كان يتطور ، يكبر ، ينمو في عمله ، بحيث أنه لم يقبل أن يبقى في مستوى مدير ب ، إذ سرعان ما استطاع أن يقترب من مديره العام بسرعة قياسية ، قليل من الحنكة وكثير من التزلف جعله يجلس على مقعد نائب المدير العام ، ولكن شخصيته الجديدة التي لا تعرف القناعة أو ترضى القليل ، وشخصيته التي لا تأبه بأحد في سبيل تحويل الأحلام إلى واقع معاش جعلته يستغل قدراته بالحديث الجذاب ، والمديح إلى درجة التزلف في خلع مديره العام والجلوس في موقعه ولما يمر عليه في العمل سنوات ثلاث .

في خضم اختلاط الأوراق مع بداية نشوء السلطة تم ترشيح أبو النافع – وهذه كنيته – لمرتبة مدير ب ، رغم أنه لا يتحصل على أي شهادة إلا من بضع سنوات اشتم فيها رائحة الكتب ولم يجهد فيها نفسه ليتعلم سوى الكتابة والقراءة ، إلا أن واقع التوازنات والحساسيات والمحسوبيات جعله في موقع ليس له أهل وليس له كفؤ ( ومثله مثايل
(
هكذا حدثنا عبد البديع أحد أصدقاء أبو النافع الجدد في وزارة السياحة الفلسطينية ولأننا استطبنا حديثه رغبناه بأن يكمل مقابل أن ندفع عنه ثمن المشروبات والشيشة في جو جلستنا اللطيف حيث رام الله بعد العشاء في مقهى ( أب سايد داون ) تزخر بالحياة
.

قالت أم النافع وهي زوجته : أن أبو النافع كان يتقدم في موقعه في وزارة السياحة يوما اثر يوم ، يزداد تأنقا، ويزداد (نفخة) ، ويزداد حركة ، ويزداد تواصلا مع عدد كبير من الناس
...
أضافت : كنت أظنه يرغب بترشيح نفسه بالانتخابات من كثرة العلاقات التي ارتبط بها مع عدد كبير من الناس لم نعرفهم سابقا ، حيث الداخل داخل والطالع طالع ، حتى مللت وضججت ، ولم استطع أن أقول كلمة

فأبوالنافع لا يسمع مني . تبين لي لاحقا ما جعلني أفكر مليا في افتكاك ارتباطي برجل أمضيت معه عشرين عاما لا تسألوني أكثر من ذلك فلقد تغير كثيرا في العمل ، وفي البيت
.

أبوالنافع الأربعيني المتكرش ذو الوجه المتفجر حيوية والعيون المتراقصة مثال حي للفساد في جسد السلطة الفلسطينية الوليدة . حمل معه حلما بالوطن وناضل وقاتل وكافح إلى الحد الذي اعتبر حياته كلها وحياة إخوانه وأبنائه وجيرانه والفران والسمان وبائع العرقسوس وجارتهم اللبنانية الجميلة فداء للوطن ، إلى أن صدمه اكتشاف سيل الأموال التي تتفجر كالنبع بين أصابع مسؤوله منذ كان صبيا في أحد المواقع في لبنان إلى تونس ثم إلى الوطن
.

في الوطن تدرج أبو النافع الذي أتقن التزلف في مرحلة السياحة في تونس -ولكنه كان قد أبقى على قليل من العفة المالية ما دامت كتب المساعدات تغطي اللازم . أنا لا أسرف ،هكذا كان أبوالنافع يخاطب محدثيه
:
أنا أفعل كالآخرين أتقدم بكتاب تلو الكتاب واستلم المساعدة ولا أمد يدي لأسرف كما يفعل أبو الللآلئ وأبو العجايب وصديقي الأثير أبو العواصم أو مسئولي الذي تعرفونه
.

في بيروت حينما التحق أبوالنافع بالثورة رأى البحر من عيون صلاح خلف ورأى فجر يافا يبزغ من رداء خليل الوزير ونام ودعائه بالتوفيق يشمل جميع أعضاء اللجنة المركزية لحركة ( فتح ) وأحيانا جميع أعضاء المجلس الثوري أيضا ، وأعضاء المكاتب السياسية لكافة التنظيمات فهم قادتنا قدوتنا كما كان لا ينفك يردد أبوالنافع في وجه كل زملائه . توقف عبد البديع عن الكلام قليلا ليسحب جملة طويلة من أنفاس الشيشة المنطلقة على حسابنا من فمه الكبير، فيما كنا نترقب أن يكمل بفارغ الصبر
.
بقي من ميزانية مسؤوله أبو كفاح مبلغ 700 دولار من تلك الميزانية التي لا يحاسب عليها لأن المصاريف السرية التي تذهب لدعم تنظيم الوطن وثواره يجب أن تبقى سرية ، والحساب يوم الحسا ب ... المهم أنه في يوم من الأيام بقي من هذه الميزانية 700 دولار وضعهم أمين صندوق أبو كفاح على الطاولة ، ظهرأبو النافع في المشهد واقفا كالطود الشامخ والفدائي العتيد ينتظر الأمر بالانصراف ... رفع أبو كفاح وجهه ، وعدل من وضع نظارته ، وترك قلمه الذي كان يوقع به عددا من الأوراق وقال ناظرا إلى أبوالنافع : هل تعرف مقاس حذائي ؟! رد أبو النافع مستغربا : لا يا سيدي ؟ قال له أبو كفاح : انه 42 ؟ فلم يجد أبو النافع ما يرد به على أبو كفاح إلا أن قال : حاضر سيدي . فهو ما زال في قمة الالتزام والانتماء واللياقة ... قال أبو كفاح : خذ هذه ال 700 دولار واذهب إلى محل سيدلك عليه أبو القاسم – وهو أمين صندوقه – واطلب من صاحب المحل أن يختار لي
حذاء واحضره معك فورا ، توقف للحظة ثم أشار بإصبعه وقال :هو يعرف ذوقي ... كاد أبو النافع يعترض ، ليس على طبيعة التكليف الثوري لا سمح الله ولا على مقاس القائد أبو كفاح معاذ الله ولا على الحديث بمثل هذا الأمر أمام أمين الصندوق حاشا وكلا ، وإنما على كبر المبلغ وحرص أبو النافع على أموال الثورة ورغبته في صونها وألا يضيعها .... إلا أنه آثر الصمت محدثا نفسه أنه سيعيد الباقي في جميع الأحوال ...
ذهب أبو النافع إلى المحل المذكور في شارع الحمراء في بيروت ، وحدث البائع بطلب القائد أبو كفاح . أعلمه صاحب المحل أن أبو كفاح زبون دائم . اختار له حذاء ايطاليا مميزا وأخذ ثمنا له كامل المبلغ طلب أبو النافع رد الباقي . حلف البائع أن ثمن الحذاء ألف دولار بالتمام والكمال ولكن ( كرمال عيني وقدميّ القائد أبو كفاح ) خصم 300 دولار ، فكانت هذه الصدمة الكبرى الأولى لأبوالنافع . هكذا قال عبد البديع وطلبعلى حسابنا بالطبع- كاسة كوكتيل دوبل وساندويش شاورما
.

أما الصدمة الثانية –حيث استطرد عبد البديع وهو منتشيا- فكانت في تونس . قال : ترقى أبو النافع ليصبح إضافة لعمله كمرافق للقائد أبو كفاح أمينا للصندوق بعد استشهاد أمين الصندوق السابق أبو القاسم في حصار بيروت 1982. تفتحت عيناه على أساليب وفنون السرقة التي أقلها أن معظم الميزانية كانت تصرف بلا حسيب ولا رقيب على أم كفاح وعلى كفاح وعلى ناهد وفداء وخديجة أبناء القائد الجهبذ أبو كفاح الذي تعرفونه مشيرا ببربيش الشيشة الى وجوهنا واحدا واحدا وما كنا لنعرف أفضل منه
.
لطالما تألم أبوالنافع متسائلا: لماذا يفعل ذلك إنه قائد عظيم و مخصصه كبير وامتيازاته كثيرة ، ولكن لماذا لماذا؟؟ كتم الأمر عن أم النافع والكثيرين رغم ما يرى ويسمع من الحالات الشبيهة ... إلا أنه في هذا الجو المريض سقط من حول قيم أبوالنافع حزامين من أحزمة الحصانة . لم ينفعه عنفوانه الثوري السابق ورغبته بالتضحية التي تحولت إلى الصفر ولكنه بقي رافضا لمد يده والسرقة . إلى أن انتهت مرحلة الثورة كليا وعاد إلى الوطن العزيز الذي كان يحلم بالعودة له ليلا نهارا . وهنا تثاءب عبد البديع طالبا الإذن بالرحيل فقمنا جميعا وألزمناه كرسيه ليكمل الحكاية
.

لم تختلف حال القائد أبو كفاح مع مرحلة بناء الدولة
.
فالأموال ظلت بين يديه ومصائر الناس أيضا ، وأم كفاح مازالت ترفل بثياب العز والحرير ولكن حال أبو النافع تغيرت كليا فانفتاحه على عالم الفساد في الوطن مع عالم الفساد القادم منه بحصانة ضئيلة .... قضت على كل مقاومة باقية لديه
.
ارتبط ارتباطا فاحشا بعدد من أمراء الفساد من السُرّاق وتجار الممنوعات والعملاء . أغروه بما لا يطيق أو يحلم -رغبة في استغلالهم لموقعه- إلى الدرجة التي انفصل فيها عن القائد أبو كفاح ، وبدأ يعمل

منفردا ولحسابه الخاص
.
في هذه المرحلة كان أبوإياد وأبوجهاد والشهداء عامة قد تحولوا في عقيدة أبو النافع إلى مجموعة من الأغبياء أو أولئك ( الذين ماتوا وراحت عليهم ) ، وانقلب دعاؤه لهم إلى الدعاء عليهم ، وأصبح المجد

للدولار والجنيه والفرنك الفرنسي وأخير لليورو
.
قام النادل في المقهى بتغيير رأس الشيشة أربع مرات على ما نذكر وعددنا ما لا يقل عن خمسة مشاريب راحت كلها في معدة عبد البديع فلما قام وقد أنهك كل الإنهاك بسبب ما أكل وشرب ، قال : هيا بنا نقوم جميعا إلى بيت المرحوم أبوالنافع لنعزي معا وتستشعرون الحدث بأنفسكم
.
رأيناها فكرة جيدة . قال عبد البديع وكأنه يقرأ بعض تحفظاتنا : لا تقلقوا فإن هذا الوقت المتأخر لا يعني شيئا فنافع صديقي كأبيه وادخل بيته متى أشاء ، هيا بنا
.

دخلنا بيت أبوالنافع في ضاحية البالوع في رام الله . بيت واسع ، مليء بقطع السجاد واللوحات ، وعدد كبير من أواني الكرستال وفرش بيت كأنه اشتري بالأمس . تقدمنا من نافع وأمه بالتعزية وترحمنا على أبو النافع رغم ما أشيع حوله من اتهامات بالعمالة لا يجزم أحد بصحتها
.
أم النافع التي كانت ترفض الحديث المسهب عن زوجها كما علمنا من عبد البديع بالطبع، بكت أمامنا بكاء مرا. وقالت دون أن نستحثها وكأنها كانت راغبة بالفضفضة : الله يرحمه أبو النافع لقد أضاع عمره الطويل في آخر 4 سنوات . لقد عاش حرا طليقا ، وعاش عفيف اليد واللسان أربعين عاما إلى أن... ثم توقفت عن الحديث
!!!
لقد قتلت مجموعة من كتائب شهداء الأقصى أبو النافع بتهمة العمالة وذلك أثناء انتفاضة الأقصى والقدس والاستقلال بعد أن ضبط متلبسا بتبادل المعلومات اثر لقاء مع أحد ضباط الإدارة العسكرية الإسرائيلية في بيت إيل وبعد أن تم التحقيق معه وأقر إقرارا دون جبر بارتباطه بالعدو منذ فكر في شراء المرسيدس 500 الفخمة كما جاء في بيان الكتائب ، والله أعلم
.
عادت أم النافع ، الصبية المحيا رغم الهم والتفجع ، عادت للبكاء ثانية . ابنها نافع غاضب أشد الغضب لبكائها أمامنا على ما يبدو قدم لنا القهوة السادة وهو محنقا.... غيرت أم النافع من جلستها وزفرت زفرة طويلة و قالت: كان فاسدا ربما أو هكذا يصفونه ، وكان يتعامل مع مشبوهين ربما ، وكنت أحذره من كثير من أصدقائه الجدد نعم ، ولم يكن يستجيب نعم أيضا.... ولكنه ما كان عميلا أبدا ، ثم أضافت : لقد تغير كثيرا ، لقد تغير كثيرا في آخر أيامه ، ولكنه الرجل الذي أحببت ووثقت به وعاشرته الله يرحمه . نظرنا في عيون بعضنا وفي عيني عبد البديع بإشارة للخروج من البيت فوقفنا استعدادا للخروج وفي أنفسنا الكثير خاصة وأحزان أم النافع قد تفجرت في وجودنا
.
قالت أم النافع : أنتم مثل ابني نافع ولكن ما أود قوله هو أن لعنة الله على القائد أبو كفاح .. هو السبب .