانياتك ، ويدفعك الإتقان إلى البحث عن الأسباب التي أدت إلى الإخفاق، ومحاولة معالجة هذه الأسباب، فإن كانت بسبب ضعف المادة العلمية لديك، يدفعك حبك للإتقان إلى طلب العلم في هذه المادة، وإن كان هناك نقص في الخبرات، والمهارات يدفعك حبك للإتقان إلى الالتحاق بالمراكز التدريبية التي تساعدك على جبر هذا النقص في المهارات والخبرات، وهكذا تجد الإنسان المتقن لعمله، يحب الإتقان في كل شيء يؤديه.

بقلم: فاطمة موسى