القدرة على تسويق الأفكار مهارة مهمة يحتاجها صناع التأثير ويتقنها كل رقم صعب في دنيا الناس، ولسنا هنا بصدد الكلام عن نظريات بهذا الشأن، ولكنني سأورد قصة واحدة لرسولنا محمد صلي الله عليه وسلم استطاع فيها أن يحدث تغييراً يعتبر أصعب أنواع التغيير، وهو تغيير العقيدة والدين.
تأمل معي من خلال هذه القصة قدرات النبي صلي الله عليه وسلم في تبليغ دعوة ربه وتسويق ما أمره الله به مع عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه ومن قبله أخته الصحابية الجليلة سفانة رضي الله عنها، التي أسلمت وحسن إسلامها بعد أن وقعت أسيرة في جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما غزا طيئاً.
القصة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (8-294) والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (7-94) وذكر بعضها الإمام الترمذي في كتاب تفسير القرآن:
عندما قدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه طيئاً، وقبل أن يأمر بقتال أهل طيئ قال لهم: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم.
فقالت النساء لسفانة: إنهم يرثون النساء كما تورث الإبل.
فقالت: سفانة: كيف؟
قال النساء: لأنها لا ترث شيئاً من أموال الأهل.
قالت سفانة: هل يمضون بي سبياً؟ لو فعلوا ذلك لقتلت نفسي، فقالت لها إحدى النسوة: من يدخل الإسلام لا يؤخذ سبياً، ألم تسمعي ابن أبي طالب يقول: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم؟
وارتفع صوت علي بن أبي طالب: الأسر، الأسر، لا تقتلوا إلا من امتنع، وأصابت خيل رسول الله { ابنة حاتم في سبايا علي، فقُدم بها على رسول الله صلي الله عليه وسلم فجُعلت عند باب المسجد، فمر بها النبي صلي الله عليه وسلم فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد فامنن عليَّ منَّ الله عليك.
فتساءل رسول الله صلي الله عليه وسلم : "ومن وافدك؟"، قالت سفانة: عدي بن حاتم، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : "الفار من الله ورسوله"؟، ومضى النبي صلي الله عليه وسلم ، فلما كان الغد مر بها، فقالت له مثل ذلك، فرد عليها بمثل جواب الأمس، فلما كان اليوم الثالث، مرّ بها رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وقد يئست منه، فأومأ إليها رجل من خلفه: قومي فكلميه.
قامت سفانة فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي سيد قومه، كان يفك العاني، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يطلب إليه طالب قط حاجة فرده، أنا ابنة حاتم الطائي، فامنن عليَّ منَّ الله عليك.
فقال لها رسول الله صلي الله عليه وسلم : "قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني"، ثم قال لأصحابه: "خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق".
فسألت سفانة عن الرجل الذي كان يسير خلفه وأشار إليها أن كلميه فقيل لها: علي بن أبي طالب.
وأقامت سفانة حتى قدم رهط من قومها فيهم ثقة وبلاغ فقالت: يا رسول الله، قدم رهط من قومي فيهم ثقة وبلاغ، فمنَّ عليها صلي الله عليه وسلم بالحرية وأعطاها عطاء جزيلاً وكساها وأعطاها نفقة وحملها على بعير، فقالت سفانة: شكرتك يد افتقرت بعد غنى، ولا ملكتك يد اغتنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة كريم إلا وجعلك سبباً لردها عليه.
وخرجت مع الرهط حتى قدمت الشام، وبينما عدي بن حاتم قاعد في أهله فنظر إلى ظعينة (أي امرأة في هودج) تصوب إلى قومه
فقال: ابنة حاتم؟ قالت سفانة: وعورته! القاطع الظالم، فررت بأهلك وولدك وتركت بنية والدك!
فقال عدي: أي أُخية، لا تقولي إلا خيراً، فوالله ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت، ثم عاد يتساءل: ماذا ترين في أمر هذا الرجل، يعني "رسول الله صلي الله عليه وسلم "؟
قالت سفانة: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تزال في عز اليُمن وأنت أنت،
فقال عدي: والله إن هذا للرأي.
قالت سفانة: لقد فعلت فعلة لو كان أبوك موجوداً لفعلها، ابتدر راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، فقال عدي: إني لأرجو الله أن يجعل يدي في يده.
وانطلق عدي قاصداً مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فلما بلغها، وجده في المسجد، فسلم عليه، فقال له: "من الرجل"؟ فقال: عدي بن حاتم، جئت من نفسي بلا أمان أو كتاب، فأخذ بيده رسول الله {، ومضى به إلى بيته، وفي الطريق لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته تكلمه طويلاً.
فقال عدي: والله ما هذا بملك، فلما دخلا البيت، رمى إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم بوسادة من أدم محشوة ليفاً وقال له: "اجلس عليها"، فقال عدي: لا بل أنت فاجلس عليها، قال: "لا بل أنت"، ثم جلس رسول الله صلي الله عليه وسلم على الأرض.
فقال عدي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال له رسول الله صلي الله عليه وسلم : "إيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسياً"، قال عدي: بلى، فقال: "أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع"؟ فقال عدي: بلى، قال: "فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك"، قال عدي: أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يُجهل.
ثم قال رسول الله {: "لعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم! فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله، ولعله إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت".
ثم قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لعدي: "ما يُفِرُّك! أيفرك أن تقول: لا إله إلا الله؟، فهل تعلم من إله سوى الله؟"" فقال: لا.
ثم قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : "إنما تفر أن يقال: الله أكبر، وهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟" فقال: لا، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : "فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون"، فقال عدي: إني حنيف مسلم، فانبسط وجه رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ثم وكل به رجلاً من الأنصار فنزل عنده.
أخي الحبيب... تأمل معي هذا الموقف العظيم لرسول الله صلي الله عليه وسلم ، واحرص على إعادة قراءته والوقوف عند كل موقف، بل عند كل كلمة، لرسول الله صلي الله عليه وسلم ، فستجد فيها عبراً كثيرة، عض عليها بنواجذك.