تعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجا عربيا مشرفا والذي قام سلميا بالاتحاد، ومن ثم بتعميق التجربة الوحدوية على مدى من الزمن حاول فيه الكيان الاتحادي المحافظة على تعزيز التواصل السياسي والأمني والإداري لهذه الكيانات الصغيرة المتحدة ممثلا بالوزارات الاتحادية التي تحملت العبء الأكبر في استيعاب آمال وطموحات أجيال من المواطنين، ولعبت القيادة السياسية منذ تولي المغفور له صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الدور الأعمق في زرع الإحساس بالمواطنة في نفوس أبناء الاتحاد مما كان له التأثير الأكبر في منح الكيان استقرارا ورسوخا في ضمير الفرد جيلا بعد جيل، وهذا ما جعل دولة الإمارات النموذج الأكثر تسامحا من حيث الاستقرار السياسي الذي قدم تنازلات في سبيل بناء كيان واحد وحدوي·
ومع التقدم الكبير الذي تشهده الدولة في جميع المجالات، والطفرة الاقتصادية التي ألهمت رؤوس الأموال الأجنبية والعربية إلى الاستقرار في الدولة وإقامة مشروعاتها الضخمة والعملاقة مستثمره المناخ الأمني والعقلية الإدارية لرجالات الدولة التي وفرت الأرضية المناسبة إلى جانب التسهيلات التشريعية التي مهدت لنهضة كبيرة، غيّرت كثيرا من المفاهيم التنموية في المنطقة العربية وتحديدا في منطقة الخليج العربي، وساهمت هذه الطفرات التي بدأت تتبلور منذ حقبة تسعينات القرن المنصرم في إحداث ثورة علمية وتعليمية كان لها الأثر الكبير في تبني القيادة السياسية لرؤية طموحة تعزز من هذه المكتسبات وتدفع بالعجلة الاتحادية إلى الدوران لتعميم الفائدة وتمتين وحدة الكيان الاتحادي من خلال مبدأ الشراكة في الحلم الإماراتي الذي يجب أن يتبناه كل فرد مواطن ولعل هذا ما تكشّف من خلال الإستراتيجية التي أعلن عنها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي رئيس مجلس الوزراء، التي فسحت أمام المواطن الفرصة لكي يربط بين حقه في الطموح ومسؤوليته في تحقيق هذا الطموح، وألهبت مشاعر الكثيرين في تجديد الحلم بمستقبل مشرّف للدولة من خلال أسس عملية تنتظر التطبيق والعمل بها حتى يتم تفعيل حقيقي لمفردة الوحدة والانتقال إلى المستوى الذي يطمح إليه أبناء الاتحاد وهو الذوبان في كيان واحد بمعنى الكلمة، وقد يكون الطموح لمرحلة الذوبان حلم من حق الأفراد التمسك به، إلا أن التفاوت الاقتصادي تحديدا بين إمارات الدولة يستدعي دائما إعادة فتح هذا الملف·
وحتى لا يتعثر الطموح لرؤية الدولة في مصاف الدول المتقدمة بخاصة وأن هناك تقارير دولية يمكن أن ترفع أو تحط من أية تنمية بشرية في أية دولة في العالم، فإن المبادرات المتواصلة والمستمرة من قبل القيادات السياسية التي بدأت تأخذ منحى جديا في رفع المؤشرات التنموية البشرية في الدولة تشعر المواطن بالتفاؤل وتشحذ حماسه وإصراره على موازاة الشراكة، لكن المحبط حقا هو أن يفقد الفرد القدرة على التواصل مع هذه الرؤية والطموحات في حالة شعوره بالتهميش، أو من خلال إشاعة مناخ يشعره بانعدام العدالة الاجتماعية وبخاصة حين يتمثل هذا الإحساس لدى شريحة واسعة من الموظفين الذين لا يزالون يعانون في ظل رواتب متدنية وغياب كامل للتقويم، ووأد حقيقي لتعزيز الأداء، ولعل مواصلة الخطط الطموحة التي يقودها رئيس مجلس الوزراء شخصيا قد لا تشمل الدوائر المحلية في مختلف الإمارات التي يرزح بعضها منذ سنوات تحت وطأة أوضاع قاسية من ضعف الرواتب وضعف الإحساس بأهمية الفرد المنتج داخل هيكل الدائرة، وبالتالي الشعور مرة أخرى بعدم جدوى الإستراتيجيات التي لا تشملهم، ولعل هذا بيت القصيد الذي يفترض أن نركز عليه في بحوثنا ودراساتنا فالحقيقة أن التفاوت الاقتصادي بين إمارات الدولة أفرز ضعفا كبيرا في إدارة شؤون شريحة كبيرة من الموظفين الذين ينظر بعضهم بعين الحنق وربما الحسد لإخوانهم في بعض الإمارات التي عززت ورفعت من مستوى الموظف بوضع هيكلية متجددة لتنمية الموارد البشرية فيها، ورافقت هذه الهيكلية زيادات مطردة في الراتب لتنمي شعور الموظف وانتماءه نحو مؤسسته وتلعب دورا في زيادة إنتاجيته·
وعلى مستوى الدولة فإن الوزارات الاتحادية ومع التوجهات السامية لرئيس مجلس الوزراء في تغيير النمطية المعروفة للموظف الحكومي لا تزال تخطو خطوات حذرة تجاه هذا الاتجاه في ظل كادر وظيفي ثابت، والجميع يترقب انتهاء وزارة تطوير القطاع الحكومي من مشروع إعادة هيكلة الوزارات القديمة لإصلاح الترهل الذي تعاني منه، وذلك بوضع معايير لقياس أداء الموظفين، وإمكانية تدويرهم بما يتناسب واحتياجات كل وزارة، ولعل هذا الحديث يعيد نفسه بالنسبة للوزارات الاتحادية لكن مع الاتجاه الذي تتجه إليه بعض الإمارات التي تقود رؤية متحضرة لعملية تنمية الموارد البشرية فإن من الأجدى أن تنطلق هذه الرؤية من عباءة المؤسسات الاتحادية بالدرجة الأولى لأنها تحتضن الشريحة الأكبر إضافة إلى أنها صاحبة الاختصاص في إدارة شؤون مؤسسات الدولة الاتحادية وبالتالي لا بد أن تولى العناية مبكرا في إحداث ثورة شاملة، فالكثير من الكوادر الوظيفية ظلت على مدى عقود من الزمن على عهدها بخاصة وأن بعضها لم يأخذ بعين الاعتبار تغير المستوى المعيشي ، وهذا ما أوقع شريحة كبيرة من المتقاعدين في هوة سحيقة إذا جاز التعبير فمصيرهم مجهول في ظل التغيرات والزيادات التي طالت الموظفين، وكأنهم يعيشون خارج الزمن الحاضر ويفترض منهم ومن أسرهم مجاراة ذلك، بخاصة وأن البعض لا يزال في مقتبل العمر وأجبرته ظروفه الصحية على التقاعد المبكر الذي جعله في ظل زيادة متطلبات الحياة الوصول إلى حالة من العوز والحاجة·
الحديث عن أهمية وجود قانون موحد لإدارة الموارد البشرية ربما من المفيد، لأنه يتيح الفرصة لتطوير القوانين الخاصة بشؤون الموظفين في مختلف الإمارات ويفسح المجال لتنمية الموارد البشرية في قطاعات واسعة من إمارات الدولة لا توجد بها إدارة لتنمية الموارد البشرية التي من شأنها وضع أفق جديد في قطاع الوظيفة العامة وتعزز مبدأ المساواة، إضافة إلى خلق مناخ صحي للعمل، ويعزز في الوقت نفسه الشعور بالمواطنة إلى جانب تعميم التجربة الرائدة في مجال إدارة الموارد البشرية كي تتوافق مع عمل هيئة تنمية وتوظيف الموارد البشرية الوطنية التي تتبنى الجانب التدريبي في المسار الوظيفي، والأهم تحقيق الطموح لمزيد من التقدير للموظف الحكومي·