لقد منَّ الله على أمتنا "أمة الإسلام" بأن جعلها خير أمة أخرجت للناس، حيث قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (آل عمران).
فهي الأمة التي عجز التاريخ عن تسطير أمجادها، وهي الأمة التي رعاها ربُّها وتكفل بها خالقها، فسادت الدنيا، وصنعت البطولات، وهندست الحياة، وقادت البشرية، وحفرت بصماتها المباركة في مشارق الأرض ومغاربها، وعبرت القارات والقرون، ودانت لها رقاب الجبابرة، وارتجف لعظمتها القياصرة والأكاسرة، وصدق فيها قول القائل:
ملكنا هذه الدنيا قرونا..وسطرنا صحائف من ضياء
ولكن الحال لم يستمر كما كان في زمن أسلافنا، بل تبدَّل، فأصبحنا تبعاً لغيرنا، وأصبح ولاء كثير من أبناء جلدتنا لأعدائنا،
وأصبح دمنا أرخص الدماء، وأصبحنا الأيتام على مأدبة اللئام، بل أصبحنا ألعوبة بيد الشرق والغرب، إذ سفكت دماؤنا، ودُنِّست مقدساتنا، وهُتكت أعراضنا، ونُهبت ثرواتنا، ويُتِّم أبناؤنا، وثُكلت نساؤنا، واحتلت ديارنا، فلم يعد لنا أثر أو تأثير، ولا واقع مشرف كريم.
انظر إلى واقع الدول العربية والإسلامية، وتأمل التقارير والإحصاءات التي تنشرها المنظمات والهيئات العربية والإسلامية والدولية لتتعرف على عمق المأساة التي تعانيها أمتنا.
هل تعلم أن نصف سكان العالم العربي ممن تجاوزت أعمارهم (15) عاماً أميون "حسب تقرير المجلس العربي للطفولة والتنمية لعام 2002م"،
وأن هناك 70 مليون مواطن عربي أمي، ثلثاهم من الأطفال والنساء - "حسب تقرير منظمة اليونيسيف"
؟!.
هل تعلم أن ما تنفقه دولة الكيان الصهيوني "إسرائيل" على البحوث التطبيقية يعادل (20) ضعف ما تنفقه الدول العربية مجتمعة على البحوث التطبيقية؟!!.
هل تعلم أن حصة الدول العربية مجتمعة من المقالات المنشورة في الصحف العالمية لا تتعدى (1%) في حين أن حصة ألمانيا وحدها من هذه المقالات تزيد على (7%)؟!.
هل تعلم أن عدد براءات الاختراع التي سُجلت في سنة (2001) في الدول العربية مجتمعة لا يكاد يتجاوز (70) براءة اختراع،
في حين أن عدد براءات الاختراع في نفس السنة للكيان الصهيوني (1031) براءة اختراع، وفي اليابان (35) ألفاً، وفي أمريكا (99) ألفاً، وفي ألمانيا (12) ألف براءة اختراع، وفي تايوان (6500).؟!!
هل تعلم أن إجمالي الناتج المحلي لإسبانيا فقط أكبر من إجمالي الناتج القومي لجميع الدول العربية "حسب تقارير 2001م"؟!.
هل تعلم أن مبيعات شركة "جنرال موتورز" أكبر من الناتج المحلي لإندونيسيا "لسنة 2001م" والتي يبلغ تعداد سكانها "220" مليوناً؟!!.
هل تعلم أن مبيعات شركة "سوني" أكبر من الناتج المحلي لمصر "لسنة 2001م" والتي يبلغ تعداد سكانها (70) مليوناً؟!.
هل تعلم أن مبيعات شركة (IBM) (لسنة 2001م) تكاد تقارب الناتج المحلي لماليزيا؟!.
هل تعلم أن مؤشر الشفافية "الذي كلما ارتفع لما دلَّ على أن الفساد قليل"، لأحسن دولة إسلامية "ماليزيا" لا يتجاوز (5) من (10)، في حين أن كثيراً من الدول الإسلامية لا يتجاوز هذا المؤشر فيها (2) من (10)، حسب تقرير المنظمة الدولية للشفافية، التي مقرها ألمانيا، وهذا يدل على أن كثيراً من الدول العربية والإسلامية تسبح في محيطات مظلمة من الفساد، فيا للعجب!!.
هل تعلم أن إجمالي الناتج العالمي سيزداد (300) مليار دولار تقريباً عندما يتم تطبيق اتفاقية التجارة العالمية، وبعد إزالة جميع الحواجز التي تقف أمام هذه الاتفاقية، وستكون هذه الزيادة موزعة "كما ذكرت إحدى الدراسات" كالتالي:
نصيب الصين (61) مليار دولار، ونصيب الولايات المتحدة الأمريكية (36) مليار دولار، في حين أن نصيب جميع الدول النامية "وهي 120 دولة" والتي تنتمي إليها الدول العربية والإسلامية هو (17) مليار دولار فقط!.
إنني بذكر هذه المعلومات أريد أن أشعل الحماس في نفوس أبناء هذه الأمة المباركة، هذه الأمة التي ستبقى بإذن الله نابضة بالحياة، محدِّقة ببصرها إلى السماء، منتظرة اللحظة التي تحطم فيها أغلالها، وهي آتية، بإذن الله، لا محالة.
إنني أذكر هذه المعلومات لأستنهض هذه الأمة من جديد، وكم تعجبت من قصة عجوز من بني إسرائيل، أبت إلا أن تكون مع نبي الله موسى عليه السلام في الجنة، في موقف منهض للهمة، مشعل للحماس، فما أروع هذه النماذج، وما أحوج الأمة إلى أمثالها.
فعن أبي موسى الأشعري قال: أتى النبيُّ { أعرابياً، فأكرمه
فقال له: "ائتنا"، فأتاه، فقال رسول الله {: "سل حاجتك"،
فقال: ناقة نركبها، وأعنزاً يحلبها أهلي.
فقال رسول الله {: "عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل"؟
قالوا: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟
قال: "إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر، ضلُّوا الطريق، فقال: ما هذا؟
فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت، أخذ علينا موثقاً من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا.
قال: فمن يعلم موضع قبره؟
قالوا: عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها، فأتته،
فقال: دليني على قبر يوسف،
قالت: حتى تعطيني حكمي،
قال: ما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة.
فكره موسى أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها، فانطلقت بهم إلى موضع مستنقع ماء،
فقالت: أنضبوا هذا الماء، فأنضبوا، قالت: احتفروا واستخرجوا عظام يوسف، فلما أقلوها إلى الأرض، إذا الطريق مثل ضوء النهار". (حديث حسن رواه أبويعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم).
شتان بين همة وطموح وسمو هذه المرأة رغم كبر سنها، وبين همة وطموح ذلك الأعرابي الذي شهد سباقاً للخيول، فسبق فرس، فطفق يكبر ويثب من الفرح، فقال له من بجانبه، أهذا فرسك؟ قال الأعرابي: لا، ولكن اللجام لي!!.
إن هذه المستويات المتواضعة لا يمكن أن تبني أمة، أو تصنع حضارة، أو تحدث تأثيراً، وصدق صالح بن عبدالقدوس حينما قال:
إذا أنت لا تُرجى لدفع مُلمَّة
ولا أنت ذو جاه يُعاش بجاهه
فعيشك في الدنيا وموتك واحد
لقد تأملت كثيراً في واقع هذه الأمة، وآلمني ما آل إليه أمرها، كما تأملت في كتاب الله وفي سنة رسوله وفي تاريخ المسلمين فأيقنت أن ثمة خللاً أودى بهذه الأمة،
وأن أمتنا أمة قوية بقوة الله ثم بقوة المنهج الرباني وما فيه من حق وصلاح،
وأن نهوضها من جديد أمر ممكن بإذن الله تعالى،
ولكن السؤال: كيف؟
هذا ما سوف نتعرف عليه في المقالات القادمة.
مع محبتي ..