كم سمعنا عن أُناس كانوا لا يملكون شيئاً ثم أصبحوا بعد سنوات من كبار الأغنياء أو من سادة الناس، وكم رأينا من وزراء ومسؤولين كبار كانوا قبل سنوات خدماً في بيت، أو موظفين صغاراً في مؤسسة لا يكاد راتب أحدهم يفي بحاجاته الضرورية ثم أصبحوا من علْية القوم والمؤثرين فيهم.

إن مثل هذه النماذج كثيرة ومتكررة عبر التاريخ، وهي اليوم واقع يعيشه الناس ويعرفون أصحابه.

إن الملك بيد الله تعالى يهبه من يشاء بغير حساب، وإن المال لله تعالى، يعطيه من يشاء، وهو ليس حكراً على نفر من الناس، وإنما الأيام دوَلٌ بين الناس، من سرَّه زمن ساءته أزمان.

يقول الله تعالى: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على" كل شيء قدير (26) (آل عمران).

يذكر لنا التاريخ أن محمد المهلبي كان فقيراً معدماً لا يملك قوت يومه، حتى إنه سافر ذات مرة فأخذ يتمنى الموت من شدة فقره ويقول:
ألا موت يباع فاشتريه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي
إذا أبصرت قبراً من بعيد
ألا رحم المهيمن نفس حرٍّ


فقام صاحب له وأعطاه درهماً. ثم تمر الأيام ويعتني المهلبي بنفسه ويجتهد ويترقَّى في المناصب حتى أصبح وزيراً، وضاق الحال بصاحبه "الذي أعطاه درهماً" فأرسل رقعة إلى محمد المهلبي كتب فيها:

ألا قل للوزير فدته نفسي
أتذكر إذ تقول لضنك عيش


فلما قرأ محمد المهلبي الرقعة أمر له بسبعمائة درهم، ثم كتب أسفل الرقعة قوله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم 261 (البقرة)، ثم قلده عملاً يسترزق منه.

تُرى هل ركن المهلبي إلى فقره ورضخ إلى حاله البائس؟ أم أن نفسه التائقة إلى السمو دفعته كي يكون شيئاً مؤثراً له قيمة ووزن في هذه الحياة.

إن فقره وضيق حاله لم يمنعاه من المساهمة في هندسة الحياة وإحداث التأثير الذي أراده هو لنفسه.

وبالمثل، أن يتحول تلميذ عبقري تحت ضغط الظروف المعيشية الصعبة إلى "عامل بناء" ليعول أسرة من (13) فرداً هي حكاية عادية، لكن غير العادي أن يظل شيئاً ما يهتف داخله ويقول له: لم تخلق لهذا، ويظل الصوت يعلو رويداً رويداً إلى أن يُصنف الفلسطيني "ماجد إغبارية" عام 1997م، الباحث الأول عالمياً في مجال الأنظمة المعلوماتية وحتى آخر يوم في حياته 3 أغسطس 2002م.

فقد ولد البروفيسور "ماجد حردان إغبارية" في 16 فبراير عام 1958م في قرية معاوية، بمدينة أم الفحم فلسطين 48، لوالدين فقيرين.

فقد ماجد والدته عام 1967م، وعلى الرغم من أنه لم يكن الأكبر فإنه تحمل المسؤولية كاملة، حيث خرج للعمل ولم يتجاوز عمره 14 عاماً، ليساهم في الإنفاق على أشقائه الخمسة وشقيقاته السبع.

عمل في البناء كأي فتى فلسطيني فقير، بل إنه اضطر تحت وطأة الحاجة وبعد أن أنهى المرحلة الثانوية أن يتوقف عن الدراسة لعام كي يعمل.

بدأ ماجد عام 1978م مشواره الأكاديمي في الجامعة العبرية بالقدس ليحصل على البكالوريوس بامتياز في تخصص "الإحصاء والاقتصاد"، وبعدها بعام عُين معيداً في الجامعة، ثم أكمل دراسة الماجستير بتخصص "إدارة الأعمال" ثم الدكتوراه تخصص "الأنظمة المعلوماتية".

بعد ذلك بدأ اسم البروفيسور ماجد يلمع وأثره ينتشر عالمياً، فقد أدار وترأس 17 مؤتمراً دولياً حول الأنظمة المعوماتية، ومنذ عام 1991م حصل على عدد من المراكز الأولى "دولياً" في الحقل البحثي تم رصدها في دراسات عالمية، فمن كان يتوقع لعامل البناء الفقير هذا أن يتحول إلى عالم فذ ومؤثر متمكن في الأنظمة المعلوماتية؟

إن المطالع لمسيرة الرجل العلمية سيفاجأ بكم هائل من الإشادات، فيكفي أنه في أكثر من أربع دراسات قامت بها أربع دوريات بحثية متخصصة، احتل المركز الأول كأكثر الباحثين في مجال الأنظمة المعلوماتية نشراً للأبحاث في الفترة من (1981م 1991م) ثم أعيد تصنيفه أيضاً ليكون الباحث الأكثر إنتاجاً في مجاله للفترة من (1991م 1997م)، وكان دائماً الفارق واسعاً بينه وبين من يليه من الباحثين.

ففي الدراسة الأخيرة التي قامت بها الدورية الخاصة ب"جمعية نظم المعلومات" AIS بعنوان "تقييم للإنتاجية البحثية في الحقل الأكاديمي لتكنولوجيا المعلومات"، وصل عدد أبحاثه المنشورة إلى (23) بحثاً بمقدار تقييمي (10.58)، في حين وصل عدد أبحاث من تلاه مباشرة إلى (13) بحثاً منشوراً بمقدار تقييمي (6.5).

ولقد كانت وصيته الأخيرة لأهله وأقاربه قبل سفره الأخير إلى الولايات المتحدة قوله: "صلوا... صلوا... صلوا..." وكأنها صدى وصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت.

وعندما حصل ماجد على الدكتوراه كان يقوم ببناء مدرسة أهلية ومسجد للجالية الإسلامية في كليرمونت بالولايات المتحدة، ورفض تماماً أية محاولات لتخليه عن الصيام، رغم أن الأطباء منعوه عنه بسبب إصابته بمرض السرطان.

وانظر إلى مثل ثالث وهو رجل أعمال سوداني ثري اشتهر ب"ولد الجبل" ذاع صيته داخل السودان، لما سئل عن بداياته قال: كنت شاباً صغيراً أحمل جالوناً أبيع فيه الماء في الأسواق طيلة اليوم، ثم اشتريت حماراً أبيع عليه الماء، ثم اشتريت سيارة أنقل بها البضائع بين الأسواق، ثم وسع الله عليَّ حتى أصبحت واحداً من أكبر رجال الأعمال في بلدي.

وانظر كذلك إلى قصة امرأة أسكتلندية تزوجت ثم طُلقت بعد أن أنجبت طفلة، وكان مستواها المادي متواضعاً، فقامت بتأليف مجموعة قصصية باسم "مغامرات هاري بوتر" فأدى ذلك إلى تحولها إلى امرأة ثرية تجري الأموال من بين يديها ومن خلفها.

ويجدر بنا التنبيه هنا إلى أن المال "رغم أهميته" ليس هو كل شيء، ولا هو العنصر الحاسم في صناعة التأثير وهندسة الحياة، وإنما هو أحد العناصر المهمة، ويمكن "في كثير من الأحيان" الاستعاضة عنه بعناصر أخرى: كالعلم، ومهارة الإقناع، والذكاء، والحنكة السياسية، وقوة العلاقات، وغيرها من العناصر.