الإيمان.. وأثره على الصحة النفسية
كان علم النفس دائما فخورا كعلم بتقاليده الدنيوية (غير الدينية) الملتزمة بالتنوير. وكان -على الدوام- من ضمن هذه التقاليد وجود شك واضح بكل أشكال التدين، كما يصف بيرنارد غروم.
ولقد نعى رومان رولاند على فرويد أنه لم يفهم المصدر الحقيقي للعواطف الدينية التي هي "شعور بالأبدية"، أو شعور كما لو كان عن شيء بلا حدود وغيره مقيد بقيود؛ في حين يقرر فرويد أنه لا يستطيع أن يعثر على أي أثر لأي شعور كهذا في شخصيته، ويقول: إن ما كان رولاند يقوم بوصفه "كان شعورًا بإزاء الرابطة التي لا تقبل الانفصام بأن يكون واحدا مع العالم الخارجي ككل".
والواقع أن فرويد قد استبعد "الشعور العظيم" باعتباره وهمًا قائمًا على النكوص إلى حالة وجدانية طفولية. ففكرة أن هناك نوعًا من الاتحاد أو "الكليانية"، وأنها تمثل خبرة حية، أو هي مثَل أعلى ينشد الناس إحرازه تبدو في نظر فرويد انحرافًا عن الوقائع المكينة في القوام الجسمي للإنسان! كان فرويد ميالا دائما إلى استبعاد الخبرات التي لا يمكن ردها أو ربطها بالجسم.
غير أن اضطرار علماء النفس إلى الإقرار بكون الدين عاملا مساعدًا للصحة النفسية والجسدية بعد أن تجاهلوه وقللوا من قيمته مثّل نقطة تحول مهمة في علم النفس. بل إن علم النفس المعاصر يعتبر الدين عاملا مهمًّا في إعادة الطمأنينة إلى النفس؛ فقد أكد كارل يونج أهمية الدين وضرورة إعادة فرص الإيمان والرجاء لدى المريض، وأكد ستيكل أهمية تدعيم الذات الأخلاقية على هذا الأساس.
العلاقة بين الإيمان والصحة النفسية
كما أكد هايكو إيرنست على أنه تبدَّى من خلال عدد متزايد من الدراسات وجود تأثير وثيق وإيجابي متبادل بين الإيمان/التدين والحالة الصحية؛ فمن يؤمن بإله خيِّر أو بأي قوة سامية أو حتى "بمجرد" معنى أعمق للحياة فإنه يتغلب على أزمات الحياة والمشقة (الإرهاق) والصراعات النفسية الاجتماعية بسهولة كبرى؛ فالإيمان يسهل وجود "إستراتيجيات تأقلم" فاعلة، وبالتالي فهو أقل تعرضا للأمراض النفسية والجسدية. فالإيمان يؤثر وقائيا، ويبدي -إذا ما وقع المرض- ثقة كبرى بسيرورة الشفاء وينمي هذه السيرورة. إنه يسهل حصول الشفاء".
وقد قوم النفساني العيادي ديفيد لارسون بصورة منهجية كل الدراسات التي نشرت في أكبر مجلتين متخصصتين في الطب النفسي بين عامي 1978 و1989 فيما يتعلق بالعلاقات بين الإيمان والصحة النفسية، وتوصل إلى نتيجة مفادها أن التدين يؤثر في 84% من الحالات بشكل إيجابي، وفي 13% بشكل حيادي، وفي 3% فقط ظهر أن التدين مضر صحيا.
إنه لا يمكن مغالبة الفطرة التي يعتبر الإيمان جوهرها. ووفق المنظور الإسلامي فإن حياة المخلوقات مرتهنة إلى غاية؛ هي العبادة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وهي بمعناها الواسع تعني تلك الصلة الدائمة بين الإنسان وربه واتصال روحه بالمصدر العلوي. ومن ثم لم يكن غريبًا أن نجد مثل "جيفري لانج" (عالم رياضيات أمريكي أسلم) يعبر عن تلك الفطرة (الإيمان) بالقول: "يبدو أننا جميعا بحاجة لأن نؤمن بأحد ما أو شيء ما. فالحياة دون معنى أو اتجاه بائسة حقًّا. ويبدو أنه يتوجب أن نحيا من أجل شيء ما عزيز علينا ونموت من أجله، سواء كان هذا الهدف أو الشيء مبدأ سياسيًّا أو خطة حياتية أو أمة أو حلمًا أو فكرة أو مالا أو سلطة أو جاها أو أسرة أو شهرة أو ثأرا.
أعتقد أن التقديس جبلة في الإنسان، وأن قدرنا هو أن نكون عبيدا سواء شئنا أم أبينا، وغالبا ما تكون رغباتنا بعيدة عن المنال أو التحقيق. ولكن حتى إن كان من الممكن بلوغها فإنها في الواقع لا تصل إلى مستوى توقعاتنا، وبالتالي تصبح في النهاية كسراب، أو ليس أكثر من مجرد أشياء تختلقها تخيلاتنا الزائفة".
وإذا كان "الإيمان" فطريًّا وضروريًّا فلا بد من الإقرار باختلاف التأثير بحسب موضوع الإيمان ونوع المعتقدات التي نعتقد بها؛ فلا يمكن أن يؤدي الإيمان بالحجر إلى نتائج الإيمان بالله نفسها! كما أن الإيمان هو الذي يمنح المرء القدرة على قبول ما لا يستطيع العقل فهمه؛ حين يتصل بعالم علوي بواسطة المعرفة غير البشرية (الوحي)، وهذه المعرفة اليقينية هي التي تفصل الإيمان عن الخرافة، فمن دون معرفة يتحول الإيمان إلى خرافة، وقد يأخذ طابع التشدد والرهبة؛ فتظهر آثاره على شخصية الإنسان وتعامله مع نفسه ومع غيره بشكل مدمر أحيانًا، ولذلك فما نبحثه هنا هو الإيمان السوي الفطري الذي يشبع حاجة الروح إلى مصدر أعلى تلجأ إليه في الشدائد، وتحتمي به النفس من القلق وعوارض الاضطرابات النفسية الأخرى؛ وقد صور القرآن الكريم حالة الصراع والقلق التي تنتاب الإنسان الذي يفقد إيمانه بالله سبحانه وتعالى بالحالة التي يشعر بها الإنسان الذي يخر من السماء فَتَخْطَفُه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.
إن الإيمان يمنح المرء السلام النفسي الداخلي والطمأنينة الروحية، وهذا الأمر يمكن إدراكه في الديانات السماوية المرتبطة بالمعرفة الإلهية (الوحي) على أساس يقيني، دون الوقوع في شرك التأويلات البشرية المتطرفة التي قد تتحول إلى النقيض؛ فتنتج العداء للآخر المختلف معها في المعتقد.
لكن دين الإسلام يقوم على توازن يندر مثله في الديانات الأخرى؛ فكما هو توازن بين الروح والجسد، كذلك هو توازن بين الدين والدنيا (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا). وهو تصحيح لانحراف الرهبانية التي أحدثت خللا في التوازن النفسي والاجتماعي. ففقدان هذا التوازن سواء بإنكار الجسد وحاجاته الأساسية أم بإغفال المطالب الروحية للإنسان يجعل حياة الإنسان خالية من المعاني الجميلة والسامية التي تعطي للحياة قيمتها وزخمها وألقها، وتفقده شعوره برسالته الكبرى في الحياة كخليفة لله تعالى في الأرض؛ فتضيع منه أهدافه الحقيقية في الحياة؛ لذلك فالإسلام هو الثوب السابغ للفطرة الإنسانية إذ يلبي حاجات الجسد دون أن يلغي أشواق الروح