بعيدا عن الإثارة والرغبة في الكسب السريع ، وبمنحى آخر غير تدوين الاعترافات وتصفية الحسابات مع النفس والغير ، أو تطهير الذات من شرورها وإبراء الذمة أمام التاريخ أو أمام الله تأتي السيرة الذاتية لزعيم الجنوب الافريقي الأشهر نيلسون مانديلا ، لتروي قصة كفاحه ضد نظام الأبارتايد العنصري وسعيه الدؤوب لإقرار نظام أكثر عدلا.

تلك السيرة التي صدرت في أصلها الانجليزي تحت عنوان مشوار طويل نحو الحرية عام 1994 عن دار براون للنشر ، ترجمتها للعربية وأعادت إصدارها الدكتورة فاطمة نصر عن دار سطور للنشر أوائل هذا العام ، تستدعي ، التساؤل عن مقصد مانديلا من نشر سيرته ولم تمض أشهر على توليه السلطة.
فسيرته كما نقرؤها ليست اعترافية ، والذات ليست محورها فهي ترتكز على الحدث. خصوصا وان مانديلا أصبح رمزا تمتلكه البشرية جمعاء ، لذلك يستبعد أن تكون سيرته محاولة منه لاستباق التاريخ والمؤرخين بكتابة سيرته الذاتية حتى لا يترك لأقلام الآخرين حرية تسجيل الكلمة الفاصلة عنه خوفا من التشويه أو سوء الفهم.

في سياق سرده للأحداث يذكر مانديلا أنه أثناء وجوده في المعتقل اقترح زملاؤه عليه كتابة مذكراته احتفاء ببلوغه الستين على أن يتم تهريبها خارج السجن والبلاد لنشرها كي تعمل على إذكاء شعلة المقاومة التي كانت قد خفتت آنذاك. ونجح مانديلا وزملاؤه فيما اعتزموه. غير أن تلك المذكرات لم يكتب لها أن ترى النور.

يقول مانديلا: إن تلك المذكرات هي العمود الفقري لسيرتها التي نعرض لها الآن ، والتى نهدف من ورائها لتبيان وترسيخ وتبرير سياسته التوفيقية التي التزم بها واتبعها. وتلك السياسة ليست وليدة الساعة ، وليست مسايرة للظروف والمتغيرات ، لكنها تنبع من عقيدة التزم بها المؤتمر منذ نشأته واعتنقها مانديلا فكرا عقلانيا وأساسا واقعيا لكفاحه منذ بدايه تسييسه ، كما عمقتها التجربة وقوى التزامه بها نضج الفكر وشمولية تجربته الإنسانية.
المشاغب،

الاسم والمولد ، الجغرافيا والتاريخ ، الزمان والمكان ، الناس والأحداث صنعت أبرز عمالقة الإرادة في القرن العشرين نيلسون مانديلا الذي لم يكن يحمل هذا الاسم حين ولد في الثامن عشر من شهر يوليو عام 1918 في مفيزو ، وهي قرية صغيرة في إقليم أومتاتا.
وكانت سنة مولده قد وافقت نهاية الحرب العالمية. وانتشار وباء الانفلونزا في العالم وزيارة وفد المؤتمر القومي الافريقي فرساي لكي يعبر عن معاناة الأفارقة في جنوب أفريقيا.

يقول مانديلا في سيرته: الشيء الوحيد الذي منحه إياي والدي بخلاف الحياة ، والبنية القوية ، والصلة الوثيقة بعائلة ثمبو الملكية هو دوليهلاهلا ، اسمي عند الميلاد. والمعنى الحرفي لاسمي هو نزع فرع الشجرة ولكن معناه الدارج هو المشاغب. ورغم أنني لا أومن بأن الأسماء تصنع قدر الإنسان لكن في السنوات التى تلت صار الأصدقاء والأقرباء يعزون الزوابع التى سببتها وواجهتها إلى اسمي.
ولم أكتسب اسمي الإنجليزي المألوف حتى يوم التحقت بالمدرسة. كان لوالده أربع زوجات ثالثتهن هي أم مانديلا ، نوز ـ كيني ـ فاني من عشائر الإكسهوسا. ولوالده ، ثلاثة عشر من الأولاد ، أربعة ذكور وتسع إناث. أما نيلسون فكان أصغر أبناء أبيه وله ثلاث شقيقات. دخل والده في جدل نتج عنه حرمانه من الرئاسة في مفيزو.

حين رفض الأب المثول أمام القاضي ، في شكوى من أحد الرعايا . وفي تلك الأيام لم يكن لفرد أن يعصي أمرا لممثل حكومة البيض واعتبر تصرف الوالد غاية في الغطرسة. واتهم فورا بالعصيان ولم يجر استجوابا أو تحقيقا فقد كان ذلك حقا للموظفين البيض فقط. وقام القاضي بعزل والدي ببساطة وأنهى بذلك رئاسة عائلة مانديلا.

يضيف مانديلا: لم أكن وقتها أدري بتلك الأحداث ولكني تأثرت بها. لقد فقد والدي ، الذى كان من النبلاء بمقاييس ذلك الزمن ، ثروته ولقبه. وقد حرم من معظم قطعانه وأرضه ومن ريعها. ونتيجة لعسر ظروفنا فقد رحلت أمي إلى قونو ، وقضيت أيام صباي فيها ومن هناك يمكنني استعادة أولى ذكرياتي.
الفقر عنوان الطفولة

كانت قرية قونو فقيرة جدا ، وكانت الذرة والفاصوليا والفول والقرع تتمثل الجزء الرئيسي من طعامنا ولم يكن ذلك لتفضيلنا إياها ولكن لأن الناس لم يكن بمتناولهم الحصول على أطعمة أخرى. أما العائلات الأكثر ثراء فكانت تضيف إلى ذلك الشاي والقهوة والسكر.

أما المياه المستعملة في الزراعة والطهو والغسيل فكانت النسوة ينقلنها من الجداول والينابيع يتذكر مانديلا هذه الأيام وعنها يقول : في صغري كنت أقضي معظم وقت فراغي في المروج ألعب وأتعارك مع صبية القرية وكان الصبي الذى يقضي وقته ملتصقا بأمه أنظر إليه على أنه مخنث. وفي الليل كنت أقتسم طعامي وبطانيتي مع أولئك الصبية.

وعندما عملت بالرعي لم أكن قد تجاوزت الخامسة حيث كنت أسهر على الأغنام والعجول. وذات يوم تلقيت درسا من حمار جامح ، كنا نتبادل تسلق ظهره وحينما جاء دوري قفزت على ظهره فجمح الحمار باتجاه شجرة شوكية وألقى بي بعد أن خدشت وجرحت الأشواك وجهي وسبب لي الارتباك في حضور أصدقائي. ورغم أن الفاعل كان حمارا تعلمت قسوة إهانة المرء لغيره. فقد كنت أهزم زملائي دون إشعارهم بالمهانة. وعادة كان الصبية يلعبون بمفردهم لكن أحيانا كنا نسمح لأخواتنا بمشاركتنا في ألعاب مناسبة لهم.
لم يقابل الطفل الصغير سوى قليل من البيض في قونو. فقد كان القاضي أبيض وكذلك بالطبع كان صاحب المتجر القريب.

وكان البيض يبدون له في عظمة الآلهة وكان يعلم أنه يجب إبداء الخوف والاحترام إزاءهم. ومن القرية إلى المدرسة ، وفي أول يوم لي في المدرسة أعطت المدرسة كل واحد اسما إنجليزيا ، وعن هذه التجربة يقول: الأفارقة من جيلي وحتى في يومنا هذا يحملون اسما إنجليزيا وآخر افريقيا فلم يكن البيض يريدون أو يستطيعون نطق الأسماء الافريقية وكانوا يعتبرونه تخلفا أن تحمل اسما وطنيا وقالت لى المدرسة في ذلك اليوم إن اسمي الجديد هو نيلسون. وبعد وفاة والده متأثرا بمرض رئوي اضطر مانديلا إلى العيش في قصر الحاكم ، وكان أحب الواجبات إليه هي كي حلل الحاكم فقد كان يقضي الساعات الطويلة لثني وكي السراويل بإحكام.

اتحاد الطلبة
تدرج مانديلا في التعليم بالمدارس الإرسالية المتاحة لتعليم الأفارقة في ذلك الوقت ، ومعها وفيها تعلم أصول الحياة الاجتماعية والعقلية بمستوى من الرفعة غريبا وجديدا عليه.

عن هذه التجارب الحياتية يقول : هناك ولأول مرة ارتديت البيجاما واستعملت فرشاة الأسنان والمعجون بدلا من استعمال الرماد والخلال ، كما كنا نفعل في قريتنا. وكانت المراحيض ذات الصرف الصحي والحمامات ذات الأدشاش الساخنة أشياء جديدة بالنسبة لي.

وفي أثناء السنة تم ترشيح مانديلا في انتخابات مجلس الطلبة وبدأ التصويت الرسمي للانتخابات وقاطعها معظم الطلبة عدا خمسة وعشرين طالبا انتخبوا الستة المرشحين الذين قرروا تقديم استقالاتهم وكان هو من بينهم . وفي اليوم التالي استدعاه المدير وناقشه في الموضوع وأصرر مانديلا على الاستقالة نزولا عن رغبة زملائه فقال المدير : إذا أصررت على استقالتك فستفصل من الجامعة.
الزواج وحرية القرار

بنفس المنطق رفض الشاب مانديلا العروس التي اختارها له الحاكم ، وقرر الهرب إلى جوهانسبرج ، يقول مانديلا عن هذه التجربة : في ذلك الوقت كان حسي الاجتماعي أكثر نموا من حسي السياسي فبينما لم أكن مستعدا أن أحارب النظام السياسي للرجل الأبيض كنت على استعداد للثورة ضد النظام الاجتماعي لقومي ورفضت أن يختار أحد لي عروسا ولو كان الحاكم نفسه.
وفي جوهانسبرج عمل حارسا ليليا لأحد المناجم ثم عمل بمكاتب عدة للمحاماة ، ثم انتقل إلى منطقة الكسندرا الفقيرة القذرة ، وحياتها المثيرة المحفوفة بالمخاطر.

يقول مانديلا : في عامي الأول هناك خبرت الفقر كما لم أخبره طوال إقامتي في قونو. فقد كنت أتقاضى جنيهين في الأسبوع على أن أدفع منها ثلاثة عشر شلنا أجرة سكني وكانت حافلة نقل الوطنيين وهي أرخص وسائل المواصلات تكلفني جنيها وعشرة بنسات في الشهر كما كنت أدفع مصاريف جامعة جنوب افريقيا وأنفق حوالي جنيه على الطعام علاوة على ثمن الشموع للاستذكار.
وكنت فى أيام كثيرة أضطر إلى السير ستة أميال في الذهاب للعمل والعودة وكانت تمر أيام لا أتناول فيها ما يقيم أودي ولا أغير ملابسي. وكان سيدلسكي قد أعطاني إحدى حلله القديمة التي ظللت أرتديها خمس سنوات حتى أصبح فيها من الرقع أكثر ما بها من قماشها الأصلي.وفي نهاية عام 1942 حصل على درجة الليسانس.

طريق الحرية
عن هذا الدرب الطويل يقول مانديلا : لا أستطيع تحديد اللحظة التي سيست فيها والتي عرفت فيها أنني سأمضي حياتي في الكفاح من أجل الحرية. ولأن تكون افريقيا في جنوب افريقيا يعني أنه تسيس منذ الميلاد.
فالطفل الافريقي يولد في مستشفى للأفارقة فقط ويستقل حافلة الأفارقة ويعيش في مناطق الأفارقة ويلتحق بمدارس الأفارقة ، هذا إذا التحق بمدارس أصلا. وحينما يكبر يقوم بالأعمال التي يقوم بها الأفارقة فقط ويركب قطارات الأفارقة ويؤمر في أي وقت من الليل والنهار ليبرز تصريحه وإذا لم يفعل يلقى به في السجن. وتحد حياته القوانين واللوائح العنصرية التي تعوق نموه وتضيع إمكاناته وتشل حياته.
في بداية الأربعينيات قررت مع آخرين تأسيس تنظيم الشباب ، كانت صيحة الحرب لدينا هي القومية الافريقية وكانت عقيدتنا هي إيجاد أمة واحدة من القبائل العديدة وإسقاط سيادة البيض وإنشاء حكومة ديمقراطية. وكنا على حذر شديد من الشيوعية وقد مضى إعلاننا على أنه يجوز لنا أن نستعير من الأيديولوجيات الأجنبية ولكننا نرفض استيراد أيديولوجيات أجنبية بالجملة في افريقيا.

زوجتي الأولى
التقى مانديلا بإيفيلين ميس زوجته الأولى ، فتاة هادئة جميلة يتيمة من الريف وكانت حينئذ تتدرب لتصبح ممرضة في مستشفى جوهانسبرج العام لغير الأوروبيين. وحدثت بينهما علاقة حب أعقبها زواج مدني حيث لم يكن باستطاعتهما تحمل تكاليف زواج تقليدي.
كانت افتراضية الأبارتايد تقوم على فكرة سمو الجنس الأبيض على الأفارقة والملونين والهنود. وكانت وظيفته تنحصر في ترسيخ السيادة البيضاء إلى الأبد أو كما صاغ ذلك القوميون إن الرجل الأبيض يجب أن يظل سيدا بكل ما يحمله لفظ السيادة من معاني العنف.
وكانت الكنيسة الإصلاحية الهولندية تؤازر تلك السياسة وقد أمدتها بالأساس العقائدي القائم على الأسطورة التي مفادها أن الأفريكانيين هم شعب الله المختار وأن السود نوع تابع. وكان انتصار القوميين نهاية لسيادة الإنجليز على الأفريكان. حيث كانت شعارات القوميين وهي أن شعبنا ولغتنا وأرضنا تلخص مهمتهم ورسالتهم.

قوانين التمييز العنصري
في عام 1950 أصدرت الحكومة قرارين يعتبران حجر الزاوية في التمييز العنصري «الأبارتايد» وهما قانون السكان والتسجيل وقانون المناطق الجماعية أو مناطق المجموعات وقد سمح القانون الأول بتصنيف السكان على أساس عرقي وبطريقة عشوائية مما نتج عنه أحيانا التفريق بين أعضاء الأسرة الواحدة اعتمادا على لون البشرة وتجاعيد الشعر وسمك الشفتين.
أما قانون المناطق فيعتبر أساس الأبارتايد السكاني وبناء عليه فإذا أراد البيض تملك الأراضي أو المساكن التي يمتلكها الأفارقة أو الهنود فما عليهم إلا أن يعلنوا المنطقة بيضاء.
كما أنه بناء على ذلك القانون بدأت حركة نقل جماعية للسكان بالقوة في حالة قرب المناطق التي يعيش فيها الأفارقة من مناطق سكان البيض. من هنا اندلعت شرارة حملة واسعة للعصيان المدني. وفي 3 يوليو عام 1952 ، ألقي القبض على مانديلا ، بتهمة انتهاك قرار حظر الشيوعية. يقول مانديلا: حررتني الحملة من عقد النقص والدونية ومن الشعور بالقهر ومن مناعة الرجل الأبيض ومؤسساته. وبلغت سن الرشد كمقاتل من أجل الحرية.
النضال حياتي في ذلك الوقت كانت حياة مانديلا خلال حملة التحدي تسير في اتجاهين: عمله النضالي ، وعمله كمحام بعدة مكاتب فتح بعدها ، مكتبا مشتركا للمحاماة حمل اسم (مانديلا وتامبو) وقد كان الأفارقة في أمسّ الحاجة للمساعدة القانونية فقد كانت جريمة أن تدخل من باب مخصص للبيض وجريمة أن تركب حافلة للبيض وجريمة أن تستعمل صنبور مياه للبيض وجريمة أن تسير على شاطئ مخصص للبيض وجريمة أن تتواجد فى الشارع بعد الحادية عشرة مساء وجريمة ألا تحمل دفتر تصاريح وجريمة أن يكون هناك توقيع خطأ في الدفتر وجريمة أن تكون عاطلا وجريمة أن تصل في المكان الخطأ وجريمة أن تسكن في المكان الخطأ وجريمة ألا يكون لك سكن.
يقول مانديلا: كنا نستمع يوميا ونقابل آلافا من الإهانات التي يلقاها الأفارقة فى حياتهم. ومنها خطط إخلاء المناطق التي يسكنون بها والتي أكدت لي ضرورة المقاومة ولكن الدرس الذي استنتجته أنا ، هو أن خيارنا الوحيد هو الكفاح المسلح.

تعليم عنصري
في عام 1953 أقر البرلمان قانون تعليم البانتو الذي قصد بمقتضاه أن يضاف طابع التمييز العنصري إلى التعليم ، وقد شرح د. هنريك فيرويرد ، وزير تعليم البانتو ، السياسة الجديدة قائلا: إن التعليم يجب أن يعلم الناس ما يناسب فرصهم في الحياة. أي أن الأفارقة باختصار يجب أن يتدربوا على الأعمال الوضيعة لكي تستمر سيادة الرجل الأبيض.
ثار مانديلا ضد القانون الجديد وضد وزير التعليم ، وطاردت عواقب القانون الحكومة بطرق لم تتوقعها فقد كان تعليم البانتو هو المسؤول في السبعينيات عن تخريج جيل من الشباب الأسود الأكثر غضبا وثورة.
شارك المناضل الافريقي الكبير في وضع ميثاق ودستور للحرية لجنوب افريقيا ، وعرض الميثاق على مجلس الشعب فرفضه ، ورغم الرفض فإن الميثاق ذاته أصبح علامة مضيئة لمعركة التحرير في افريقيا كلها .
وفي مارس عام 1956 صدر قرار الحظر للمرة الثالثة ضد مانديلا وحددت إقامته في جوهانسبرج لمدة خمس سنوات ومنع من حضور أي اجتماعات. لكن هذه المرة تغير موقفه من الحظر وقرر ألا يسمح لعدوه أن يقرر مدى نشاطاته السياسية وصلته بالمعركة ، فقرر أيضا ألا ينصب نفسه سجانا على نفسه، لتمضي رحلة المكافح على طريق الحرية
في الحلقة الثانية من سيرة المناضل الافريقي نيلسون مانديلا التى ترجمتها د. فاطمة نصر ، وصدرت عن دار سطور ، لا يتوقف مانديلا في سرده للأحداث ، لوصف تفاصيل الممارسات الدموية الشريرة للبيض والتي نقرأ عنها حتى في كتابات بعض البيض أنفسهم ، ولا يتخير وقائع بعينها كأمثلة لمعاناة الأفارقة.
ومن ناحية أخرى يعطي مانديلا أمثلة عديدة لعظمة بعض رجال القانون البيض وعدالتهم ومن بينهم بعض القضاة الذين حاكموه. كما يسجل كفاح ومواقف عدد من البيض الذين عملوا معهم وتعرضوا للسجن والنفي والموت.
وقصة كفاح مانديلا وشعب جنوب إفريقيا كما ترويها السيرة هي أوديسا الواقع المعاصر ، قادها شعب عاش مغلوب على أمره لمئات السنين وسلب حقوق مولده وكيانه الإنسانى ضد نظام من أشرس الأنظمة وأشدها قوة وثراء وصلفا. وتمكنوا وهم الضعفاء الفقراء المحتقرون ليس فقط من زعزعة النظام والإتيان عليه بل أيضا من كسب مؤازرة شعوب الأرض وحكوماتها ودفعها لتبنى قضيتهم سواء كان ذلك عن عقيدة أم مسايرة للتيار العام.
لم ينظر مانديلا للمعركة على أنها معركة بين مجموعتين من البشر فقط لكنه نظر إليها على أنها معركة بين أيديولوجيتين يميزهما التباين والتشابه فى نفس الوقت. فقد قام "الأبارتايد" على أساس عقيدة سمو الجنس الأبيض ودعمت تلك العقيدة أسطورة دينية تصنف البشر تصنيفا هرميا يتربع الجنس الأبيض فيه على القمة ويرتب بقية البشر فيه بين القمة والقاع الذي يحتله السود.
وعلى الجانب الآخر تتلخص أيديولوجية المؤتمر ومانديلا فى التأكيد على المساواة بين البشر وأن العدالة والديمقراطية هما من أجل حماية حقوق الفرد والمجتمع بغض النظر عن اللون والعرق.
ولعل تجربة المعتقل التى فاق عدد سنواتها عدد سنوات الكفاح خارجه هى التى تشعر القارئ ليس فقط بضآلته أمام عمالقة الإرادة والفكر السليم ، لكنها تجدد فى النفس الثقة بالإنسان والعقيدة.
فى فجر الخامس من ديسمبر عام 1956 تم القبض على نيلسون مانديلا الذى كان قد رفض تحديد إقامته لمدة خمس سنوات ، ووجهت إليه تهمة الخيانة العظمى والتآمر لإسقاط الدولة وسرعان ما تم نقله إلى سجن جوهانسبرج الذى كان يعرف بالقلعة وأودع زنزانته عاريا لأكثر من ساعة وسط موجة عارمة من الغضب التى اجتاحت جنوب إفريقيا ، وموجة أوسع من الاستنكار فى العالم .

الزوجة الثانية،
مرت الزيجة الأولى فى حياة مانديلا بمتاعب مريرة خصوصا قبيل محاكمته بتهمة الخيانة العظمى وكلفه انشغاله بالنضال السياسى تركه لزوجته الأولى ، إلى أن تعرف على فتاة أعجبته ، واسمها نومزامو وينيفريد مايكيزيلا وتعرف بـ(ويني) وقد أكملت دراستها فى مدرسة الخدمة الاجتماعية وكانت أول سوداء تعمل إخصائية اجتماعية فى أحد المستشفيات. ومن أول لقاء بينهما أرادها زوجة له.
عن هذه التجربة يقول: قابلت ويني وشرحت لها ظروفي ، وأخبرتها أننا من المحتمل أن نعيش على راتبها الصغير ووافقت ولم أعدها بالماس والذهب ولم أستطع أبدا أن أعطيها ذلك وتم الزواج فى 14 يونيو عام ,1958 ورغم أننى كنت أحاكم بتهمة الخيانة فقد منحتنى ويني الأمل وشعرت أن فرصة ثانية للحياة قد أتيحت لي. وسرعان ما اختارت هى الأخرى طريق النضال الذى افقدها وظيفتها وسبب لها ولأسرتها متاعب جمة.

مجلس كل الأفارقة
في عام 1959 هبت رياح الحرية على إفريقيا ، وأعلنت غانا جمهورية مستقلة برئاسة نكروما الإفريقى القوى المعارض للأبارتايد مما سبب الذعر للحزب القومى وجعلهم أكثر إصرارا على إخماد المعارضة فى البلاد. وولدت منظمة مجلس كل الأفارقة وقد أعلنت منذ البداية رفضها لسياسة كل الأعراق التى يتبعها المؤتمر. وفى عام 1960 استقلت عدة مستعمرات سابقة فى إفريقيا وأصبحت دولا مستقلة. وزار هارولد ويلسون رئيس وزراء بريطانيا جنوب إفريقيا وتحدث فى البرلمان عن رياح التغيير التى تهب على إفريقيا.
وكان آخر الأماكن التى وقعت فيها مظاهرات هى شاربفيل وقد انتهى الأمر بمأساة. حيث قتلت الشرطة ستة وتسعين إفريقيا أصيب معظمهم برصاص فى ظهره وبلغ عدد الجرحى أكثر من أربعمائة من بينهم عشرات النساء والأطفال. وكانت مذبحة نشرت صورها صحف العالم وأثارت ردود فعل عنيفة على المستوى المحلى والدولى وصدرت احتجاجات غاضبة من جميع أنحاء العالم بما فيها المصادر الرسمية الأمريكية. ولأول مرة يتدخل مجلس الأمن فى شؤون جنوب إفريقيا ويصدر لوما للحكومة ويطالبها ببدء خطوات لإحلال المساواة بين الأعراق. وثارت أحداث شغب فى أماكن عديدة.وأعلنت الحكومة حالة الطوارئ وأعطت لنفسها سلطات واسعة فى اتخاذ الإجراءات ضد أى نوع من العصيان ، وباتت جنوب إفريقيا خاضعة للأحكام العسكرية.حتى ألقت الشرطة القبض على مانديلا طبقا لقانون الطوارئ. وتم ترحيله إلى سجن بريتوريا .ثم قررت المحكمة الإفراج عنه ووضعه تحت المراقبة،

العيش في الخفاء
بعد الإفراج عن مانديلا كان عليه أن يصبح أكثر حذرا ، فالقضية لم تنته وقوانين الطوارئ تسمح بالقبض عليه فى اى وقت ودون إبداء للأسباب لذا حكم عليه بالتخفى. يقول مانديلا: أن تعيش فى السر يتطلب نقلة نفسية. فعلى المرء أن يخطط لكل فعل مهما صغر. وأن يسأل فى كل شىء. ولكى يستطيع المرء أن يكون نفسه فلا بد وأن يتقمص الدور الذى يلعبه. ولا أظن أن هذا صعب للشخص الأسود فى جنوب إفريقيا. ففي ظل الأبارتايد عاش الأفارقة حياة ظلية ما بين القانونية والخروج عنها وما بين الظهور والاختباء. ولأن تكون أسود فى جنوب إفريقيا فإن ذلك كان يعنى ألا تثق فى أى شيء وهذا لا يختلف كثيرا عن الحياة مختبئا. أصبحت مخلوقا ليليا فكنت لا أخرج لعملى إلا فى الظلام. وفى الأساس كنت أعمل فى جوهانسبرج ولكننى كنت أسافر إذا استدعى الأمر. كنت أقيم فى شقق خالية وفى منازل الآخرين وفى أى مكان يمكن أن أكون فيه وحيدا وغير مرئي. وعندما كنت أعيش مختبئا كنت لا أسير طويلا معتدل القامة وكنت أتكلم بصوت خفيض بدون وضوح أو تميز وكنت لا أسأل عن أى شيء بل كنت أترك الآخرين يخبروننى عما أعمل. تركت شعرى وذقنى ينموان وكنت غالبا ما أتخفى كسائق أو طباخ أو بستاني ، كانت لدى سيارة وكنت أرتدى قبعة السائق مع الزى الأزرق وكان ذلك التخفى يناسبني لأنني كنت أستطيع التنقل متظاهرا بأننى أقود سيارة سيدي. وفي الأشهر الأولى وحينما كان يصدر أمر بالقبض على وتتبع آثاري الشرطة فقد كان وجودى كخارج على القانون يروق لأخيلة الصحفيين الذين لفقوا عشرات القصص والأساطير غير الحقيقية عني. فتظهر مقالات تدعي أنني أتواجد بأماكن معينة وتضع الشرطة المتاريس على طول الطرق لكن يعودون خاوين الوفاض. وأطلق على حينئذ لقب البيمبرنيل الأسود إشارة إلى شخصية روائية تدعى البيمبرنيل الأحمر نجحت فى أن تتحاشى الإمساك بها إبان الثورة الفرنسية.

تشكيل الجيش
أوكل المؤتمر إلى مانديلا الذى لم يكن أبدا جنديا ولم يطلق مسدسا مهمة تشكيل جيش. وكان اسم المنظمة رمح الأمة ويرمز إليها بـ MK ، فبدأ فى ممارسته دورا جديدا في حياته وعنه يقول :بدأت بالقراءة والتحدث إلى المختصين.واكتشفت أن هناك كتبا عديدة فى هذا الموضوع وبدأت أقرأ أدبيات الحرب المسلحة ،
خصوصا حرب العصابات. كنت أود أن أعرف الظروف الملائمة لمثل تلك الحرب وكيف يشكل الفرد ويدرب وكيفية تكوين قوة فدائية ، وتسليحها وأين تجد إمداداتها إلى آخر المشكلات الأساسية. فقرأت تقرير بلاروكا سكرتير عام الحزب الشيوعى فى كوبا عن سنواتهم كمنظمة غير قانونية فى كوبا وقرأت عن جيفارا وماوتسى تونج وفيدل كاسترو.
تنقل مانديلا بين أكثر من مكان وفى ضيعة ريفونيا الرعوية فى شمال جوهانسبرج كان متخفيا كخادم ، وماسح للبلاط وحمال للقمامة فى أحد البيوت. وذات يوم سمع عبر المذياع أن الرئيس لوثولى قد نال جائزة نوبل للسلام ، كان ذلك يمثل اعترافا من الغرب بأن معركة النضال معركة أخلاقية كما أنه كان تحديا مهينا للقوميين الذين صوروا لوثولى على أنه ثورى خطير وقائد مؤامرة شيوعية.
رغم صعوبة الظروف وكونه رهن الاعتقال فى هذا التوقيت المرير الذى تضيق فيه حكومة البيض كل السبل أمام السود ، كان على مانديلا أن يجوب العالم باحثا عن الدعم والمساندة والتدريب العسكرى فزار معظم الدول الإفريقية وقابل رؤسائها ، وتدرب عسكريا فى إثيوبيا كما توقف بمصر.

في عشق مصر
عشق نيلسون مانديلا مصر حتى النخاع ولم يخف فى سنوات حياته الصعبة ولعه بالبلد الإفريقى الشمالى ، وعنه قال :كانت مصر قد تملكت مخيلتى وأنا طالب كمهد للحضارة الإفريقية وكنز لجمال الفن والتصميم وكنت دائما أرغب فى زيارة الأهرام وأبو الهول وعبور نهر النيل أعظم أنهار إفريقيا. ومن أديس أبابا ذهبت إلى القاهرة وقضيت يومى الأول فى المتحف أفحص القطع الفنية وأدون الملاحظات وأجمع المعلومات عن نمط الرجال الذين أسسوا حضارة وادى النيل القديمة ولم يكن اهتمامى كهاو للآثار فإنه لمن المهم للأفارقة القوميين أن يتسلحوا بالبرهان الذى يدحضون به ادعاءات البيض بأن الأفارقة لم تكن لهم فى الماضى حضارة تضارع مدنية الغرب. واكتشفت فى صباح واحد أن المصريين كانوا يبدعون أعمالا فنية ومعمارية عظيمة بينما كان الغربيون فى الكهوف. وكانت مصر نموذجا مهما لنا فقد كان أمامنا على الطبيعة برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى أطلقه جمال عبدالناصر. فقد حدد الملكية الخاصة للأراضى الزراعية وأمم بعض قطاعات الاقتصاد وكانت له الريادة فى بدء برنامج سريع للتصنيع وجعل التعليم ديمقراطيا وبنى جيشا حديثا. وكانت كثير من تلك الإصلاحات هى بالتحديد ما يطمح المؤتمر إلى أن يحققه وكان الأهم بالنسبة لنا فى ذلك الوقت أن مصر كانت الدولة الإفريقية الوحيدة التى تمتلك جيشا وأسطولا بحريا وجويا يمكن أن يقارن بذلك الذى تمتلكه جنوب إفريقيا.

جزيرة الموت
ومن سجن القلعة فى جوهانسبرج إلى السجن فى بريتوريا وروايات مظلمة ، وبطولات دفاعية لمحام عظيم قدر له أن يناضل من أجل حرية بلده حتى حكم عليه بالسجن لخمس سنوات يتذكر مانديلا هذه الأيام ويقول: المعتقل لا يأخذ من الإنسان فقط حريته ولكنه أيضا يحاول أن يحرمه من هويته فإن الجميع يرتدون نفس الملابس ويأكلون نفس الطعام ويتبعون نفس برنامج الحياة اليومى وإن الدولة السلطوية فقط هى التى لا تسمح باستقلال الإنسان وتفرده. ثم تقرر نقل مانديلا ورفاقه الى سجن جزيرة روبن أو جزيرة الموت وفى السجن قضى مانديلا ورفاقه أشهر طويلة من المعاناة والألم ، من فرط العمل فى حمل الحجارة وتكسيرها فى الجو قارص البرودة ، وعن هذه التجربة يقول : إن التحدى الذى يقابل كل سجين وخاصة السجين السياسى هو المحافظة على ذاته فى السجن وأن يخرج من السجن دون أن يتضاءل وأن يحتفظ بل ويزيد من عقائده. وأول مهمة لتحقيق ذلك هو أن يتعلم المرء كيف يبقى ولكى يتحقق ذلك فلابد للمرء أن يعرف هدف عدوه. فإن السجن يهدف إلى هزيمة معنويات الإنسان وتقويض عزمه ولكى يتحقق ذلك تحاول السلطات استغلال كل ضعف وتحطيم كل دافع وأن تبطل ما يدل على التفرد وذلك لكى تقضى على تلك الومضة التى تضفى على كل آدمي هويته.
ولم يدر في خلدي قط أنني لن أخرج من السجن يوما من الأيام وكنت أعلم أنه سيجيء اليوم الذى أسير فيه رجلا حرا تحت أشعة الشمس والعشب تحت قدمي. فإننى أساسا إنسان متفائل وجزء من هذا التفاؤل أن يبقى الإنسان جزءا من رأسه فى اتجاه الشمس وأن يحرك قدميه إلى الأمام. وكانت هناك لحظات عديدة مظلمة اختبرت فيها ثقتى بالإنسان بقوة ولكننى لم أترك نفسى لليأس أبدا ، فقد كان ذلك يعنى الهزيمة والموت.
ورغم البرودة وقسوة الجو إلا أن ضوء الشمس فى الجزيرة كاد يفقد مانديلا بصره ، أما صلته بزوجته وينيي فقد تقطعت هي الأخرى حيث الزيارة كل ستة أشهر وتحت حراسة مشددة وبتصريح مرور خصوصا وأنها كانت ضمن المعارضات للتصاريح فى الخمسينات ، أما خطاباتها لزوجها المعتقل ، فكانت تمر على الرقابة ، التى كانت بدورها تحف وتقطع منها ما تراه خطرا على الدولة،
وعن هذه الظروف يقول مانديلا: إن أهم فرد فى حياة المعتقل ليس وزير العدل أو مدير السجون أو مأمور المعتقل لكنه السجان الذى يعمل فى القسم الذى به السجين - فإن شعرت بالبرد وكتبت إلى الوزير طالبا بطانية لن تتلقى ردا أما مدير السجون فيقول إن ذلك ضد التعليمات وسيرد مأمور المعتقل قائلا إنه إذا أعطاك فسيعطى الآخرين. ولكنك إذا التجأت إلى سجان أنت على علاقة طيبة به فسيذهب إلى المخزن ويحضرها لك. وبالنسبة لى كان الإضراب عن الطعام أمرا سلبيا يضر بصحة أجسادنا الضعيفة واستدعاء للموت. وكنت دائما أفضل أنواع المقاومة الأكثر إيجابية ونضالا كالإضراب عن العمل.

وفاة والدته
في عام 1968 ماتت والدة مانديلا وعن هذه التجربة قال:دعانى موتها إلى مساءلة نفسى عن صحة قرارى فى أن أضع أمور شعبى فى المقام الأول على حساب رفاهية أسرتي. ولم تستطع والدتى أن تفهم لمدة طويلة التزامى بالمعركة. ولم تطلب أسرتى أو ترد التورط فى المعركة لكن تورطى أنزل بهم العقاب. ولكنى توصلت إلى نفس الإجابة فإنه من الصعب أن يتجاهل الإنسان فى جنوب إفريقيا احتياجات شعبه حتى ولو كان ذلك على حساب أسرته فقد أخذت قرارى وأيدت هى اختيارى فى النهاية. ولكن ذلك لم يقلل شعوري بالأسى على عدم قدرتى أن أجعل حياتها أكثر راحة وأن أشيعها بعد وفاتها. وهو ما لم اتمكن منه حين توفى ابنى الأكبر من زوجتي إيفيلين . لتستمر رحلة المناضل الإفريقى فى مواجهة سنوات الظلم والظلام من أجل الحرية.
في الحلقة الثالثة والأخيرة من السيرة الذاتية للمناضل الإفريقي نيلسون مانديلا والتى قامت بترجمتها الدكتورة فاطمة نصر وأصدرتها دار سطور للنشر بعنوان نحو الحرية ، نقف أمام سنوات الظلم والظلام ، ومرحلة بداية الأمل فى جزيرة روبن والتفاوض مع العدو بمنطق الندية ، حيث أتى الأفارقة وعلي رأسهم مانديلا مائدة المفاوضات مسلحين بالعلم والمعلومات والخبرة والعقيدة. أتوها وهم يعلمون عن عدوهم أكثر مما يعلم هو عن نفسه وعنهم.
ويقول مانديلا في ذلك الصدد: لم نأت الاجتماعات متسولين لكن اتيناها مواطنين لنا الحق في مكان متساو علي المائدة. أصر مانديلا ورفاقه علي عدم قبول اشتراطات مسبقة ورفض المساومة ، كما رفض أن تتوقف النشاطات العسكرية كشرط لبدء المفاوضات ولم يملك الطرف الآخر أمام الوعي والإصرار سوي الخضوع والتسليم. ومن خلال كفاحه أثبت شعب جنوب إفريقيا حذقا غير عادي ومهارة في التنظيم والتنظير والممارسة مما أجبر عدوهم والعالم أجمع ليس فقط علي الاعتراف بهم كنظراء بل علي الإعجاب بهم والتسليم لهم.

بداية الأمل
*في عام 1969 وصل الى المعتقل سجان شاب ادعى رغبته فى تهريب مانديلا ، وتبين له فيما بعد أن السجان عضو في مخابرات جنوب إفريقيا وكانت الخطة أن ينجح في تهريب السجين من الجزيرة لكي يتم قتله بواسطة رجال الأمن خلال محاولته الهرب من المطار.
ولعل تجربة المعتقل التي فاق عدد سنواتها عدد سنوات الكفاح خارج المعتقل هي التي تشعر القارئ ليس فقط بضآلته أمام عمالقة الإرادة والفكر السليم ، لكنها تجدد في النفس الثقة بالإنسان والعقيدة. فخلال سنواتهم الطويلة في معتقل جزيرة روبن النائية القاسية الموحشة ، حيث اختير لها عتاة السجانين والضباط ، نقل مانديلا وزملاؤه المعركة هناك حيث لم ينجحوا فقط في الحفاظ علي آدميتهم وتأكيد حقوقهم ، بل إنهم حولوا المعتقل إلي جامعة لتربية النفوس والعقول والأجساد ، ولتثقيف وتعليم المسجونين السياسيين ، وتسييس وتعليم عتاة الإجرام من السجناء العاديين. فإنهم بالإضافة إلي استغلال وقتهم لمواصلة دراستهم أقاموا المساجلات السياسية والثقافية والاجتماعية والتراثية ووضعوا منهجا متكاملا للدراسة.
كما قاموا بتكوين لجان للاستشارات القانونية ، أما بالنسبة للعالم الخارجي فقد ارتقت الجزيرة وقاطنوها إلي منزلة الرمز والأسطورة مما أجبر العدو في النهاية علي أن يسعي إليهم وأن يدرك ألا بديل للتفاوض معهم وللخضوع لإرادة الحق. لم يتوقف اضطهاد السلطات لوينى مانديلا ، حيث ذاقت الأمرين وانتهى بها الامر رهن السجن والاعتقال وتشويه السمعة ، إلى أن أعلن مانديلا فى مؤتمر صحفى فى 13 أبريل 1991 انفصاله عنها حرصا عليها وعلى المؤتمر الوطني وعلى أسرتها.
يقول مانديلا: كان الانفصال لأسباب شخصية. وربما كنت قد عميت عن أشياء بعينها بسبب الألم الذي كنت أشعر به لعدم قدرتي على القيام بدور الزوج والأب. ولكني مقتنع بأن حياة زوجتي أثناء وجودي في السجن كانت أصعب من حياتي وكانت عودتي أكثر صعوبة بالنسبة لها. فقد تزوجت رجلا سرعان ما تركها وصار ذلك الرجل أسطورة وعند عودة الأسطورة إلي المنزل ظهر أنه مجرد رجل.

انتفاضة الوعي الأسود
تمضي السنون ولا يشعر مانديلا بعمره الذى سلبته معركته من اجل الحرية ، في سياق سرده للأحداث ، يذكر مانديلا أنه أثناء تواجده في المعتقل اقترح زملاؤه عليه كتابة مذكراته احتفاء ببلوغه الستين علي أن يتم تهريبها خارج السجن والبلاد لنشرها كي تعمل علي إزكاء شعلة المقاومة التي كانت قد خفتت آنذاك. ونجح مانديلا وزملاؤه فيما اعتزموه. غير أن تلك المذكرات لم يكتب لها أن ترى النور. يقول مانديلا إن تلك المذكرات هي العمود الفقري لكتابه الحالي.
فى يونيو 1976 ترددت تقارير غير واضحة عن انتفاضة كبيرة في البلاد. حيث تغلب شباب سويتو علي العسكر احتجاجا على الدراسة باللغة الأفريكانية مما ترتب عليه حالة من الفوضي الجماهيرية وجرح مئات من الأطفال بينما قتل رجلان أبيضان بالحجارة.
وكانت هذه أول مرة تعرف جنوب إفريقيا علي حركة الوعي الأسود كفلسفة نتجت عن فكرة وجوب تحرير السود أنفسهم من عقدة النقص التي كانت نتاج قرون من حكم البيض لكي يمكن للشعب أن يهب بثقة ويحرر نفسه من الطغيان.

حرروا مانديلا
وفي عام خففت السلطات قبضتها فسمحت بقراءة الصحف فى معتقل جزيرة روبن ، يتذكر مانديلا هذه الأيام فيقول: أمكنني في مارس 1980 قراءة فقرة صحفية في جريدة جوهانسبرج صانداي وكان العنوان أطلقوا سراح مانديلا ، أما في داخل الصحيفة فقد كان هناك التماس يمكن للناس التوقيع عليه للمطالبة بإطلاق سراحي وزملائي. وقد علمت أنه حينما ظهرت ملصقات Free Mendela في لندن اعتقد معظم الشباب هناك أن اسمي الأول هو Free. وكنت قبل ذلك بعام قد منحت جائزة جواهر لال نهرو لحقوق الإنسان في الهند وكان ذلك دليلا علي انبعاث المقاومة من جديد وبالطبع منعت أنا وويني من حضور الاحتفال.
وفي مارس 1982 تعرضت ويني لحادث سيارة وتقرر ترحيلى من جزيرة روبن إلى سجن بولسمور. فى الجنوب الشرقي من كيب تاون. تفاوض الأحرار فى السجن المحاط بأسوار أسمنتية عالية فهم مانديلا ، مقولة أوسكار وايلد عن الخيمة الزرقاء التي يسمي بها السجناء السماء.حيث عاش السجين فى عزلة ، كانت المقاومة تتصاعد فى عموم جنوب إفريقيا وكذلك مجهودات حكومة البيض القمعية ، وكانت حركة الأبارتايد ككل قد حازت اهتمام العالم وفي عام 1982 منح الأسقف توتو جائزة نوبل للسلام. وأصبحت السلطة تحت ضغط دولي متنام ، حيث أخذت الدول في جميع أنحاء الأرض في فرض الحظر الاقتصادي علي بريتوريا.
في منتصف الثمانينات بدأت السلطات في السجن ترفع قبضتها عن مانديلا ، لتهيئة الأجواء للتفاوض معه ، يقول مانديلا:سمح لى بالتجول خارج السجن و ذهبت مع نائب المأمور إلي المدينة مرارا وإلى أماكن سياحية خارج المدينة وإلى الشواطئ والجبال وأخذنا نرتاد المقاهي ، وكنت حينئذ أحاول أن أرى إذا ما كان بالإمكان لأحد أن يتعرف علي ، ولكن لم يحدث ذلك فلم يحدث أن نشرت لي صورة منذ عام ,1962 وكنت أعلم أن السلطات لها دوافع غير تسليتي. فقد أحسست أنهم أرادوا لي أن أتأقلم علي الحياة في جنوب إفريقيا وفي نفس الوقت أعتاد علي المتعة التي يوفرها لي ذلك القدر الضئيل من الحرية ، وأصبح مستعدا لتقديم التنازلات في سبيل الحصول علي حريتي كاملة. فى عام 1987 عينت الحكومة لجنة من كبار المسئولين لإجراء محادثات سرية مع نيلسون مانديلا ، لإرغامه على تقديم تنازلات أولها وقف العنف والكفاح المسلح ، لكنه رفض التنازل.
ومرض مانديلا من جديد بمياه على الرئة اكتشف الأطباء بعد سحبها وجود جرثومة سل.وفي بداية ديسمبر 1988 غادر المستشفى إلى سجن فيكتور فيرستر في الكيب القديمة فى الشمال الشرقي من كيب تاون.
وبعد أكثر من شهر بقليل ذهب بوتا إلى التليفزيون القومي ليعلن استقالته من منصب رئيس الجمهورية ليخلفه دي كلارك مؤكدا التزامه بالإصلاح والتغيير.

هدم الأبارتايد
وبعد تولي دي كلارك الرئاسة استمرت الاجتماعات السرية بين مانديلا واللجنة الحكومية للمفاوضات ، وتم إطلاق سراح المسجونين السياسيين في بولسمور وجزيرة روبن بدون شروط .
وبدأ دي كلارك يهدم قوالب بناء الأبارتايد ففتح شواطئ جنوب إفريقيا للمواطنين من جميع الألوان ووعد بإلغاء القانون الذي لا يسمح بالاختلاط في الحدائق والمسارح والمطاعم والحافلات والمكتبات والمراحيض وغيرها من المنشآت العامة ، وفي نوفمبر أعلن حل إدارة الأمن القومي السرية التي كان قد أنشأها بوثا لمجابهة قوي المعارضة للأبارتايد.
في 2 فبراير 1990 وقف دي كلارك ليلقي خطاب الافتتاح أمام البرلمان ، وفعل حينئذ ما لم يفعله أي رئيس لجنوب إفريقيا من قبل فقد بدأ في هدم نظام الأبارتايد ووضع أسس جنوب إفريقيا الديمقراطية. فقد أعلن بطريقة درامية رفع الحظر عن المؤتمر والـPAC والحزب الشيوعي الإفريقي وإحدى وثلاثين منظمة أخرى قانونية والإفراج عن السجناء السياسيين المحجوزين بسبب نشاطات غير أعمال العنف وتعليق عقوبة الإعدام ورفع جميع القيود المفروضة بسبب حالة الطوارئ ثم قال: إن الوقت قد حان للتفاوض. وبذلك ، وبخطوة شاملة واحدة طبع دي كلارك الوضع في جنوب إفريقيا وتغيرت الحياة في ليلة واحدة.

موعد مع الحرية
وفي يوم 11 فبراير عام 1990 تم الإفراج عن نيلسون مانديلا ، وهو يوم تاريخى طويل يزين صفحات كتب الكفاح من أجل الحرية ليس فقط فى جنوب إفريقيا بل فى العالم اجمع ، وعنه يقول مانديلا: استيقظت يوم إطلاق سراحي بعد نوم استمر سويعات قليلة. وكان يوم 11 فبراير يوما مشرقا من أيام نهاية الصيف في كيب تاون. وقمت بعمل تدريباتي الرياضية ، واغتسلت وأفطرت ثم تكلمت بالهاتف مع عدد من أعضاء المؤتمر والجبهة الديمقراطية في كيب تاون أدعوهم للحضور ليعدوا للإفراج عني ويراجعوا كلمتي.
وفي البداية لم أتبين ما كان يحدث أمامنا ولكن حين اقتربت ، رأيت اضطرابا هائلا وجموعا غفيرة. فقد كان هناك مئات المصورين وكاميرات تليفزيونية ورجال صحافة وعدة آلاف من المؤيدين. وتملكني الذهول والانزعاج فلم أكن أتوقع ذلك.وشعرت وكنت في الحادية والسبعين أن حياتي تبدأ من جديد. فقد انتهت الأيام العشرة آلاف لسجني. وسألت عن مخاوف البيض وكنت أعلم أن الناس يتوقعون أن أكون غاضبا من البيض ، ولكن سنوات سجني خففت مدي غضبي علي البيض رغم أن كراهيتي للنظام تنامت وكنت أود لجنوب إفريقيا أن تري أنني أحب حتي أعدائي رغم كراهيتي للنظام. وأردت أيضا أن يفهم الصحفيون أهمية البيض في أي نظام جديد ، فلم نكن نود تدمير البلاد قبل أن نحررها وكانت مغادرة البيض تعني خراب البلاد ، فقلت إن هناك نقاط تلاق بين البيض والسود ، وإن المؤتمر سيوجدها وإن البيض مواطنون جنوب أفارقة وأودهم أن يشعروا بالاطمئنان وأن يعرفوا أننا نقدر مساهمتهم في تقدم البلاد وأن جنوب إفريقيا اللاعرقية ستكون وطنا للجميع.
جنوب إفريقيا الديمقراطية تمضي جنوب إفريقيا نحو الحرية رغم أعمال العنف التى حركتها قوة ثالثة لم تعد خفية هي الإنكاثا.
وفي ديسمبر 1991 بدأت المفاوضات الرسمية بجوهانسبرج ، وعقد أول اجتماع بين حزب المؤتمر وأحزاب جنوب إفريقية أخرى والحكومة. من أجل جنوب إفريقيا ديمقراطية وسمي CODESA, وتتوالى قصة كفاح مانديلا من أجل الحرية وينال جائزة نوبل للسلام وعنها يقول : لم أكن أبدا أهتم بالجوائز الشخصية ، فإنه لا يليق بالمقاتل من أجل الحرية أن يأمل في كسب جوائز.ولكن حينما أخبرت أني نلت جائزة نوبل للسلام بالاشتراك مع دي كلارك تأثرت كثيرا لأن للجائزة معني خاصا في جنوب إفريقيا ، حيث كانت قد منحت للرئيس لوثولي عام 1960 كما منحت للأسقف توتو الذي حارب شرور العرقيه إبان الأيام الرهيبة للأبارتايد.
وفي مساء 2 مايو ألقى دي كلارك خطاب تنازل لبق.. فبعد أكثر من ثلاثة قرون تقبلت الأقلية البيضاء الهزيمة وسلمت السلطة للأغلبية السوداء. ومنذ اللحظات التي أعلنت فيها النتيجة برزت مهمة مانديلا وهي التوفيق وخلق الثقة لدى الأقليات خاصة البيض والملونين . وفيما يشبه الوثيقة التلخيصية لقصة كفاحه قال مانديلا فى سيرته ومسيرته نحو الحرية :لقد أوجدت سياسة الأبارتايد جرحا غائرا مستديما في شعبي وسيقضي كثير منا سنوات عديدة إن لم يكن أجيالا لنشفي منه. لكن عقود الظلم الوحشية كان لها أثرها الذي لم تقصده. وقد اخترنا المعركة وأعيننا مفتوحة ولم تكن لدينا أوهام أن الطريق سيكون سهلا ، وعن نفسي فلم أندم أبدا علي التزامي بالمعركة ، لكن أسرتي دفعت ثمنا رهيبا نتيجة لالتزامي.
وحينما خرجت من السجن كانت مهمتي هي تحرير الظالم والمظلوم وقد يقول البعض إنه قد تم إنجاز ذلك ولكني أعلم أن هذا غير صحيح ، فقد خطونا الخطوة الأولي فقط علي طريق أطول وأصعب - فلأن تكون حرا لا يعني فقط أن تلقي بقيدك لكن أيضا أن تعيش بطريقة تحترم وتعلي من حريات الآخرين. ولقد سرت ذلك الطريق الطويل نحو الحرية وحاولت ألا أتعثر ، ولكنني اتخذت خطوات خاطئة علي الطريق. وقد اكتشفت السر أنه بعد أن يكمل الإنسان تسلق تل يكتشف أن هناك تلالا أخرى كثيرة عليه تسلقها. لقد أخذت لحظة هنا للراحة لأسترق النظر إلى ذلك المشهد المجيد الذي يحيط بي وأنظر خلفي إلي المسافة التي قطعتها. ولكني لا أستطيع التوقف سوى لحظة ، لأن مع الحرية تأتي مسؤوليات. ولا أستطيع الإطالة. لأن مسيرتي لم تنته بعد. تحية لك مانديلا.. تحية لك جنوب إفريقيا... تحية لكل من ساهم في تلك المعركة الملحمية من أجل الإنسان.