كان هناك ملك من الملوك غير أنه في فترة من حياته تعرض لحادث جعل منه أعرج ولا يرى إلا بعين واحدة حيث كانت الأخرى عوراء، وفي أحد الأيام دعا هذا الملك عددًا من الفنانين ليرسموا له صورة شخصية شريطة ألا تظهر عيوبه في الصور المرسومة، غير أن هذا الأمر كان تحديًا كبيرًا للفنانين، فكيف سيرسمون الملك بعينين وهو لا يملك سوى عين واحدة، وكيف سيصورونه بقدمين سليمتين وهو أعرج؟!
غير أن فنانًا من بينهم قبل هذا التحدي في رسم الصورة المثالية للملك، وبالفعل رسم صورة جميلة وفي غاية الروعة.. فلقد تصور هذا الفنان الملك واقفًا وممسكًا ببندقية الصيد، بالطبع كان يغمض إحدى عينيه ويحني قدمه العرجاء.. وهكذا رسم صورة الملك بلا عيوب وبكل بساطة.
كنت في مسامرة ودية مع صديق لي، وقد جال بنا الحديث وصال تلك الليلة غير أنه بقي في ذاكرتي جزء من حديث صاحبي وهو قوله «عندنا أزمة أخلاق وحسن ظن بالآخرين، فمنذ فترة طويلة لم يمر على يوم أو يومان ولم أشاهد فيها صورًا من التشاجر أو التنافر أو ذكر الآخرين بما يعيبهم سواء بصورة مبطنة أو ظاهرة»، أعتقد أنه بعد ذكري لهذا الكلام فإن القارئ لهذه السطور يستعرض أيامه ولياليه وتلك الصور التي لا تنتهي من صور الهمز واللمز والشجار والتشاحن والتعالي وحب الظهور والتقليل من شأن الغير في مجتمعنا الذي طغت عليه الماديات بصورة مخيفة.
إنه لو فكرنا مليًا في الذين يشاركوننا الوجود والحياة من بني جنسنا من ولد أدم، لوجدنا منهم الموظف الذي ينجز معاملتنا أو عامل النظافة الذي يحافظ على نظافة مجتمعنا أو البائع الذي نشتري منه أو شخصًا آخر لنا معه تعامل أيًا كانت صورة هذا التعاون أو طريقته، وكما يقول علماء النفس البشرية: الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يحب تكوين العلاقات وبناء الصداقات، والفطرة السليمة تمج الانعزال التام, وتستهجن الانطواء, ومهما كان الإنسان منطويًا فإنه يسعى لتكوين علاقات مع الآخرين ولو كانت محدودة جدًا، إنه لكي ندرك أهمية الشيء فلا بد أن نعرف ماذا يقدمه هذا الشيء لنا، إن الآخرين هم من يقدمون الخدمات المختلفة لنا كما سبق ذكر ذلك، وهم من نأنس بهم ونتحدث ونشكو إليهم، إنهم ونحن أعضاء في شركة الحياة التي نعمل فيها جميعا ونستفيد منها كلنا، والآخرون حتى من نعتقد أنهم أعداء لنا لهم أهمية كبيرة في حياتنا، بل قد يكونون من أكثر الناس فائدة لنا ونحن لا نعلم، فهم من يكتشفون عيوبنا، ومن ثم يهدونها لنا لنقوم بتصحيح ما يمكن تصحيحه منها، وبهذا نرتقي ونعلو، بينما يغض الطرف عنها أصدقاؤنا والمقربون منا، وهم من يذكون جذوة التنافس والسعي نحو الأحسن، وبهم يصبح للحياة طعم التحدي والتفوق، وهم من يوفرون لنا مدرسة تدريب مجانية لنتدرب ونتعلم منها معاني الصبر والعطاء والتميز ومن ثم التفوق، وقد قال أحد المفكرين في هذا الصدد «أشعر بوحدة هائلة ... لقد مات كل أعدائي».
وكما فعل الفنان القدير الذي وردت قصته في بداية هذا المقال .. ليتنا نحاول وبشكل مستمر أن نرسم صورة حسنة عن الآخرين، مهما كانت عيوبهم ونقائصهم واضحة وجلية، وعندما ننقُل هذه الصورة للناس نستر فيها الأخطاء قدر المستطاع، ونأخذ الجانب الإيجابي داخل أنفسنا وأنفس الآخرين، فلا يوجد شخص خال من العيوب والنقائص، ولنثق تمامًا بأنه يمكن أن نجتمع بعد فرقة واختلاف، فأوروبا مثلاً التي عاشت حربين عالميتين, قتل في الأولى قرابة (15 مليون إنسان) وقتل في الثانية حوالي (55 مليون إنسان) وامتدت لسنوات, وأكلت الأخضر واليابس - تسير نحو الوحدة في دستورها ومصالحها, وقد تجاوزت الحدود بين دولها, واندمجت في عمل وحدوي عظيم، ولنسعَ دائما لما في ذواتنا من خير وعطاء كما قال (كونفوشيوس): إن ما يسعى إليه الإنسان السامي يكمن في ذاته هو، أما الدنيء فيسعى لما لدى الآخرين، ولندعو دائما بما علمنا ربنا سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.

بقلم: م. عبدالله عسيري