تمر الحوادث على الناس فتترك آثارا قد لا تمحى، وتمر الرزايا على القائد فتمتن من قدراته، وتزيد من قناعته بالحق واعتصار جهده وتحقيق هدفه، مهما رأى الآخرون أن لا فائدة، وبالصبر والإيمان تتعاضد معهما الإرادة ليتحقق الفعل انجازاً على الأرض.
إن القائد قدرات، والقائد شخص مميز ضمن مجموعة، وقد تكون المجموعة عدداً من المتميزين أيضا بقدرات أخرى ذات طابع تكاملي ضمن فرق – كما أسلفنا في ورقة سابقة – وللقائد تصرفات وسلوكيات وعباءات عددناها بست عباءات، واشرنا لشخصيات قيادية كما اشرنا لأهمية المناخ القيادي أو المناخ التنظيمي ولمعادلة النجاح. إلا أن القائد في المنظمة السياسية (التنظيم) سواء كان حزباً أو حركة أو جبهة سياسية له بناؤه الذاتي كما له تكوينه المرتبط بزملائه وبكوادره وبالجماهير.
اتجاهات بناء الشخصية
بحيث تصبح اتجاهات بناء الشخصية لديه في خمسة خطوط هي:
1. مع ذاته.
2. مع زملائه – من نفس الرتبة.
3. مع كوادره- من هم ضمن مسؤوليته.
4. مع أطره العليا.
5. مع الجماهير.
وفيها جميعاً تعد القدرة على اكتشاف الذات ثم تصور إمكانية تغييرها ثم إيقاع النفس في تجارب عقلية واجتيازها ثم الدخول في التجارب الحقيقية فالاستفادة منها في تطوير التجارب العقلية مما يحقق التطوير أو التغيير الذاتي ، يعد من أهم عناصر القائد والكادر المتميز ضمن أدوار فريق العمل.
خط بناء الذات
ولتقريب الفكرة أكثر نكرر أن خط بناء الذات، أو كما يسميها على شريعتي (الحرث في حقل الذات) تأخذ المعادلة التالية:
- اكتشاف الذات.
- تصور (تخيل) إمكانية تغييرها.
- الدخول في تجارب عقلية واجتيازها.
- الدخول في تجارب حقيقية / بناء تثقيفي/ بناء تدريبي.
- الاستفادة من التجارب.
- تطوير التجارب العقلية (المتخيلة).
- تحقق التغيير وإمكانية رصده.
الإيمان المهزوز والمحبول
وضمن خط بناء الذات يعتبر الإيمان والقناعة بالذات أمر هام إلى درجة انه يصبح لا تقدم إذا كان الإيمان الشخصي مهزوزاً أو منزوعاً أو مهترئاً أو محبولاً أي مرتبطاً بحبل. إن الإيمان المهزوز هو تصور إمكانية تغيير الذات مع عدم الدفع بالاتجاه لاستثقال الواجب أو همة واطئة، والإيمان المنزوع هو إظهار إيمان في حقيقته خواء كمن يصرخ معبراً عن قدرته على عبور النهر وهو لا يعرف ولا يريد السباحة. أما الإيمان المهترئ فهو الإيمان بمعتقدات بالية كما هو شأن الأحزاب الشيوعية العربية، أما الإيمان المحبول فهو ما يبدو إيمانا يلحقه تصميم ويظهر بصاحبه إرادة وفعل ولكنه في حقيقته مرتكز على مقومات مصلحة متى ما انتفت تفتك الإيمان وسقط الحبل فأصبح البئر مقر الشخص.
الإيمان الحقيقي
أما الإيمان الحقيقي ضمن خط بناء الذات فيأتي من الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) المائدة 35، حيث يكون الإيمان الحقيقي مرتبطاً بتقوى الله بأن يراك حيث يحب ولا يراك حيث يكره كشرط أساسي لبرهان الإيمان الذي شرطه الثاني ابتغاء الوسيلة، بابتغاء مرضاة الله، وابتغاء تحقيق الهدف عبر التفكير المنطلق، التفكير الابتكاري، التفكير الحر في الكون وآلائه والتدبر، والتوصل لنتائج وتحديدات، وتخير الوسائل لتحقيق الأهداف الدينية والدنيوية.
إن رسم مسار عقلي للقائد ابتغاء وسيلة، وان تصور المشاكل وطرق حلها ابتغاء وسيلة، وان الشك كمدخل للتثبت وسيلة كما هو شأن آلاف الوسائل الأخرى التي يدفع الله سبحانه وتعالى عبده لاكتشافها ولا يكفي ذلك لأن الشرط الثالث للإيمان أن يصدقه العمل كما تقول الآية الكريمة فيكون الجهاد في (هذا السبيل) المتخير أو المكتشف لنصل الشرط الرابع للأيمان هنا وهو عدم التوقف عن التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد، ما نفهمه من قوله تعالى لعلكم تفلحون لان الفلاح بالتقوى والإيمان يحتاج للتواصل لا التوقف ويحتاج للتجدد لا الاكتفاء، والله تعالى (ذو الفضل العظيم) (يؤيد بنصره من يشاء)
آل عمران 13، وهو الله الذي يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا والله لمع المحسنين) العنكبوت 69، حيث يظهر الشرط الخامس للإيمان الحقيقي هنا بتحقق الهدى للسُبل متى ما أظهر العبد حسن الجهاد.
ولنعود لتلخيص مفهوم الإيمان (الديني والدنيوي والتنظيمي، وللشخص والكادر والقائد) بالقول أنه يحتاج لقواعد خمسة هي:
1. التقوى (ترصد الهدف وحمل القيم).
2. ابتغاء الوسيلة (الوسائل).
3. الجهاد (النضال).
4. التواصل.
5. التحقق (التنفيذ).
إن القائد التقي الملتزم، القائد الحقيقي في التنظيم يوجد حيث يجب، حسب النظام وحسب معايير الأهداف والأخلاق والقيم، وهو المتفكر في ابتكار الوسيلة، والمناضل المجاهد بلا كلل، وبتواصل يعمق التجربة ويوقع التحقق.
القائد والسبل
إن القائد مع ذاته ذو إيمان وذو عزيمة، وذو إرادة، وذو انتماء للمبادئ والفكرة وللذات أيضا، وهو المتجدد المتطور لقدراته وإمكانياته، فلا تنقطع به السبل، بل يبحث دوما عن سبل جديدة تعدل في سلوكه وتجدد في أفكاره ليصبح في الخط الثاني والثالث والرابع وهي خطوط التعامل مع زملائه
وكوادره وأطره العليا:
- صادق الاتصالات بهم.
- يتفهم الاختلافات وحدود القدرات.
- يتقبل المشاركة معهم.
ويصبح مع الجماهير تلميذاً متعلماً في حين، ومعلماً في حين آخر، يثق بهم ويقربهم ويعتمد عليهم في حين، ويقدم لهم ويوجههم ويخدمهم في أحايين أخرى.

الصفات الخمس الكبرى للقائد
إن القائد التنظيمي مهما تنوعت عباءاته الخمسة وان لبس العباءة السادسة في متغير الموقف الذي يعالج تداخل الأشخاص مع المكان والزمن وطبيعة أو مكونات الحدث، هو قائد قد يتصف بواحدة أو أكثر من الصفات الخمسة الكبرى التالية:
1. عقلية منظمة: تفكير منظم، متسلسل، هادئ، مرن، مبتكر، يحلل، يربط، يتعلم دوماً، يخطط، يتصور المواقف، يرى المستقبل.
2. يصنع سبل العمل: يصنع الأطر، يختار الوسائل، يضع الأشخاص في مواقع الفعل، حسن الاختيار، يتفهم الأطر، يحترم التعدد.
3. له قدرات متابعة: لا يهمل أمراً، يضمن المواضيع ضمن الآلية، يبت في المواضيع، يلاحق، ينجز، يدير.
4. ذو أداء حاسم: يعالج المشاكل، ويحل الخلافات، ويصنع القرارات، ويفهم علاقة الإلحاحية بالجاهزية بالزمن والأولوية لكل حدث أو قضية أو قرار.
5. كنموذج حقق الالتئامeنموذج أخلاقي: لان صاحب الخلق العظيم محمد حول الفكرة بشخصه للكثيرين، ولأنه (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين) 59 آل عمران. ومن ذات الآية الكريمة نستنتج صفات القائد النموذجي مع شعبه، أمته، كوادره:
1. لين الجانب، مرن، يتفهم الاختلاف.
2. رحيم، رقيق القلب، جامع.
3. عفو متسامح.
4. يشاركهم ويشاورهم.
5. ذو عزيمة، وإرادة وقدرة وحسم.
6. يثق بنفسه وحكمه وإيمانه، ويتوكل على الله.
7. قوي الإيمان يحب الله، والله يحبه، ويهديه السبل.
إن خماسيات القيادة بالصفات الكبرى الخمسة التي ذكرناها قد ندعيّ أننا لا نراها في أي تنظيم سياسي في فلسطين، وقد ندعي أننا لا نراها في تنظيمنا الوسطي في حركة (فتح)، ولكنني استطيع أن اعدد لكم العشرات من قيادات المستويات المتعددة التي قد تتصف ببعض أو كل، بخمس أو خمسين أو
ثلاثة أخماس خماسيات القيادة أو صفاتها الكبرى، ما يحسن بنا الظن بإمكانية التطور والتغير.
عبور المسارات الخمسة
في تجارب الشعوب الكثير من المحطات التي من الممكن الاستفادة منها ولدينا من التجربة الصينية نموذج رفع من خلاله زعيم هذه الثورة (ماو تسي تونغ) شعار نستعيره وهو (عبور الممرات الجبلية الخمسة) حيث الانقطاع عن القديم واتخاذ موقف ورؤية جديدة من خمسة أمور، على نسقها نقول أننا في التنظيم – أي تنظيم- وكقادة تنظيميين نحتاج قبل غيرنا أن نعبر ممرات (مسارات) خمسة نفكر فيها بشكل جديد وسبل وآليات حديثة وبآليات نضال متطورة وهذه الممرات هي:
1. العضو: أو الذات، حيث ضرورة الاعتراف والإقرار الذاتي بطبيعة،بأفق، بمستوى التفكير، والقدرات، والادوار، ومستوى التقدم المطلوب، ومستوى التطور المنجز.
2. الناس: من الكوادر والأعضاء والزملاء وعموم الناس الذين يجب أن تختلف نظرتنا وتعاملنا معهم عما سبق في مراحل النضال المختلفة، لينصب كله الآن ضمن مساق خدمة الناس على الأرض، وان تصبح القضية الوطنية متماهية مع ذلك.
3. المهمة: أو الوظيفة أو الدور الذي يجب أن أقوم به في التنظيم، وضمن المجتمع. ما هو وكيف أعمل، ولمن أقدم عملي، وكيف تحدد الواجبات.
وطبيعة العلاقة الجديدة مع الوظيفة الرسمية والعشيرة والعائلة والطائفة والتنظيم السياسي من حيث الأولوية والارجحية، ومساحة التفاعل ضمنها.
4. القيم: أو كما ذكرنا سابقاً (النمذجة) الأخلاقية، بان نرسم أنفسنا أو نرسم لأنفسنا وللآخرين نماذج اقتداء – ليس كفكر الشيعة بالضرورة- وإنما لان النموذج أولي بالإتباع، حيث نرى المحاكاة التلفزية والإعلامية للممثلين والمغنين والراقصين تتفوق على العلماء والمفكرين والقادة.
5. النضال: تفكير جديد ومفاهيم جديدة يجب أن نصنعها كأمة وكفلسطينيين، من طبيعة نضالنا وفق العوامل التالية:
- شكل النضال/ نوعه.
- جدواه.
- مساحته.
- أولوياته.
- أخلاقياته.
- زمنه.
- القوى المتحكمة به.
إن القيادة في أي موقع وخاصة في داخل المنظمة (التنظيم) قدرات مكنونة، قابلة للبروز والتطبيق، وسلوك مشهود قابل للاقتداء، وألوان وعباءات بحسب المواقف والتفاعلات والشخصيات، ما يمكن القائد من التأثير في الآخرين، وتحقيق أفضل الانجازات عبر الآخرين.