رأيت علامات اللامبالاة على وجه زميلتي في العمل، فقلت في نفسي: عساها تمر بظرف طارئ يسبب لها هذه الحالة، ولكن الأمر تطور إلى عبارات تدل على ازدياد هذه الحالة من اللامبالاة، وتطور أكثر عندما انعكست هذه الحالة على عملها.. فقررت أن أناقشها..
سألتها: هل هناك مشكلة ما تمرين بها؟
قالت بتهكم: مشكلة واحدة.. هناك جبل من المشكلات..!
قلت: كل مشكلة ولها حل.
قالت بسخرية: إلا مشاكلي فليس لها حلول..!
قلت: هذا قنوط.. يدل على عدم وجود إرادة قوية لديك تمكنك من مواجهة مشكلاتك..
قالت: أي إرادة تلك.. وكيف أكتسبها.؟!!
قلت: إن الإيمان الحق بالله سبحانه وتعالى، يجعل الإنسان (الإنسانة) المؤمن قويًا في إرادته.. لا تعجزه، ولا توقفه العقبات والمشاكل التي تعترض طريقه في الحياة، بل ينظر إليها ويضعها في حجمها الطبيعي، ويوقن أنه سيتغلب عليها طالما التزم التوكل على الله سبحانه حق التوكل، وهذا التوكل – وليس التواكل – هو الدافع الحقيقي للفرد المؤمن نحو الشجاعة والإقدام واقتحام المشاكـل - وعدم التسويف، الذي يورث في النفس الخوف من المجهول، والخوف من المستقبل - حيث التسليم الكامل لقدر الله سبحانه، ويُولد التوكل الحق الثقة بالنفس، والثقة بالقدرات الهائلة التي وضعها الله سبحانه فيك أيها الإنسان المؤمن.. فلا مجال إذن إلا للإرادة القوية المقرونة بالتوكل الحق على الله سبحانه خالق ومالك كل شيء.. منطلقة هذه الإرادة من يقين راسخ أن الله سبحانه هو المتصرف في ملكه، وهو القادر عليه، وهو المعطي والمانع، وهو الرافع والخافض.
لكي تنجح عليك بالإرادة..
هي القدرة.. أي من أراد بحق، وصبر وعمل على تحقيق ما أراد، فإنه سيقدر – إن شاء الله – على تحقيق ما أراد. فالإرادة إذا وجدت حقًا وتمكنت في نفس الفرد المؤمن، وجد الطريق لتنفيذها.. حتى وإن كان هذا الطريق مليئا بالمشاكل والصعوبات، فبالإرادة القوية سيتغلب على هذه المشاكل وتلك الصعوبات..
والإرادة ليست أمرًا بعيد المنال، بالعكس نحن نستخدمها في اليوم والليلة مرات عديدة..! حيث عن طريق الإرادة نقبل أشياء ونرفض أخرى، ونقوم بأعمال ونهمل أخرى، فالإرادة تتحكم في كل شيء.. فإن أردت أن تحقق النجاح فعليك بالإرادة، وإن أردت أن تتميز.. فعليك بالإرادة، وإن أردت أن تفوز بالدنيا والآخرة فعليك بالإرادة .. قـال تعـالى: «وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤتيه منهـا ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين «آل عمران: 145، قال تعالى: « ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا» الإسراء: 19.
فالإرادة إذًا هي القصد أو الاتجاه المصحوب ببذل الجهد الداخلي والخارجي، فلكي نفوز بالدنيا والآخرة علينا أن نؤمن أولاً، ثم نلتزم ونقوم بالعمل الصالح انطلاقًا من إرادة قوية، وعزيمة صلبة.
تعرف على أنواع الإرادة..
من أنواع الإرادة هناك نوعان هما:
• الإرادة القوية الإيجابية: وهي الإرادة التي تدفعنا إلى الصبر، وعدم التسويف، وتدفعنا أيضًا إلى العمل الجاد - المبني على التخطيط السليم - لإنجاز الأعمال الهادفة، وتحقيق التميز فيها، فضلا عن تحقيق النجاح في الحياة.
فطالب (طالبة) العلم صاحب الإرادة القوية نجده يشحذ إرادته دائمًا متوجهًا نحو المزيد من طلب العلم، وإلى المزيد من الجد والاجتهاد في تحصيل العلم.. حتى يتمكن من تحقيق ذاته من خلال التفوق والتميز وليس النجاح فقط..!!
وكذلك الشاب (أو الفتاة) المقبل على الالتحاق بعمل ما يحقق فيه ذاته، ويقيه شر العوز، ويشعره بأهميته في هذه الحياة.. نجده وقد شحذ همته وإرادته نحو تأهيل نفسه بالمزيد من الشهادات العلمية المتخصصة، والبرامج التدريبية التي تكسبه المهارة في تخصصه، فهو ينفق من ماله – وقد يكون قليلاً وفي حاجة ماسة إليه ليشبع به حاجاته الفسيولوجية- ويطلب المزيد من العلم المتخصص، ولا يقف عند شهادته الجامعية وفقط، وذلك حتى يجد الفرصة الأفضل التي يستطيع من خلالها أن يحقق طموحاته المادية، فضلاً عن تحقيق طموحاته المعنوية، والتي تدفعه بلا شك إلى المزيد من تطوير الذات، ومن ثم حصد ثمرات كل ذلك بالتقدم المستمر، والمستقبل الزاهر.
وكذلك الموظف (الموظفة) الذي يشحذ همته وإرادته، ويستجمع طاقاته، ويسخر إمكاناته المادية والذهنية في إتقان عمله، ليحقق ذاته، ويحتفظ بمكانه، ونراه لا يقف عند هذا الحد وفقط، بل تدفعه إرادته إلى كسب المزيد من العلم والمهارات في مجال عمله، بالاطلاع المتواصل على كل جديد في مجاله، وبحضور الدورات التدريبية المتقدمة، وبالسعي الدؤوب للحصول على أعلى الشهادات المهنية في مجال عمله، فضلاً عن اهتمامه الشديد بالثقافة العامة، كل ذلك يؤدي به بلا شك إلى نجاحات متواصلة في مجال عمله، وفي محيطه المجتمعي، ويجعله في عداد المتميزين وليس في عداد الناجحين وفقط، فضلاً عن خروجه أو عدم دخوله في عداد الفاشلين.
ويا له من إحساس جميل..! أن يشعر الإنسان بأن له أهدافا متواصلة ومستمرة وهو في طريقه من نجاح إلى نجاح.
وهناك عوامل مساعدة لشحذ الإرادة وتقوية العزيمة ورفع الهمة، منها:
• العمل المستمر والمتواصل لإكساب الذات مهارة التفكير الصحيح.
• تدخل وإعمال العقل في كل الأمور، وتجنب الهوى، فالهوى عدو مبين للإنسان – بلا ريب - ومن أراد الفوز عليه دائمًا أن ينصر الحق في نفسه، وفي المقابل هزيمة الباطل..! قال تعالى: «فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين» القصص: ٥٠
• الإرادة القوية السلبية..!: وقد تبدو علامات الدهشة.. ويتساءل أحدنا وهل هناك إرادة قوية سلبية؟! نعم هناك إرادة قوية سلبية ينحصر دورها في الامتناع عن الأفعال الضارة، وكذلك الأعمال والتصرفات غير اللائقة، فضـلاً عن الامتناع عن الموبقات ... إلخ.
• الإرادة الضعيفة: وللإرادة الضعيفة الصور وأشكال عدة، أهمها:
1- الإرادة المتذبذبة: ويتصف بها الأفراد المترددون، وغير المتزنين في أعمالهم.. وغني عن البيان أن الإنسان المتردد وغير المتزن في تصرفاته وأفعاله، لن تكون له مكانة مرموقة في يوم من الأيام ، ولن يكون له فكر مميز، ولا رأي ثاقب، ولا مستقبل بـاهـر.. فالإرادة القوية الحاسمة هي التي تصنع النجاح والتميز.
2- الإرادة العاجزة: ويتصف بها الأفراد غير القادرين على اتخاذ أي قرار في أي شأن هام – أو غير هام في أحيان كثيرة - من شؤون حياتهم، فضلاً عن شؤون الآخرين.. فهؤلاء الأفراد يقفون دائمًا في الصفوف الخلفية، لا ذكر لهم، فهم على هامش الحياة، لا يؤثرون في الأحداث لانعدام دورهم.. ومن ثم لا مستقبل لهم.
3- الإرادة المتهورة: ويتصف بها أفراد كثر، وللأسف قطاع ليس بالقليل من الناس، فهم يتصرفون دون وعي، ولا اكتراث بنتائج تصرفاتهم، ونجدهم في النهاية – في كثير من الأحيان - قد حصدوا الفشل الذريع، إن لم يكن الانهيار التام.
كيف نكتسب ونقوي ونطور إرادتنا؟!
هناك عدد من الخطوات التي يفترض أن نتبعها لنكتسب ونقوي ونطور إرادتنا من ذلك:
1- اعمل على إعداد وتهيئة إرادتك: لكل الناس غايات وأهداف في الحياة مع اختلافها، وتنوعها، ومقاصدها، ولكي نحقق هذه الغايات، وتلك الأهداف لابد أولاً من تحديد واضح لها.. والخطوة التالية توجيه إرادتنا بالكامل نحو تحقيق هذه الغايات وتلك الأهداف.
فالغـايات والأهداف لأمر ما أو موضوع ما.. يولدان في الفكر، ثم يتحول الفكر إلى إرادة، والإرادة تدفع إلى العمل على إنجاز هذا الأمر أو ذاك الموضوع حتى يظهر إلى النور.
وإعداد الإرادة يتطلب الكثير من اليقظة والتركيز، واليقظة والتركيز يتطلبا التفكير، فعلينا لكي نقوي إرادتنا أن نفكر بشكل صحيح، وأن نتخذ القرار السليم، وأن نعمل على تنفيذ هذا القرار بكل جد واجتهاد.
وقد أجمع علماء النفس في العصر الحديث على أن كل فكرة تجنح إلى أن تتحول إلى فعل.
وينصح بعض العلماء باستخدام هذه الطريقة العملية لتوليد الإرادة داخل النفس، وهي: أن يكتب الفرد.. ما يريد بخط عريض واضح في ورقة بيضاء يضعها أمام عينه دائمـًا، ويكرر قراءتها ، مثلاً : «أريد أن أحفظ القرآن الكريم خلال ثلاث سنوات» ، «أريد أن أحقق المركز الأول في دراسـتي هـذا العام»، «أريد أن أحصل على وظيفة مرموقة»... إلخ.
2- اعمل بجد واهتمام على شحذ إرادتك وحافظ عليها متوهجة دائمًا: إن الإرادة طاقة كبيرة، وهامة في جسـم الإنسان، فهي تحتاج إلى شحذها كما تحتاج إلى المحافظة عليها بتخزينها، واستعمالها الاستعمال الأفضل دائمًا.. فعندما نفكر في القيام بعمل هام، لابد من إرادة قوية تدفع النفس إلى القيام بتحقيق هذا العمل، وإذا فترت أو تراخت الإرادة في أي مرحلة من مراحل تنفيذ العمل نجد تأثير ذلك واضحًا على هذا العمل. ولكي نحافظ على إرادتنا قوية دائمًا لابد من المحافظة عليها بالامتناع عن شغلها واستهلاكها بالأمور غير الهامة، والامتناع عن الغضب لأنه يستنزف الكثير من طاقة الإنسان بما فيها الإرادة التي تفقد وقت الغضب في كثير من الأحيان..! وكلنا نتذكر وصية الرسول صلى الله عليه وسلم «...لا تغضب..لا تغضب..»، والامتناع عن الاهتمام بما لا يعنينا وهذا أمر حثنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». فالدخول والاهتمام بما لا يعنينا هدر أكيد لطاقتنا، وانشغال إرادتنا بما لا يفيدنا..!
3- اجعل إرادتك في وعيك: عليك أن تجعل إرادتك في خدمة وعيك..! وليس في خدمة أحاسيسك النابعة عن هواك..! فالإحساس النابع عن الهوى غالبًا يكون غير صادق..!.
4- افحص إرادتك باستمرار ولا تتوان في ذلك: والفحص يكون بشكـل دوري، وذلك بأن تتعهد نفسك بالمراقبة والمحاسبة، وأن تتعهد قراراتك بالمراجعة، وأن تعمل على اكتشاف أخطائك، وإن اكتشفتها اعمل فورًا على تصحيح الخطأ، والعزم على عدم العودة إليه، وأن تعمل على تشجيع نفسك إذا تيقنت من صحة الطريق الذي تسير فيه.. واعقد العزم دومًا على مواصلة السير فيه، وعدم الحياد عنه.
5- اعمل على تجنيـب إرادتك الهمّ والحزن، والتسويف، والقعـود والكسل: فقد كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن ...» فمن أراد أن تكون له عزيمة قوية، وإرادة قوية، لابد له من الصبر، والتوكل، واليقين بتوفيق الله سبحانه، والبعد عن الهموم والأحزان، والمثبطات والمحبطات من القول أو العمل أو الذكريات، أو المثبطين والمحبطين من الأشخاص، والأفكار والآراء.. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين».
6- تحكم واقهر رغباتك وهواك بإرادتك: لكي تقوي إرادتك عليك بمخالفة هوى نفسك، قال تعالى «وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم» يوسف: ٥٣.
فتقـويـة الإرادة تتم عن طريق القمع، والقهر الإرادي للشهوات، والرغبات. ويستـوجب ذلك إرادة قوية، وإيجابية، وفعالة، وتصميم وعزم على عـدم اقتراف الآثام، ونستعين على ذلك بالصبر والصلاة كما أمرنا الله سبحانه.. قال تعالى: «واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين» البقرة: ٤٥.



بقلم: فاطمة موسى