ضعيف النفس

يكون من ضعف الإيمان وقلة اليقين وعدم رسوخ عقيدة التوكل وتمكنها بالنفس ومن شدة الضغط و الاستبداد ومخالطة الجبناء وشدة الفقر وتأثير البيئة وعدوى الوراثة كما هي في كثير من الصفات، و يتكون منه كثير من مفاسد الأخلاق كالملق والنفاق والمداهـنة وقبول الضيم وغض الطرف عن القذف وتـحمل الأذى والكذب والشح و اضطراب النفس وعدم الثبات و الانزعاج من كلـمة الحق المرة إلخ.

و هو مرض خطير يميت النفس ويخدر الأعصاب ويجفف الدماغ و يعقد اللسان عن الإصداع بالحق و يقيد الجوارح على الانطلاق في سبيل الإصلاح ويوقف حركة العقل عن النمو والسريان في المعقولات ويقتل الإحساس والشعور والعزة والنخوة والهمة والشهامة وينمي في النفس ملكة الخضوع والإذعان و الاستسلام لكل شيء وإن كان ضعيفا والإكبار لكل شيء وإن كان تافها والهروب من كل شيء وإن كان مأمون الخطر.

ولأجل هذا تعمد الحكومات المستبدة لتذليل الشعوب المغلوبة على أمرها إلى تربية ذلك الخلق فيها بعامل الترغيب والترهيب وتعميمه بين أفرادها بذلك حتى يكون خلقا عاما فيها فتتمكن من ناصيتها وتقتل بها سائر مواهبها وغرائزها فتصير مسخرة ذلولا كالحيوانات الداجنة لا تعرف للعزة معنى ولا للنخوة قيمة. حتى أنها تتوجس خيفة وتتوقع نزول الويل والخطر إذا أحست بقيام أحد من بينها رافعا صوته: أمتي بلادي ،لغتي ديني ،عزتي مجدي شرفي. فتخاف لإقدامه وتشح لكرمه وتتذمر لتضحيته. وهو يخوض الغمرات والأهوال باسم الثغر بكل ما ينتابه من المحن والنكبات، غير مكترث بما يلحقه من أنواع الإذاية والإهانات في سبيل المجد والشرف بل يستعذب فيه كل عذاب لما يطمح إليه من حسن المآب.

لقد أودى هذا الخلق الفاسد بكثير من الأفراد والجماعات، فأفسد عنهم أخلاقهم وآدابهم ودينهم، وأضاع مصالحهم وهضم حقوقهم وسلبهم حريتهم وصيرهم عبيدا أذلاء وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا أعزاء.

فمن الجبن ماتت وظيفة الإصداع بالحق وهجر واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقمع المفسد على فساده.

ومن الجبن أهين وهتكت حرماته.

ومن الجبن أهين الأخيار واعتز الأشرار.

ومن الجبن صغر الحق وعظم الباطل.

ومن الجبن تشجع المبطل في باطله وتثبط المحق في حقه.

ومن الجبن كثرت أنصار الفساد وقلت أنصار الصلاح.

ومـن الجبـن اختلقوا تلك الكلمات المميتة: (لا تعاند من إذا قـال فعـل) (واش عندي وسلامت الرأس) (المشوم براسوا) (راجل بيتو خلاها) (من خاف اسلم) إلخ .

إن الجبان خسيس المنزلة حقير الشأن لا قيمة ولا خلاق له حتى عند مرهقه ومستعبده و لا يراه إلا ككلبه الذي يرهقه فيبصبص له بذنبـه ويجيعه فيتبعه ويحافظ على وده.

ولو خلا الجو للجبناء لما قام ملك، ولا شيد سلطان، ولا عقد لواء، ولا نظم جيش، ولا نشر الإسلام، ولا أسست دعائم الإصلاح، ولا دفع فساد، ولا رد عدو، ولا أغيث ملهوف، ولا و لا..

وإنما عمرت الدنيا بذلك بالجرأة والشجاعة والإقدام والصبر والثبات والعزم والحزم وقوة الإرادة والصدق والإخلاص إلخ

إن الجبان مريض مرضا معديا يجب أن ينتبذ به مكانا قصيا لئلا تسري عدواه إلى غيره فيفسد جسم الأمة ويشل أعضاءها.

يجب أن لا يشاور في الأمور الخطيرة لأنه خواف ولا يشير طبعا إلا بما يقتضي الخوف من التوقف والتأخر ولا في أمور البذل والعطاء لأنه شحيح غالبا لا يشير إلا بما يقتضيه الشح من الإمساك والتقتير. وقد يرى أن توقفه رصانة وإمساكه اقتصاد وأن إقدام الشجاع تهور وبذل الكريم تبذير.

يجب ألا يقدم في شيء يستوجب الشجاعة والإقدام لأنه لا يؤوب إلا بالخيبة والإخفاق. يجب أن لا يصادق لأن فائدة الصديق تظهر في المضيق والجبان إذا جد الجد انخذل عن صاحبه وتوارى عن الأعين.

يجب أن لا يعتمد عليه في شيء ولا يسر بإقباله ولا يؤسف لإدباره لأن إقباله وإدباره لا على حسب الحق والباطل ولكـن على حسب القوة و الغلبة، فهو اليوم مع زيد لأنه القوي الغالب، وغدا مع عمرو لـرجحان كفته قوة وغلبة عن زيد، ولا يبعد أن يكون بعد مع خالد وهكذا للسبب نـفسه. وربما يتظاهر بالشجاعة تسترا للمذمة و الجبن، ولكن هذا إنما يكون عند الـرخاء والناس في الرخاء سواء، وعند التقاء النصل بالنصل والسيف بالسيف والكمي بالكمي عند ذلك فقط يظهر الأرنب من الأسد و مادر من حاتم.

قد يتوهم الجبان أن في إقدامه هلاكه وحتفه، وفي تأخره نجاته وسلامته ولكن بالعكس هلاكه في تأخـره وجبنه ونجاته في إقدامه وشجاعته لـما قيــل ( من خوف الموت الناس في موت ) والاستعداد للحرب يمنع من الحــرب (موت تحيا) ولئن وقع ما توهم فالموت في سبيل العز حياة والحياة مع الذل موت.

ماء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أطيب منزل

يروي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال لما حضرته الوفاة ما خلاصته "مارست الحروب وحضرت المعارك ولم يبق بجسمي موضع لم يصبه سيف أو رمح أو نبل وأنا أتمنى أن أموت موتة الأبطال في ميـدان الجهاد فها أنا ذا أموت في فراشي موتة العير فلا نامت عين الجبان".

ولكن الجبان يرجح عن هذه الحكاية الذهبية ما قيل عن بعض الجبناء لما سأله الخليفة ألا يؤلمه غضب خليفته عليه لفراره من أمام العدو: لأن يقال غضب عليه الخليفة خير من أن يقال إنه مات في ساحة القتال.

وإنما يعالج هذا الخلق الذميم بتقوية الإيمان بالله والتوكل عليه، وأن القدر خيره وشره من الله، وأن ما يصيبه لن يخطئه، وما يخطئه لن يصيبه، وسرد تراجم الأبطال والعبقريين و وقائعهم التاريخية، وبمخالطة أرباب النفوس الكبيرة و الإرادات الفولاذية، وبحمل النفس على الأهوال والمخاطر شيئا فشيئا، وبمجانبة الجبناء وضعفاء النفوس، وبالسعي الحثيث في رفع يد الظلم و الاستبداد وتطبيق قانون العدل والمساواة بين الناس. وبهذه وأمثالها تستأصل جرثومة هذا المرض الفاسد ويعوض بالشجاعة والإقدام التي هي منبع العز والحياة.